هذا القرآن الإلهي المحمدي، هو الدين، والصراط والسبيل، والمنهاج والشريعة. على أساسه يجب أن تبنى الحياة الدنيا، وهو محور بناء الآخرة. نعيم الجنة ترغيبه، وشقاء النار ترهيبه. عليون ذراه التي إليها ندب.. وأسفل سافلين الهاوية التي منها حذر. في آياته تتجلى صفات الله تعالى وأسماؤه الحسنى، ولذلك كانت مكارم الأخلاق المحمدية، تجسيده والتجلي.
بسم الله الرحمن الرحيم
موانع تهذيب النفس
الدرس التاسع
ضعف العلاقة بالقرآن الكريم - 2
الشيخ حسين كوراني
الشام، حوزة الإمام الخميني- الأحد 16 ع1 1424 هجرية
* متعدد الأبعاد:
حدبث القرآن الكريم ذو شجون،متعدد الأبعاد، فهو نور الله في الأرض، والهدى والحق والفرقان، رسالة الله التي جسدها أعظم الأنبياء، والثقل الأكبر الذي بلغت عظمة أهل البيت حدوده، فكانوا كما بلغ الحبيب المصطفى القرآن الناطق والثقل الأصغر.
هذا القرآن الإلهي المحمدي، هو الدين، والصراط والسبيل، والمنهاج والشريعة.
على أساسه يجب أن تبنى الحياة الدنيا، وهو محور بناء الآخرة.
نعيم الجنة ترغيبه، وشقاء النار ترهيبه.
عليون ذراه التي إليها ندب.. وأسفل سافلين الهاوية التي منها حذر.
في آياته تتجلى صفات الله تعالى وأسماؤه الحسنى، ولذلك كانت مكارم الأخلاق المحمدية، تجسيده والتجلي.
من أراد أن يعرف الله تعالى وأقرب الخلق إليه والأمثل بعدهم فالأمثل، فالقرآن هو المورد والمصدر.
ومن أراد أن يعرف أسرار الخلق والإيجاد، وعوالم الغيب والشهادة، والماضي والمستقبل والحاضر، فليول وجه القلب شطر كتاب الله تعالى.
ومن أراد أن يعرف السنن الإلهية في الإجتماع والفرد، أو يعرف أسرار النفس البشرية التي هي -بالفلاح -أعظم من الدنيا والآخرة، أو يعرف دقائق أطروحة تهذيب النفس، وتزكيتها، وتجنب مزالق التدسية، فليس أمامه إلا كتاب الله عز وجل.
الوجود - ولو بالمجاز- واحد، والموجد واحد، وكتاب الوجود واحد وهو القرآن.
منه تستمد السنة المطهرة شرعيتها.
وهو وحده المقياس بين العقل السليم ووهم العقل: العقل المدعى.
والإجماع على خلافه هباء.
إنه سبيل الله الذي استشهد فيه الأنبياء والأولياء، من آدم عليه السلام إلى المصطفى الحبيب وآله الأطهار.
وليس صراع الحق والباطل عبر القرون والأجيال، ما مضى من حلقاته، و ما يأتي، إلا في سياق "ألحمد لله رب العالمين" "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين".
وهو نفسه سياق: " ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون" سياق : "يريدون ليطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".
وهو بعد المرجع في كل ماتستدعيه المواجهة الدائمة الدامية في هذا الصراع، في البعد النفسي والتربوي والتعليمي والفكري والسياسي والأمني والعسكري الفردي منها والإجتماعي،وماتستدعيه أيضاً في مسار تظور العلوم الإختبارية والتجريبية .
أو ليس "تبياناً لكل شيء" ؟
وما المسوِّغ لتقييد المطلق؟[1]
· عن أمير المؤمنين عليه السلام:
" إن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به"[2]
* وهم العلاقة
ليس ضعف العلاقة بالقرآن الكريم منحصراً بالإعراض عن التفاعل معه، بل هو يشمل بالتأكيد التعامل الخاطيء معه، لأن ذلك يؤدي إلى هجر حقيقة القرآن والإكتفاء بوهم العلاقة به، وهو أشد أوجه ضعف العلاقة بالقرآن الكريم خطورة، فهو كالجهل المركب.
قد استعرض المفسر الطليعي العلامة الطباطبائي بعض أوجه التعامل الخاطيء مع كتاب الله تعالى، التي يُظن في كل مورد منها أنه مظهر العلاقة بكتاب الله سبحانه، إلا أنه في الحقيقة مظهر وهم العلاقة، وأقتطف من كلامه مايلي:
*المحدِّثون:
" فأما المحدثون، فاقتصروا على التفسير بالرواية عن السلف من الصحابة والتابعين فساروا وجدوا في السير حيث ما يسير بهم المأثور، ووقفوا فيما لم يؤثر فيه شئ، ولم يظهر المعنى ظهوراً لا يحتاج إلى البحث أخذاً بقوله تعالى : ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية ) آل عمران - 7 . وقد اخطأوا في ذلك فان الله سبحانه لم يبطل حجة العقل في كتابه، وكيف يعقل ذلك وحجيته إنما تثبت به! ولم يجعل حجية في أقوال الصحابة والتابعين وأنظارهم على اختلافها الفاحش، ولم يدع إلى السفسطة بتسليم المتناقضات والمتنافيات من الأقوال، ولم يندب إلا إلى التدبرفي آياته، فرفع به أي اختلاف يتراءى منها، وجعله هدى ونوراً وتبياناً لكل شيء، فما بال النور يستنير بنور غيره! وما شأن الهدى يهتدى بهداية سوا ! وكيف يتبين ما هو تبيان كل شيء بشيء دون نفسه".
*المتكلمون:
". واما المتكلمون فقد دعتهم الأقوال المذهبية على اختلافها أن يسيروا في التفسير على ما يوافق مذاهبهم بأخذ ما وافق، وتأويل ما خالف، على حسب ما يجوزه قول المذهب.
واختيارُ المذاهب الخاصة واتخاذ المسالك والآراء المخصوصة، وإن كان معلولاً لاختلاف الأنظار العلمية أو لشيء آخر كالتقاليد والعصبيات القومية، وليس ههنا محل الإشتغال بذلك، الا أن هذا الطريق من البحث أحرى به أن يسمى تطبيقاً لا تفسيراً، ففرق بين أن يقول الباحث عن معنى آية من الآيات : ما ذا يقول القرآن ؟ أو يقول : ما ذا يجب أن نحمل عليه الآية؟ فإن القول الأول يوجب أن ينسى كل أمر نظري عند البحث، وأن يُتكأ على ما ليس بنظري، والثاني يوجب وضع النظريات في المسألة وتسليمها وبناء البحث عليها، ومن المعلوم أن هذا النحو من البحث في الكلام ليس بحثا عن معناه في نفسه".
*الفلاسفة:
" وأما الفلاسفة، فقد عرض لهم ما عرض للمتكلمين من المفسرين من الوقوع في ورطة التطبيق وتأويل الآيات المخالفة بظاهرها للمسلمات في فنون الفلسفة بالمعنى الأعم، أعني : الرياضيات والطبيعيات والالهيات والحكمة العملية، وخاصة المشائين، وقد تأولوا الآيات الواردة في حقائق ما وراء الطبيعة، وآيات الخلقة، وحدوث السماوات والأرض، وآيات البرزخ وآيات المعاد، حتى أنهم ارتكبوا التأويل في الآيات التي لا تلائم الفرضيات والأصول الموضوعة، التى نجدها في العلم الطبيعي: من نظام الأفلاك الكلية والجزئية، وترتيب العناصر والأحكام الفلكية والعنصرية، إلى غير ذلك، مع انهم نصوا على أن هذه الأنظار مبتنية على أصول موضوعة لا بينة ولا مبينة".
*المتصوفة:
" وأما المتصوفة، فإنهم لاشتغالهم بالسير في باطن الخلقة، واعتنائهم بشأن الآيات الأنفسية دون عالم الظاهر وآياته الآفاقية اقتصروا في بحثهم على التأويل، ورفضوا التنزيل، فاستلزم ذلك اجتراء الناس على التأويل، وتلفيق جمل شعرية والاستدلال من كل شيء على كل شيء، حتى آل الامر إلى تفسير الآيات بحساب الجُمَّل، ورد الكلمات إلى الزبر والبينات والحروف النورانية والظلمانية إلى غير ذلك.
ومن الواضح أن القرآن لم ينزل هدى للمتصوفة خاصة، ولا أن المخاطبين به هم أصحاب علم الأعداد والأوفاق والحروف، ولا أن معارفه مبنية على أساس حساب الجُمَّل الذي وضعه أهل التنجيم بعد نقل النجوم من اليونانية وغيرها إلى العربية.
نعم قد وردت روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمه أهل البيت عليهم السلام كقولهم : إن للقرآن ظهراً وبطناً، ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن أو إلى سبعين بطناً. الحديث.
لكنهم عليهم السلام اعتبروا الظهر كما اعتبروا البطن، واعتنوا بأمر التنزيل كما اعتنوا بشأن التأويل، وسنبين في أوائل سورة آل عمران ان شاء الله : أن التأويل الذي يراد به المعنى المقصود الذي يخالف ظاهر الكلام من اللغات المستحدثة في لسان المسلمين بعد نزول القرآن وانتشار الإسلام ، وأن الذي يريده القرآن من لفظ التأويل فيما ورد فيه من الآيات ليس من قبيل المعنى والمفهوم".
* الماديون:
"وقد نشأ في هذه الأعصار مسلك جديد في التفسير، وذلك أن قوماً من منتحلي الإسلام في أثر توغلهم في العلوم الطبيعية وما يشابهها، المبتنية على الحس والتجرب ، والإجتماعية المبتنية على تجربة الإحصاء، مالوا إلى مذهب الحسيين من فلاسفة أوروبا السابقين، أو إلى مذهب أصالة العمل ( لا قيمة للإدراكات إلا ترتب العمل عليها بمقدار تعينه الحاجة الحيوية بحكم الجبر ) . فذكروا : ان المعارف الدينية لا يمكن أن تخالف الطريق الذي تصدقه العلوم وهو أن : ( لا أصالة في الوجود إلا للمادة وخواصها المحسوسة ) فما كان الدين يخبر عن وجوده مما يكذب العلوم ظاهره كالعرش والكرسي واللوح والقلم يجب أن يؤل تأويلاً. وما يخبر عن وجوده مما لا تتعرض العلوم لذلك كحقائق المعاد يجب أن يوجه بالقوانين المادية. وما يتكيء عليه التشريع من الوحي والملك والشيطان والنبوة والرسالة والإمامة وغير ذلك، إنما هي أمور روحية، والروح مادية ونوعٌ من الخواص المادية، والتشريع نبوغ خاص اجتماعي يبني قوانينه على الافكار الصالحة، لغاية إيجاد الاجتماع الصالح الراقي . ذكروا : أن الروايات ، لوجود الخليط فيها لا تصلح للإعتماد عليها، إلا ما وافق الكتاب، وأما الكتاب فلا يجوز أن يبنى في تفسيره على الآراء والمذاهب السابقة المبتنية على الإستدلال من طريق العقل الذي أبطله العلم بالبناء على الحس والتجربة، بل الواجب أن يستقل بما يعطيه القرآن من التفسير إلا ما بينه العلم. هذه جمل ما ذكروه أو يستلزمه ما ذكروه، من اتباع طريق الحس والتجربة، فساقهم ذلك إلى هذا الطريق من التفسير.
ولا كلام لنا ههنا في أصولهم العلمية والفلسفية التي اتخذوها أصولاً وبنوا عليها ما بنوا. وإنما الكلام في أن ما أوردوه على مسالك السلف من المفسرين ( أن ذلك تطبيق وليس بتفسير ) وارد بعينه على طريقتهم في التفسير، وإن صرحوا أنه حق التفسير الذي يفسر به القرآن بالقرآن. ولو كانوا لم يحملوا على القرآن في تحصيل معاني آياته شيئاً، فما بالهم يأخذون الأنظار العلمية مسلمة لا يجوز التعدي عنها ؟ فهم لم يزيدوا على ما أفسده السلف إصلاحا.
* وقفة مع الجميع:
وانت بالتأمل في جميع هذه المسالك المنقولة في التفسير تجد : أن الجميع مشتركة في نقص- وبئس النقص- وهو تحميل ما أنتجته الأبحاث العلمية أو الفلسفية من خارج، على مداليل الآيات ، فتبدل به التفسير تطبيقاً وسمي به التطبيق تفسيراً، وصارت بذلك حقائق من القرآن مجازات ، وتنزيل عدة من الآيات تأويلات. ولازم ذلك ( كما أومأنا إليه في أوائل الكلام ) أن يكون القرآن الذي يعرف نفسه ( بأنه هدى للعالمين ونور مبين وتبيان لكل شئ ) مهدياً إليه بغيره، ومستنيراً بغيره، ومبيناً بغيره، فما هذا الغير! وما شأنه! وبماذا يهدي إليه! وما هو المرجع والملجأ إذا اختلف فيه ![3]
ويخلص قدس سره إلى النتيجة التاليةالتي يوردها في سياق آخر فيقول:
" فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود وأن البيان الإلهي والذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه أي أنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى وأنه نور وأنه تبيان لكل شيء، مفتقرا إلى هادٍ غيره ومستنيرا بنور غيره ومبيناً بأمر غيره".[4]
***
أسئلة حول الدرس
1- تحدث عن جامعية القرآن الكريم ومرجعيته في مختلف الحقول المعرفية؟
2- لضعف العلاقة بالقرآن الكريم وجهان أحدهما ضعف الإهتمام به، فماهو الثاني؟
3- ماهو الخطأ الذي يتهدد المحدثين في مجال التعامل مع القرآن؟
4- وماهو الخطر الذي يواجه المتكلمين والفلاسفة؟
5- وماهو الخطر الأكثر انتشاراً في العصور المتأخرة؟
--------------------------------------------------------------------------------
[1] يراجع حول ذلك"تفسير الميزان،للعلامة الطباطبائي
[2] نهج البلاغة.، عبده 1/55 من كلام له عليه السبلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا.
[3] تفسير الميزان 1/5-9.
[4] تفسير الميزان 3/86.