أحسن الحديث

أحسن الحديث

منذ يوم

حرّيةُ الإنسان


حرّيةُ الإنسان

لا حرّيّة أمام كلمة الحقّ

ـــــــــــــــــــ العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائي قدّس سرّه ـــــــــــــــــــ

يبحث العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائي في الجزء الرّابع من موسوعته القيّمة (تفسير الميزان) مسألةَ حرّية الإنسان في أصالة وجودها في تكوينه، والعوامل الحاكمة عليها والمقيّدة لها، من طبيعية، أو اجتماعية، خالصاً إلى أنّ لا حرية للإنسان في مقابل ربّه عزّ وجلّ، وأنّ ذلك هو ما يعطيه الحرّية أمام الآخرين. 

 

الإنسان بحسب الخِلقة موجود ذو شعور وإرادة، له أن يختارَ لنفسه ما يشاء من الفعل، وبعبارة أخرى: له في كلّ فعل يقف عليه، أن يختار جانبَ الفعل، وله أن يختار جانب التّرك، فكلُّ فعل من الأفعال المُمكنةِ الإتيانُ إذا عُرض عليه، كان هو بحسب الطّبع واقفاً بالنّسبة إليه على نقطة يلتقي فيها طريقان: الفعل والتّرك، فهو مضطرّ في التلبُّس والاتّصاف بأصل الاختيار، لكنّه مختارٌ في الأفعال المُنتسِبة إليه، الصّادرة عنه باختياره، أي إنّه مُطلَق العنان بالنّسبة إلى الفعل والتّرك بحسب الفطرة، غيرُ مقيّد بشيء من الجانبَين ولا مغلول، وهو المراد بحرّية الإنسان تكويناً.

لازمُ هذه الحرّية التّكوينية حريةٌ أخرى تشريعية يتقلّد بها في حياته الاجتماعية، وهو أنّ له أن يختار لنفسه ما شاء من طُرق الحياة، ويعمل بما شاء من العمل، وليس لأحد من بني نوعه أن يستعليَ عليه، فيستعبدَه ويتملّكَ إرادته وعمله، فيحمل بهَوى نفسه عليه ما يكرهُه، فإنّ أفراد النّوع أمثالٌ، لكلٍّ منهم ما لغيره من الطّبيعة الحُرّة، قال تعالى:

- ﴿..وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ..﴾ آل عمران:64.

- وقال: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ..﴾ آل عمران:79.

 

الأسباب الكونية، والحياة الاجتماعيّة

هذا ما للإنسان بالقياس إلى أمثاله من بني نوعه، وأمّا بالقياس إلى العِلل والأسباب الكونية التي أَوجدت الطّبيعةَ الإنسانية فلا حرّية له قِبالُها، فإنّها تملِكه وتحيط به من جميع الجهات وتقلبه ظهراً لبطن، وهي التي بإنشائها ونفوذ أمرها فعلت بالإنسان ما فعلت، فأظهرتْه على ما هو عليه من البُنيان والخواصّ من غير أن يكون له الخِيَرةُ من أمره فيَقبل ما يحبّه ويَرُدّ ما يكرهه، بل كان كما أُريد [له] لا كما أراد، حتىّ أنّ أعمالَ الإنسان الاختيارية - وهي مَيدان الحرّية الإنسانية - إنّما تطيع الإنسان فيما أذِنت فيه هذه العللُ والأسباب، فليس كلّ ما أحبّه الإنسان وأراده بواقع، ولا هو في كلّ ما اختاره لنفسه بموفَّق له، وهو ظاهر.

وهذه العلل والأسباب هي التي جهّزت الإنسانَ بجهازات تُذَكِّرُه حوائجَه ونواقص وجوده، وتبعثُه إلى أعمال فيها سعادتُه وارتفاع نواقصه وحوائجه، كـ «الغَاذِية» مثلاً، التي تذكّره الجوعَ والعطش، وتهديه إلى الخبز والماء لتحصيل الشّبع والرّي، وهكذا سائر الجهازات التي في وجوده.

ثمّ إنّ هذه العللَ والأسباب أوجبتْ إيجاباً تشريعياً على الإنسان الفرد أموراً ذاتَ مصالح واقعيّة لا يسَعُهُ إنكارُها ولا الاستنكافُ بالاستغناء عنها، كالأكل، والشّرب، والإيواء، والاتّقاء من الحرّ والبرد، والدّفاع تجاه كلّ ما يضادّ منافع وجوده.

ثمّ أفطَرتْه [العلل والأسباب] بالحياة الاجتماعية، فأذعنَ بوجوب تأسيس المجتمع المنزلي والمدني، والسّير في مسير التّعاون والتّعامل، ويضطرّه ذلك إلى الحرمان عن موهبة الحرّية من جهتَين:

إحداهما: أنّ الاجتماع لا يتمّ من الفرد إلّا بإعطائه الأفرادَ المتعاونين له [معه] حقوقاً متقابلة محترمة عنده، ليعطوه بإزائها حقوقاً يحترمونها، وذلك بأنْ يعملَ للنّاس كما يعملون له، وينفعَهم بمقدار ما ينتفعُ بهم، ويُحرَم عن الانطلاق والاسترسال في العمل على حسب ما يَحرمُهم، فليس له أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، بل هو حرّ فيما لا يزاحم حرّية الآخرين، وهذا حِرمانٌ عن بعض الحرّية للحصول على بعضها.

والثانية: أنّ المجتمع لا يقوم له صُلبٌ دون أن تجريَ فيه سننٌ وقوانين يتسالم عليها الأفراد المجتمعون أو أكثرُهم، تضمن تلك السّنن والقوانين منافعَهم العامّة بحسب ما للاجتماع من الحياة الرّاقية أو المنحطّة الرّديّة، وتُستحفظ بها مصالحهم العالية الاجتماعية.

 

لا حرّيةَ لأحدٍ قِبال كلمة الحقّ

من المعلوم أنّ احترام السّنن والقوانين يَسلُب الحرّية عن المجتمعين في مواردها، فالذي يستنّ سُنّة أو يقنّ قانوناً، سواء كان هو عامّة المجتمعين أو المندوبين منهم، أو السّلطان، أو كان هو الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله - على حسب اختلاف السّنن والقوانين – يَحرِمُ الناسَ بعض حرّيتهم ليحفظ به البعضَ الآخر منها، قال الله تعالى:

- ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ..﴾ القصص:68.

- وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ الأحزاب:36.

فتلخّصَ أنّ:

1) الإنسان إنّما هو حُرّ بالقياس إلى أبناء نوعه فيما يقترحونه لهوًى من أنفسهم، وأمّا بالنّسبة إلى ما تقتضيه مصالحُه المُلزِمة - وخاصّة المصالح الاجتماعية العامّة على ما تهديه إليها وإلى مقتضياتها العللُ والأسباب - فلا حرّية له البتّة.

2) وأنّ الدّعوةَ إلى سُنّةٍ أو أيّ عمل يوافق المصالحَ الإنسانية من ناحية القانون أو مَن بيده إجراؤه، أو النّاصح المتبرّع الذي يأمر بمعروف أو ينهى عن منكر متمسّكاً بحجّة بيّنة، [ليست] من التّحكُّم الباطل وسلبِ الحرّية المشروعة في شيء.

ثمّ إنّ العِلل والأسباب المذكورة وما تهدي إليه من المصالح مصاديقُ لإرادة الله سبحانه أو إذنه - على ما يهدي إليه ويبيّنه تعليم التّوحيد في الإسلام – فهو سبحانه المالكُ على الإطلاق، وليس لغيره إلّا المملوكيّةُ من كلّ جهة، ولا للإنسان إلّا العبوديةُ محضاً، فمالكيّته المطلقة تَسلُب أيّ حرّية متوهّمة للإنسان بالنّسبة إلى ربّه، كما أنّها هي تعطي [الأنسان] الحرّية بالقياس إلى سائر بني نوعه، كما قال تعالى: ﴿..أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ..﴾ آل عمران: 64.

فهو سبحانه الحاكمُ على الإطلاق، والمُطاع من غير قيد وشرط، كما قال: ﴿..إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ..﴾ الأنعام:57.

وقد أعطى سبحانه حقّ الأمر والنّهي والطّاعة لرُسُله، ولأُولي الأمر، وللمؤمنين من الأمّة الإسلاميّة، فلا حرّيةَ لأحدٍ قِبال كلمة الحقّ التي يأتون بها ويدعون إليها، قال تعالى: ﴿..أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ..﴾ النساء:59.

وقال تعالى: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ..﴾ التوبة:71.

 

العقيدة ليست عملاً اختياريّاً

في سياق أحد أبحاثه القرآنية (ما هو الطريق إلى التحوّل والتكامل في المجتمع الإسلامي؟) يقول العلّامة الطباطبائي رحمه الله:

«عرفتَ أنّ التّوحيد أساسُ جميع النّواميس الإسلاميّة، ومع ذلك كيف يُمكن أن يشرّع حريّة العقائد؟ وهل ذلك إلّا التّناقض الصّريح؟ فليس القول بحرّيّة العقيدة إلّا كالقول بالحرّيّة عن حكومة القانون في القوانين المدنيّة بعينه.

وبعبارة أخرى، العقيدة بمعنى حصول إدراك تصديقيّ ينعقد في ذهن الإنسان ليس عملاً اختياريّاً للإنسان حتّى يتعلّق به منع أو تجويز أو استعباد أو تحرير، وإنّما الّذي يقبل الحظر والإباحة هو الالتزام بما تستوجبه العقيدة من الأعمال؛ كالدّعوة إلى العقيدة، وإقناع الناس بها، وكتابتها ونشرها؛ وإفساد ما عند النّاس من العقيدة والعمل المخالفَين لها، فهذه هي التي تقبل المنع والجواز. ومن المعلوم أنّها إذا خالفت موادّ قانون دائر في المجتمع أو الأصل الذي يتّكىء عليه القانون، لم يكن مناصّ من منعها من قبل القانون، ولم (يستند) الإسلام في تشريعه على غير دين التّوحيد (التّوحيد والنّبوّة والمعاد)، وهو الّذي يجتمع عليه المسلمون واليهود والنّصارى... (أهل الكتاب)، فليست الحرّيّة إلّا فيها، وليست فيما عداها إلّا هدماً لأصل الدّين..».

 (تفسير الميزان: ج 4، ص 117)

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

منذ يوم

دوريات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات