من كبار الفقهاء العارفين
الميرزا جواد الملكي التبريزي قدّس سرّه
___________إعداد: أكرم زيدان__________
عالمٌ، فقيه، أصوليٌّ، عارفٌ، أخلاقيٌّ فاضل وورِع، من أكابر العلماء الأتقياء، وأفاضل الأولياء والأوصياء، صاحب مقامات، ودرجات، وكرامات، صائنٌ لنفسِه، حافظٌ لدينه، مخالفٌ لهواه، مطيعٌ لأمر مولاه.
تلك هي شذراتٌ ممّا وُصف به آية الله الملكي التبريزي، أستاذ الإمام الخميني قدّس سرّه في الأخلاق، ومن مؤسّسي الحوزة العلميّة في قمّ المقدّسة. |
الميرزا جواد الملكي التبريزي، واحدٌ من عرفاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام، الذين حلّقوا في سماء الروحانيّات بجناحَي العلم والعمل، العلم المستند إلى الفقاهة، ضمانةِ عدم الوقوع في تلبيسات الشيطان والنّفْس الإمّارة، والعمل الذي يَقرن العبادةَ في المحراب بخدمة الناس ورعاية شؤونهم.
الولادة والنشأة
كانت ولادته في أواخر القرن الثالث عشر الهجري في تبريز من مُدُن آذربايجان في إيران، من عائلة ثريّة ذات عِرق تركي. والدُه الميرزا شفيع المَلَكي كان من التجّار الكبار في زمن الملك القاجاري ناصر الدِّين شاه. وقد تعرّف الوالد لاحقاً إلى العالم الربّاني الميرزا علي نقي الهمداني، ولازَمه، ما شكّل منعطفاً في حياته، فقطع أشواطاً طويلة في تهذيب أخلاقه وتزكية نفسه حتى وُصف بأنّه من أهل الكمال. وقد انعكس ذلك على ولده الميرزا جواد، الذي سلك سبيل العلم الدِّيني منذ صغره.
أمّا والدته فهي علويّةٌ من الذريّة الطاهرة، ولذلك يلقّب بـ«الميرزا»، كذلك يلقّب بـ«الآغا» بمعنى الرجل الجليل القدر، و«المَلَكي» نسبة الى عائلته المعروفة بـ «ملك التجّار»، و«التبريزي» نسبة إلى مولده في تبريز.
نشأته العلميّة
تلقّى دروسه الأولى في المدارس الدينيّة في تبريز، وفي أوائل شبابه قرّر الهجرة إلى النجف الحاضرة العلميّة للشِّيعة، ومتابعة دراسته هناك، فتتلمذ في الفقه على الشيخ رضا الهمداني، وفي أصول الفقه على الآخوند محمّد كاظم الخراساني، أحد أشهر علماء الأصول في العصر الحديث.
كما تتلمذ الميرزا جواد في علم الحديث وعلم الرجال على الميرزا حسين النوري، المعروف بـ «المحدّث النوري» صاحب كتاب (مستدرك وسائل الشيعة).
وقد نال درجة الإجتهاد في الفقه والأصول، ووجد في نفسه ملَكة استنباط الأحكام الشرعيّة منذ وقت مبكر كما صرّح بذلك في بعض كتبه، ثمّ صار بعد ذلك من مدرّسي البحث الخارج بعد استقراره في قمّ المقدّسة.
وبعد إقامته في النجف لِما يقرب من الـ 25 عاماً، رجع في سنة 1321 للهجرة إلى مسقط رأسه تبريز، حيث تصدّى لتدريس العلوم الدينيّة، وإقامة مجالس الوعظ والإرشاد، وإمامة الجماعة. وكان يُقيم درساً في الأخلاق يحضرُه مئات الأشخاص، فصار بذلك النشاط العلمي والتبليغي صاحب المكانة الأولى من بين العلماء في تبريز.
هجرتُه إلى قم
بعد حوالي ثماني سنوات على رجوعه إلى مسقط رأسه تبريز، أي في سنة 1329 للهجرة، اضطربت الأوضاع السياسيّة في إيران، نتيجة النزاع بين أنصار الملكيّة المشروطة [الدستوريّة]، وأنصار الملكيّة المطلقة، وأيضاً بسبب الإحتلال الروسي لجزءٍ من أراضي آذربايجان، فاختلّ الأمن السياسي والإجتماعي في عاصمتها تبريز.
عندها قرّر الميرزا الملكي السفر إلى طهران، فخرج من تبريز سرّاً، وأقام في مدينة الريّ جنوب طهران، عند ضريح السيد عبد العظيم الحسني رضوان الله عليه.
وفي تلك المرحلة، كانت في قم نواةُ حوزة علميّة، ومدرسة تُعرف بـ «الفيضيّة» أسّسها الفقيه الفيلسوف محسن الفيض، المعروف بالفيض الكاشاني، المتوفّى سنة 1091 للهجرة، فسافر إليها الشيخ الملكي، وتصدّى لإقامة صلاة الجماعة في حرم السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام، وأقام علاقات مباشرة مع عموم الناس، واستقطب جمهور المؤمنين فيها، من خلال مجالس الوعظ والإرشاد، ودروس الأخلاق التي كان يُلقيها في «المدرسة الفيضيّة»، حيث كان يجتمع الناس فيها جنباً إلى جنب مع طلّاب العلوم الدينية.
ومع مرور الأيام والسنين، كانت لشخصيّة العارف الملكي الروحيّة، ومواعظه البليغة الأثر الطيّب في نفوس القُمِّيّين، فاجتمع الناس حوله ورجعوا إليه في مسائل التقليد، وصار الشخصيّة الأولى في قمّ دينيّاً واجتماعيّاً، وكان الناس يجتمعون في منزله في أيام المناسبات والأعياد.
وأمام هذه الأجواء العلميّة المشفوعة بالروحانيّة التي أشاعها آية الله الملكي، بادر الشيخ عبد الكريم الحائري مؤسّس الحوزة العلميّة في مدينة «آراك»، للإنتقال مع طلّابه إلى قم سنة 1340 للهجرة، وصارت أفواج طلبة العلوم الدينيّة تفِد من أنحاء إيران والحواضر الشيعيّة، إلى المدرسة الفيضيّة وما حولها، ما جعل المدينة تأخذ دورها الموعود على لسان أئمّة الهدى عليهم السلام، بأنّ العلم يظهر فيها ويفيض إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب.
من تلامذته
تتلمذ على يدَي الميرزا الملكي كبار الشخصيات العلميّة والأخلاقيّة، وفي مقدّمتهم الإمام الخميني رضوان الله عليه الذي حضر درسه في الأخلاق.
ومن طلابه المبرّزين: الشيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني المعروف بالكُمباني، الشيخ عبد الله شالجي التبريزي، السيّد حسين الفاطمي القمّي، الشيخ محمّد حسين البهاري، الشيخ عباس الطهراني، السيّد محمود المدرّسي، السيّد محمود اليزدي، الشيخ علي الهمداني.
مؤلّفاته
ترك الميرزا جواد الملكي آثاراً تعبّر عن بُعدَيه العلميّ والأخلاقي، ففي جانب الفقه له كتابٌ في الفقه الإستدلالي وهو مخطوطٌ لم يُطبَع، ورسالة في أحكام الحجّ، وحاشية على (الغاية القصوى)، وهي الترجمة الفارسية لكتاب (العروة الوثقى).
وفي السَّير والسُّلوك له ثلاثة كتب مهمّة، حَظِيت وتحظى باهتمام أهل التهذيب والتقرّب إلى الله عزّ وجلّ، وهذه الكتب الثلاثة هي: (أسرار الصلاة)، و(المراقبات في أعمال السنة)، و(السير إلى الله) وتُعرَف بـ (رسالة لقاء الله) أو (الرسالة اللقائيّة).
وقد بيّن الميرزا جواد قدّس سرّه في هذه الكتب الثلاثة كلّ ما يحتاجة طالبُ القُرب إلى الله عزّ وجلّ، وحقيقةَ وأدوات السّير إليه جلّ جلالُه، ومعنى لقاء الله، ومحوريّة الصلاة في هذا المضمار، فمثلما أنّ الصلاة هي عمود الدِّين، كذلك أيضاً هي معراج المؤمن في سيره إلى الله تبارك وتعالى.
أقوال العلماء بحقّه
تعكس آراء العلماء المكانة الرفيعة للميرزا الملكي التبريزي، لا سيّما في عالَم الأخلاق والعرفان النّظري والعملي، كما لا تغفل جانب الفقاهة التي بلغ فيه المراتب العليا وإن لم يتصدَّ للمرجعية في التقليد، ومن تلك الآراء:
1- الإمام الخميني قدّس سرّه، حيث ذكره بالثّناء والتبجيل في مواضع كثيرة من مؤلّفاته، وحثَّ على قراءة كُتُبه، من ذلك قوله في (أسرار الصلاة): «ومن العلماء المعاصرين طالع كُتُب الشيخ الجليل القدر، العارفِ بالله، الحاج ميرزا جواد التبريزي قدّس سرّه فلعلّك تخرج عن هذا التأبّي والتعسّف إن شاء الله تعالى».
2- الشيخ آغا بزرك الطهراني صاحب موسوعة (الذريعة إلى تصانيف الشيعة): «هو الشيخ الميرزا جواد آقا بن الميرزا شفيع الملكي التبريزي نزيل قم. عالمٌ فقيه، وأخلاقي فاضل، وورِعٌ ثقة، كان في النجف الأشرف، اشتغل فيها على أعلام الدِّين، فقد أخذ مراتب السلوك عن الأخلاقي الشهير المولى حسين قلي الهمداني، وأكمل نفسه عليه ".." وعاد إلى إيران في سنة 1320 للهجرة. فاستوطن دار الإيمان قم، وقام بوظائف الشرع، وكان مروّجاً للدّين، مُربّياً للمؤمنين إلى أن توفّي يوم عيد الأضحى سنة 1343 للهجرة».
3- العلّامة محمد علي مدرّس في (ريحانة الأدب): «الميرزا جواد الملكي، من أكابر علماء الأخلاق والعرفان في تبريز في عصرنا الحاضر، عُرف بالملكي لإنتسابه الى عائلة ملك التجّار التبريزي. وكان يعقد مجالس الذكر والوعظ في داره بتبريز لسنوات متتالية».
4- العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي صاحب (تفسير الميزان) في تقريظِه لكتاب (المراقبات): «أمّا بعد، فهذه أسطرٌ أعلّقها على كتاب (أعمال السنة) للعَلَم الحجّة الآية، المرحوم الحاج الميرزا جواد آقا الملكي التبريزي قدّس الله روحه، ولست أريد بها أن أمدح هذه الصحيفة الجليلة، أو أُثني على مؤلّفها العظيم، فليست هي إلّا بحراً زاخراً لا يُوزن بمَنّ ولا صاع، ولا هو إلّا علَماً شامخاً لا يقدّر بشبرٍ أو ذراع، وكفى بالقصور عذراً، وباليأس عن البلوغ راحة».
5- السيّد محمّد الرّازي صاحب كتاب (آثار الحجّة)، وهو من العلماء المعاصرين للمترجَم له: «من الحوادث المهمّة التي شهدتها الحوزة العلميّة في قم في أوائل تأسيسها، والتي يمكن عدّها من الخسائر الفادحة والحوادث المؤلمة للعالم الإسلامي، هي رحيل حجّة الإسلام والمسلمين، آية الله في العالمين، العالم الرباني، والكامل الصمداني، جمال السالكين، وقطب العارفين، الميرزا جواد الملكي التبريزي، في الحادي عشر من ذي الحجة سنة 1343 للهجرة، وأظلمت الحوزة العلميّة بغروب نور وجوده. وكان الفقيد من الشخصيات اللّامعة، ومن العلماء المتأخّرين والمعاصرين لنا، ويُمكن عدّه من نوادر الزمان في السلوك والعرفان، والخُلُق والإيمان». يضيف: «وكان يصوم الأشهر الثلاثة: رجب، وشعبان، وشهر رمضان. وكان له درس أخلاق لعموم الناس في المدرسة الفيضيّة. والآن وبعد مرور ثلاثين عاماً على رحيل هذا العالم الرّبّاني، ما زال يتردّد بين جدران المدرسة الفيضيّة وسمائها صدى صوتِه الحزين، وبكائه، ومناجاته، ودعواته بقلب محروق: أللّهمّ ارزُقنا التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإستعداد للموت قبل حلول الفوت».
6- العلّامة السيد محمّد حسين الطهراني: «كان آية الله الأعظم، الميرزا جواد الملكي التبريزي -أعلى الله مقامه الشريف- من أكابر العلماء الأتقياء، وأفاضل الأولياء والأوصياء، وصاحب مقامات ودرجات وكرامات».
7- العلّامة الشيخ حسن زاده الآملي: «العارف الإلهي، السالك المستقيم، المحقّق الربّاني، الفقيه الصمداني، مربّي النفوس، آية الله الشيخ جواد الملكي التبريزي قدّس سرّه من أعاظم العلماء الإلهيّين في هذا العصر، وكان –بحقّ- من علماء الفقه، والأصول، والأخلاق، والحكمة، والعرفان».
8- السيد أحمد الفهري: «كان المرحوم العارف بالله آية الله الميرزا جواد الملكي قدّس سرّه من الرجال المتفوّقين في هذا الطريق [طريق العرفان]، وكان له قصب السبق في هذا الميدان على جميع المتسابقين. وهذا الرجل العظيم إضافة إلى مقامه العرفاني العالي، كان يُعدّ أيضاً من أعظم الفقهاء، صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه».
سيرتُه العرفانيّة
إضافة إلى تأثّره منذ النشأة بوالده الفاضل الميرزا شفيع، الذي كان بدوره ملازماً للميرزا علي نقي الهمداني في تبريز، فقد كان التأثير الكبير على سلوك الميرزا جواد لأستاذه في الأخلاق والعرفان في النجف، آية الله الملّا حسين قلي الهمداني، من تلامذة الشيخ الأنصاري، وفي هذا المجال تُروى قصّة طريفة عن اللّقاء الأوّل للتلميذ بأستاذه، وكيف بادره باختبار عَمَليّ، ودرسٍ في كسرِ حجاب النَّفْس.
فقد تقدّم أنّ الميرزا جواد كان من عائلة ثريّة، وكان شابّاً وسيمَ الطَّلعة، تبدو عليه سيماءُ الثراء والتَّرَف، وعند دخوله مجلس الملّا حسين قلي ألقى التّحيّة وجلس جانباً، فلمّا وقعت نظراتُ الملّا الهمداني عليه، بادره بالطّلب إلى تهيئة النارجيلة والإتيان بها إليه، فما كان من الميرزا إلّا أن بادر إلى تلبية طلب الملّا الهمداني.
وهكذا بدأ الميرزا جواد أولى خطواته في عالم السلوك، وواظب على حضور دروس الأخلاق للملّا الهمداني لمدّة سنتين، ثمّ اشتكى إليه حالته الروحيّة وإحساسه بعدم انتفاعه من هذه الدروس، فقال له أستاذه: «كيف ترجو أن تتقدّم روحيّاً وأنت تتخطّى أعناق الحاضرين في مجلس الدرس، لتجلس في صدر المجلس؟! إنّك لن تجد الرُّقيّ الروحي الذي تَنشده إلّا بعد أن تتواضع لِمَن حولك، وتشدّ قياطين أحذيتهم».
ويبدأ الميرزا مرحلة التحوّل، ويطلب من أستاذه برنامجاً عمليّاً، فيقول له مرشداً: «ما عليك سوى الإلتزام الكامل بما جاء في كتاب (مفتاح الفلاح) للشيخ البهائي»، وهو كتابٌ فيه ما ينبغي للمؤمن العمل به من الصّلوات والأدعية لجميع ساعات النهار واللّيل.
وكان العارف الملكي شديد التأثّر بأخلاق أستاذه الأنصاري الهمداني، يُكثر ذكره والثناء عليه، وينقل في كُتبه وصاياه، وتعليماته، وأجوبتَه على أسئلته السلوكيّة.
من صفاته وأخلاقه
كان الميرزا جواد قمّةً في الأخلاق، بحيث أثّرت شخصيّتُه وأخلاقه بجميع مَن عرفه وسمع به، فكان الناس يطلبون منه الدعاء لهم، وكان صاحبَ كراماتٍ ومقاماتٍ عالية.
وهذه صوَرٌ ينقلها تلامذتُه:
* كان مواظباً على زيارة السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام في كلّ يوم، على الرغم من إصابته بمرض القلب.
* كان إذا مرض أحد تلاميذه أو أصدقائه يذهب لعيادته بعد خروجه من الحرَم، ويجلس عند رأسه ويقرأ له سورة الفاتحة سبع مرّات، ثمّ يرجع إلى داره.
* كنّا نجتمع وسائر تلاميذه في كلّ يوم عند طلوع الشمس في منزله، فَيَعِظُنا بكلماته الناريّة، بنحو كان يضجّ فيه الحاضرون بالبكاء بصوت مرتفع.
* لقد كان شخصاً عظيماً وجليلاً جدّاً، وكأنّ هالة من النور كانت تُحيط مجالس وعظِه، بحيث كان مستمعو مواعظه يغفلون عن أنفسهم لشدّة انجذابهم إلى حديثه وتأثّرهم به.
وفاته
توفّي الميرزا جواد الملكي التبريزي قدّس سرّه في مدينة قم، في يوم عيد الأضحى سنة 1343 للهجرة، وذلك بعد أن تهيّأ لصلاة الظّهرَين، ومع تكبيرة الإحرام لها عرجت روحه الزكيّة إلى بارئها جلّ جلاله، ودُفن في مقبرة «شيخان»، قرب حرم السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام.
مختاراتٌ من كلامه
أثرُ القلبِ على أعمال الإنسان: «إنّ جميع حركات الإنسان وسَكَنَاته الإختيارية منشأُها عزمُه وإرادته، وحبُّه وبغضُه، واستشعارُه السعادة والشقاوة، وبالجملة؛ جميع حركات الأعضاء وسكناتها ناشئة من أثر أحوال القلب وصفاته.
وأحوال القلب أيضاً منشأُها إمّا ما يؤثّر فيه من الظّاهر من أعمال الجوارح لا سيّما الحواسّ، أو من الباطن، كالخيال، والشهوة، والغضب، والأخلاق المركّبة من مزاج الإنسان، فإنّه إذا أدرك بحواسّه شيئاً حصل منه أثرٌ في القلب، إنْ خيراً فَنورٌ وصفاء، وإنْ شرّاً فظلمة وكدَر، وكذا إذا هاجت الشهوة مثلاً بكثرة الأكل وبقوّة المزاج، فإنّ لها أثراً في القلب، وهذه الآثار تبقى وتؤثّر في انتقال الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقالها ينتقل القلب من حالٍ إلى حال، والقلب دائماً في التغيّر والتأثّر ممّا يرِد عليه من آثار الأسباب المذكورة».
نموذج من التَّدَبُّر في القرآن: «إذا قرأ الإنسان مثلاً في سورة الواقعة ﴿أفرأيتم الماء الذي تشربون﴾ الواقعة:68، فَلَهُ أن لا يقتصر نظرُه إلى طعْم الماء، فليتدبّر في ذلك في وجوه، ومن ذلك: أن يتدبّر في تكوّن الأشياء منه، مثلاً يتفكّر أنّ الماء الواحد كيف يكون نباتاً وحبّاً وحيواناً وإنساناً.
ثمّ يتفكّر في أجزاء الإنسان، أجزائه الظاهرة؛ من العَظْم، واللّحم، وغيرها، والبصر، والسمع وغيرها، وقواه، وأخلاقه الكريمة، وأخلاقه الرّذيلة وآثارها في الدّنيا والآخرة ".." ثمّ يرجع إلى مبدأ الماء، فيرى كما في القرآن أنّه من آثار رحمة الله، ثمّ ينظر إلى أنّ الرحمة من الصّفات، ويرى في الصفات المتّصف.
وهذا النوع من التدبّر من مبادىء علم المُكاشَفة. ولعلّه إذا استغرقَ المتدبّرُ فكرَه في ذلك، يرى مصداقَ قول الإمام الصادق عليه السلام: ما رأيتُ شيئاً إلّا ورأيتُ الله قبلَه ومعه وبعدَه».