منازل الاهتداء
التّعرُّف بما هو
أمرٌ إلهيّ في القرآن الكريم
____ محمود إبراهيم ____
الإنسان بطبعه كائن مفكِّر، ولأنّه كذلك فهو مُتعرّف
يسعى إلى المعرفة بالتّفكُّر الزائد.
وقد لحظ النّصّ الإلهيّ خاصيّة التّفكُّر لدى الإنسان،
ولذلك خاطبه الله تعالى بالعقل، ودعاه إلى تعقّل نفسه وسائر الخلق من حوله، وصولاً
إلى معرفته سبحانه.
ولو أطللنا على القرآن الكريم لوجدناه يدعو إلى التّفكّر
ويأمر به. وفي هذه المقالة سنعرض الأصل القرآنيّ للهداية، وكيف تعامل الفكر
الإسلاميّ مع مراتبها المختلفة.
يذكر العلّامة
الفيلسوف الطّباطبائيّ صاحب (تفسير الميزان): «إنّك لو تتبّعت الكتاب الإلهيّ ثمّ تدبّرت
في آياته، وجدت ما لعلّه يزيد على ثلاثمائة آية تتضمّن دعوة النّاس إلى التّفكُّر،
أو التّذكُّر، أو التّعقُّل».(تفسير الميزان: ج 5، ص 255)
وهذه كلّها مساع
ومجهودات تؤول إلى التّعرّف على ما هو غير معروف، سواء ما في نفس الإنسان نفسه أو
ما حوله من وجود: ﴿سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ..﴾
فصلت:53.
ولمّا كان الإنسان
متعرّفاً بالفطرة، فمن أجل ذلك، سوف يظهر ما تعرَّف إليه بإنتاج الأفكار والمعارف.
فقد ألهمه الله قدرة النّطق بتقاطيع الحروف فكان له أن أبدع اللّغة، لتعبّر عمّا
في عقله وليُفهم الآخرين أفكاره وليَفهم أفكارهم. وعلى هذا كان لا بدّ من نظام
للنطق فكان علم النحو، مثلما كان نظام العقل هو علم المنطق. ولقوّة العلاقة بينهما
قيل: «إنّ النّحو منطقٌ لغويّ، وإنّ المنطق نحوٌ عقليّ». (التوحيدي، المقابسات: ص 169)
والهداية لغة،
هي عبارة عن الإرشاد والتعريف إلى السّبيل القويم بدافع اللّطف. ولفظ الهدى
والهداية في الأصل ذات معنى واحد، لكنّ كلمة الهدى في القرآن تستعمل لإفادة معنى
الهداية الإلهيّة: ﴿..إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى..﴾ الأنعام:71. ومن الممكن أن تطلق الهداية على سير الخلق وصيرورتهم باتّجاه الكمال
المأمول لدى الخالق المتعال. ولها ستّ مراتب قرآنيّة:
1) الهداية التكوينيّة: والمقصود منها تلك الغرائز والطّباع المودعة في الطّبيعة
وسائر المخلوقات، والآيات الآتية تشير إلى هذا القسم:
- ﴿قَالَ
رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ طه:50.
- ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى
النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾
النّحل:68.
2) الهداية
الفكريّة: وتُطلق على الهداية المُتأتّية من الزّرع
الإلهيّ المُسمّى بالفطرة. وهي المخصوصة بالمخلوقات المُكلّفة. أي بالنّفس البشريّة.
وقد أُشير إليها في الآية الآتية: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا
فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ الشّمس:7-8.
3) الهداية العقليّة:
وتتحقّق بسلوك طريق التعرُّف الدائم بوساطة العقل السليم، وهو ما تشير إليه الآية
التّالية: ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ
بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ
تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ الحج:46.
4)
هداية الوحي: وتحدث نتيجة الأخذ الصّادق بإرشادات
الأنبياء المُنزلة، وقد صُرِّح بذلك في الآيات الآتية:
- ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ..﴾
الأنبياء:73.
- ﴿وَجَعَلْنَا
مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا..﴾ السجدة:24.
- ﴿..وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الشورى:52.
-
﴿..وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ الرعد:7.
5)
الهداية الإفاضيّة: ومرادنا
منها هو الهداية المضاعفة والمكمّلة التي يحظى بها المهتدي بعد قبول مراتب الهداية
السابقة، ولا سيّما الهداية الوحيانيّة؛ والآيات الآتية تُشير إلى هذا القسم:
- ﴿وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى..﴾ محمّد:17.
- ﴿..وَمَن يُؤْمِن
بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ..﴾ التّغابن:11.
- ﴿إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ..﴾ يونس:9.
- ﴿وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾ العنكبوت:69.
- ﴿وَيَزِيدُ اللهُ
الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى..﴾ مريم:76.
- ﴿..فَهَدَى اللهُ
الَّذِينَ آمَنُواْ..﴾ البقرة:213.
- ﴿..وَاللهُ لاَ
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ البقرة:258.
- ﴿إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاء..﴾ القصص:56.
-
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ
اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ النّحل:107.
6)
الهداية الإشراقيّة: وهي مُتّصلة بما
يحصِّلُه المهتدي من هدايات خاصّة عبر الإلهامات والإشراقات الباطنيّة، كما في
الآيتين التاليتين من سورتي القصص وطه:
- ﴿وَأَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ..﴾ القصص:7.
- ﴿إِذْ أَوْحَيْنَا
إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى﴾ طه:38.
ملاحظات وتنبيهات
1)
الهدايات الستّ، باستثناء القسم الأول (التكوينيّ) والسّادس (الإشراقيّ) يترتّب
بعضها على بعض بنحوٍ طوليّ، لأنّه ما لم يحصل القسم الثاني وما لم يلتزم به المُكلّف،
فلن تتحقّق بقيّة الأقسام، والحال نفسها مع القسم الثالث بالنسبة إلى القسمين الرّابع
والخامس، وهكذا القسم الرابع بالنسبة إلى القسم الخامس.
الهداية
الإفاضيّة إنّما تحصل تحت سلطان المشيئة الإلهيّة. حيث تُسلب إمكانيّة الهداية في
القرآن عن كلّ أحدٍ سوى الله:
-
﴿كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ
الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ﴾ آل عمران:86.
-
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا
يَفْقَهُونَ﴾ المنافقون:3.
2)
من الممكن تقسيم الهداية (المرتبطة بالإنسان) إلى قسمين: «اللّاواعية غير الإراديّة»،
التي تُطلق على الكمالين الأوّل والثاني (القسم الأوّل والخامس والسّادس)، و«الواعية
الإراديّة» (القسم الثاني والثالث والرابع). ومُتعلّقُ الهداية غير الإراديّة هو
فعل الخالق، وبناء عليه فهو «الإيصال إلى المطلوب»، ولا يتخلّف:
-
﴿..أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ..﴾ الأعراف:54.
-
﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ﴾ الشعراء:78.
ومُتعلّق
الهداية الإراديّة هو فعل الخلق، ويتأثّر بحسن اختيار الإنسان وسوئه، ولو عبر
وسائط. وبناء عليه، فهذا القسم يعدُّ مجرَّد إظهار للطريق، وإمكانيّة تخطّيه والتخلّف
عنه موجودة:
-
﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ الإنسان:3.
-
﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ البلد:10.
3)
من الممكن تقسيم الهداية المُرتبطة بالإنسان، وفق حيثيّة أخرى، إلى الهداية
الابتدائيّة والهداية الاهتدائيّة. بعض المراتب بالنسبة إلى المرتبة التي تسبقها
هي اهتدائيّة، أي أنّها نتيجة لقبول الهداية في المرتبة السابقة:
-
﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى..﴾ مريم:76.
-
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى..﴾ محمّد:17.
-
﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ﴾ محمّد:17.
4)
بما أنّ الهداية هي الصّيرورة، فهي تعد استمرار الخلق (والخلق المستمرّ)، لهذا فكلّ
شيء محتاج في خلقه إلى الغير، يكون في الهداية والصّيرورة محتاجاً أيضاً؛ ومن هذا
المنطلق، جميع أنواع الهداية يجب أن تنتهي إلى الهادي بالذات، وإلّا سوف تكون
ضلالات: ﴿..إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى..﴾ البقرة:120.
ولهذا،
أيضاً، بالإمكان تقسيم الهداية (والهادي) إلى قسمين:
أ)
«بالذات» و«من دون وساطة».
ب)
«بالتّبع» و«بوساطة».
-
﴿..وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ الشورى:52.
5)
يتكفّل القرآن الكريم بالهداية الوحيانيّة لأنّها مُستند نُبوّة الرّسول الأكرم،
صلّى الله عليه وآله، الذي تمثِّل هداية البشريّة غاية رسالته:
-
﴿ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ البقرة:1-2.
-
﴿..هَذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ الأعراف:203.
-
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء
لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ يونس:57.
-
﴿وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي
اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ النحل:64.
-
﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ
وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ النّحل:89.
-
﴿تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ الجاثية:2.
وباستطاعة
القرآن الكريم أن يكون وساطة للهداية الإفاضيّة لدى أفراد معيّنين من الذين يتمتّعون
برتبة وجوديّة متعالية.