الملف

الملف

منذ 6 أيام

وصايا رسول الله صلّى الله عليه وآله في الحرب


وصايا رسول الله في الحرب

..لَا تَغْدُروا، وَلَا تَغُلُّوا ، ولا تُمَثِّلوا

ولَا تَقتلوا وَليداً، وَلَا مُتَبَتِّلاً في شَاهِقٍ، وَلَا تَحرُقوا النَّخْلَ، ولا تُغرِقُوه بالمَاء

وَلا تَقطعوا شجرةً مُثْمِرَة

النبي الأعظم صلّى الله عليه وآله

 

 

وصايا رسول الله في الحرب

من سُنَن النّبيّ صلّى الله عليه وآله في الحروب

العلّامة الطباطبائي قدّس سرّه

آدابُ القتال في الإسلام

الفقيه الشيخ علي الأحمدي قدّس سرّه

حرمةُ الغَدر والخيانة

الشهيد السيد محمد الصدر قدّس سرّه

وقعةُ الماء، أوّل وقعة صِفّين

تنسيق: أسرة التحرير

 

استهلال

من دعاء «أهل الثغور»

«أللّهمّ وأيُّما غَازٍ غَزاهُم مِن أَهْلِ مِلَّتِكَ، أَو مُجَاهدٍ جَاهَدَهُم مِن أتْبَاعِ سُنّتِكَ ليَكونَ دينُك الأَعلى، وحِزبُك الأقْوى وحَظُّك الأَوفى، فَلَقِّه اليُسْرَ وَهيِّئ لَه الأمرَ، وتَوَلَّه بالنُّجْح، وتخيَّر له الأصحاب، واستَقوِ له الظَّهرَ، وأَسبِغْ عليه في النَّفَقة، ومَتِّعه بالنَّشاطِ، وأطْفِ عنه حرارةَ الشَّوق، وأَجِرْهُ من غَمِّ الوَحْشَة، وَأَنْسِهِ ذِكْرَ الأَهْلِ وَالوَلَدِ، وَآثِرْ لَهُ حُسْنَ النّيّةِ، وَتَوَلَّهُ بِالعَافِيَةِ وَأَصْحِبْهُ السّلامَةَ، وَأعْفِهِ مِن الجُبْنِ، وَألْهِمْهٌ الجُرأَةَ، وَارْزُقْهُ الشِّدّة، وَأَيِّدهُ بالنّصرة، وعَلِّمْه السِّيَر والسُّنَن، وَسَدِّدْهُ فِي الحُكْمِ، وَاعْزِل عَنْهُ الرِّيَاءَ، وَخَلِّصْهُ مِنَ السُّمْعَةِ، وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ، وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ، فِيكَ وَلَكَ..».

                                                                         الإمام السجّاد

عليّ بن الحسين عليهما السّلام

 

 

اللَّهُمَّ بكَ أَصولُ وبكَ أُقاتل

من سُنَن النّبيّ صلّى الله عليه وآله في الحروب

ـــــــــــــــــــــــــــ العلّامة السّيّد محمّد حسين الطّباطبائيّ قدّس سرّه ـــــــــــــــــــــــــــ

هذه مختارات من كتاب (سُنن النّبيّ) للعلّامة الطباطبائي (صاحب تفسير الميزان). كان قدّس سرّه قد حدّد الأبواب واختارَ الكثير من الروايات، ثمّ جاء أحد تلامذته فتوسّع في تتبُّع النّصوص المناسِبة لكلّ باب.

تقدّم «شعائر» هذه المختارات بتصرّف حيث تمّ حذف المصدر والسَّنَد.

 

إنفاذ السّرايا

* كان النبيّ صلّى الله عليه وآله إذا أراد أن يبعث سَرِيَّةً بعثَها أوّل النّهار.

* عن أبي عبد الله [الإمام الصادق] عليه السّلام: أَنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، كَانَ إِذَا بَعَثَ بِسَرِيَّةٍ دَعَا لَهَا.

* عن الإمام الرضا عليه السلام: «كَانَ رَسولُ الله، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، إِذا وَجَّهَ جَيْشاً فَأَمَّهُمْ أَميرٌ بَعَثَ مَعَهُ مِنْ ثِقاتِهِ مَنْ يَتَجَسَّسُ لَهُ خَبَرَهُ».

 

من آداب الغَزو

 

* عن أبي عبد الله [الإمام الصادق] عليه السلام: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ كَانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيراً لَه عَلَى سَرِيَّةٍ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، عَزَّ وجَلَّ، فِي خَاصَّةِ نَفْسِه، ثُمَّ فِي أَصْحَابِه عَامَّةً، ثُمَّ يَقُولُ:

اغْزُ بِسْمِ اللهِ وفِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، ولَا تَغْدرُوا، وَلَا تَغُلُّوا، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيداً، وَلَا مُتَبَتِّلاً فِي شَاهِقٍ، ولَا تُحْرِقُوا النَّخْلَ، ولَا تُغْرِقُوه بِالْمَاءِ، ولَا تَقْطَعُوا شَجَرَةً مُثْمِرَةً، وَلَا تُحْرِقُوا زَرْعاً لأَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ، لَعَلَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، ولَا تَعْقرُوا مِنَ الْبَهَائِمِ مِمَّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ إِلَّا مَا لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْ أَكْلِه، وإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوّاً لِلْمُسْلِمِينَ فَادْعُوهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلَاثٍ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكُمْ إِلَيْهَا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وكُفُّوا عَنْهُمْ..».

ذِكرُ الله تعالى في ساحة الحرب

 

* عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام: أنَّ رَسولَ الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ «كانَ إذا لَقِيَ العَدُوَّ عَبَّأَ الرِّجَالَ وَعَبَّأَ الخَيْلَ وَعَبّأَ الإِبِلَ، ثمّ يَقول: اللَّهُمَّ أَنْتَ عِصْمَتِي وَنَاصِري وَمَانِعي، اللَّهُمَّ بِكَ أَصولُ وَبِكَ أُقَاتِلُ».

* وكان النبيّ صلّى الله عليه وآله إذا شَهِدَ قتالاً قال: «رَبِّ احْكُمْ بِالحَقِّ».

* وفي (نهج البلاغة): «من كتابٍ له عليه السّلام إلى معاوية - إلى أن قال: وكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ وأَحْجَمَ النَّاسُ، قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيوفِ وَالأَسِنَّةِ.. الخطبة».

كيفيّة البيعة

 

* وفي حديث بيعة المأمون، عن الإمام الرضا عليه السلام: أنَّ رَسولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ هَكَذا كاَن يُبايِعُ النّاسَ، فَبَايَعَ وَيَدُه عَلَيْهِ السَّلامُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ.

* وعن أمير المؤمنين عليٍّ عليه السّلام: «كانَ رَسولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ لَا يُصَافِحُ النَّساءَ، فَكانَ إذا أرادَ أنْ يُبايِعَ النِّساءَ أَتى بإناءٍ فيه ماءٌ، فَغَمَسَ يَدَهُ ثُمَّ يُخْرِجُها ثُمَّ يَقولُ: اغْمِسْنَ أَيْديَكُنّ فيهِ فَقَدْ بايَعْتُكُنَّ».

* وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه كان ممّا يأخذُ على النساء في البيعة أن لا يحدّثن مع الرجال إلّا ذا محرَم.

 

 

 

لا تُقاتلوهم قبلَ دعوتِهم والإعذار إليهم مرّةً بعدَ مرّة

آدابُ القتال في الإسلام

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الفقيه الشّيخ علي الأحمدي قدّس سرّه ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في كتابه (الأسير في الإسلام) الذي ألّفه في أجواء الحرب التي فُرضت على الجمهورية الإسلامية في إيران، قال الفقيه الشيخ الأحمدي قدّس سرّه:

«بعث اللهُ تعالى الأنبياء عليهم السلام لُطفاً ورحمةً للإنسان، ورُوعي في أسلوب الدعوة أيضاً الرحمة والرأفة والحنان.

والقتال أيضاً شُرِّع رحمةً للعباد لحفظ الإنسانية ولحفظ أساس التوحيد وللدّفاع عن الدعوة الحقّة وعن الإنسانيّة بالغاية».

 

أضاف: «من المعلوم أنّ ما شُرِّع لغاية الرحمة على العباد يُراعى في أسلوبه أيضاً الرحمة والرأفة. وبعبارة أخرى: ما جُعل وسيلةً للوصول إلى الهدف وحِفْظِه لا بدّ وأن يلائمَه ويوافقَه، لا أن يزاحمَه ويضادّه، فعندئذٍ لا بدّ وأن يكون القتال في الإسلام محكوماً بآداب وأحكام وشرائط تقرّب من الهدف المقصود وتُلائمه.

ولا بأس بذكر الآداب والأحكام المقرّرة للقتال إجمالاً حتّى يتبيّن ما هو القتال في الإسلام، وما هو المندوب إليه:

 

1 - جُعل الجهاد في الإسلام والقتال عبادةً، بل من أسنى العبادات وأغلاها وأعلاها. واشتُرط فيها النيّة وقَصْد التقرّب، والإخلاص والبُعد عن الهَوى، وشوائب الرياء والعُجب والفخر والمَنّ، والدواعي النفسانية من الغضب والانتقام وابتغاء عَرَض الحياة الدنيا، وكذلك يشترَط فيها الابتعاد عن موانع القبول والسَّعي في كونه محدوداً بالحدود الإلهية.

2 - استحبّ قبل الشروع في القتال الدعاء والتضرّع إلى الله تعالى، وقد رُوي عن الرسول صلّى الله عليه وآله وعن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه الدعوات المأثورة.

كان رسول الله صلّى الله عليه وآله في غزوة بدر وأُحد والأحزاب يدعو ويتضرّع إلى الله تعالى ساجداً وراكعاً وقائماً.

دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله في بدر بهذا الدعاء: «اللَّهُمَّ أَنْتَ ثِقَتي في كُلِّ كَرْبٍ وَرَجائي في كُلِّ شِدَّةٍ».

وكان صلّى الله عليه وآله يدعو ويستغيث حتّى نزل قوله تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ..﴾ الأنفال:9.

وكان يدعو في الأحزاب: «يا صَريخَ المَكْروبينَ، وَيا مُجيبَ دَعْوَةِ المُضْطَرّينَ».

وكذلك أمير المؤمنين صلوات الله عليه لا يزال اللّيل كلّه قائماً. وكان.. عليه السلام يدعو قبل القتال بدعوات ".." منها:

«اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَعْلَمْتَ سَبيلاً مِنْ سُبُلِكَ جَعَلْتَ فيهِ رِضاكَ، وَنَدَبْتَ إِلَيْهِ أَوْلِياءَكَ، وَجَعَلْتَهُ أَشْرَفَ سُبُلِكَ عِنْدَكَ ثَواباً وَأَكْرَمَها لَدَيْكَ مَآباً وَأَحَبَّها إِلَيْكَ مَسْلَكاً، ثُمَّ اشْتَرَيْتَ (فيه) مِنَ المُؤْمِنينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ..».

* ومنها: «اللَّهُمَّ إِلَيْكَ نُقِلَتِ الأَقْدامُ، وَأَفْضَتِ القُلوبُ، ورُفِعَتِ الأَيْدي، وَشَخَصَتِ (أُشخِصَت) الأَبْصارُ. نَشْكو إِلَيْكَ غَيْبَةَ نَبِيِّنا وَكَثْرَةَ عَدُوِّنا وَتَشَتُّتَ أَهْوائِنا، رَبَّنا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفاتِحينَ».

* ومنها: لمّا سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّامَ حربهم بصِفّين، قال: «إِنّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكونوا سَبّابينَ، وَلِكَنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمالَهُمْ وَذَكَرْتُمْ حالَهُمْ كانَ أَصْوَبَ في القَوْلِ وَأَبْلَغَ في العُذْرِ، وَقُلْتُمْ مَكانَ سَبِّكُمْ إِيّاهُمْ:

اللَّهُمَّ احْقِنْ دِماءَنا وَدِماءَهُمْ، وَأَصْلِحْ ذاتَ بَيْنِنا وَبَيْنِهِمْ، وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلالَتِهِمْ حَتّى يَعْرِفَ الحَقَّ مَنْ جَهِلَهُ وَيَرْعَوِيَ عَنِ الغَيِّ وَالعُدْوانِ مَنْ لَهِجَ بِهِ».

فعلى المحقّق الدقّة في مضامين هذه الدعوات كي يقفَ على حقيقة القتال وأهدافه ونتائجه في الإسلام.

3 - كان صلّى الله عليه وآله إذا بعث سَرِيّةً دعا لها.

وكان عليّ عليه السلام يدعو لهم ويقول: «اللَّهُمَّ ألهِمْهُمُ الصَّبْرَ وَأَنْزِلْ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ، وَأَعْظِمْ لَهُمُ الأَجْرَ».

كما كان عليه السلام يدعو على أعدائه: «اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدّوا الحَقَّ فَافْضُضْ جَمْعَهُمْ، وَشَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وَأَبْسِلْهُمْ بِخَطاياهُمْ».

وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله إذا أراد أن يبعث سَرِيّةً:

4 - دعاهم فأجلسَهم بين يدَيه وأجلس أميرَهم إلى جنبه.

5 - أوصى أميرَ الجيش بتقوى الله في خاصّة نفسه وبمن معه من المسلمين.

6 - ثمّ قال: سِيروا بِسْمِ اللهِ وَبِاللهِ وَفي سَبيلِ اللهِ وَعَلى مِلَّةِ رَسولِ اللهِ.

7 - لا تَغُلّوا، (يعني من المغانم قبل القِسمة، أو لا تخونوا).

8 - لا تُمَثِّلوا، (والمُثلة قطعُ الأعضاء، وذلك كما أنه نهى عن القتل صبراً أيضاً، وهو أن يُجعل المقتول غرَضاً يُرمى حتّى يموت أو يحبس حتّى يقتَل).

9 - لا تَغْدُروا، (يعني في عهودهم ومواثيقهم وفي الأمان الذي يعطون العَدوّ).

10 - لا تَقْتُلوا شَيْخاً فانِياً (لا دخْلَ له في الحرب).

11 - لا تَقْتُلوا صَبِيّاً (وليداً).

12 - لا تَقْتُلوا مُتَبَتِّلاً في شاهِقٍ (أي المنقطع عن الدنيا الفارغ للعبادة).

13 - لا تَقْتُلوا النِّساءَ إِلّا أَنْ يُقاتِلْنَ، فَإِنْ قاتَلْنَ فَأَمْسِكوا عَنْهُنَّ ما أَمْكَنَكُمْ.

14 - لا تَقْطَعوا شَجَراً (إِلّا مع الاضطراِر، أو يكون فيه صلاح المسلمين كما قال تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللهِ..﴾ الحشر:5.

15 - لا تُحْرِقوا نَخْلاً (إلّا مع الاضطرار، أو يكون فيه صلاح المسلمين).

16 - لا تُغرْقوا النَّخْلَ بِالماءِ.

17 - أَيُّما رَجُلٍ مِنْ أَدْنى المُسْلِمينَ أَوْ أَفْضَلِهِمْ نَظَرَ إِلى أَحَدٍ مِنَ المُشْرِكينَ فَهُوَ جارٌ لَهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ، فَإِذا سَمِعَ كَلامَ اللهِ فَإِنْ تَبِعَكُمْ فَأَخوكُمْ في دينِكُمْ، وَإِنْ أَبى فَاسْتَعينوا بِاللهِ وَأَبْلِغوهُ مَأْمَنَهُ.

18 - لا تُحْرِقوا زَرْعاً.

19 - لا يُلْقى السُّمُّ في بِلادِهِمْ.

20 - لا تُعقَر البَهائم ممّا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، إِلّا ما لا بُدَّ لَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ.

21 - أميرُ الجيش أضعفُهم دابّة.

22 - إِذا لَقيتُم عَدُوّاً للمُسْلِمينَ فَادْعوهُمْ إِلى الإِسْلامِ، فَإِنْ دَخَلوا فيهِ فَاقْبَلوهُ مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ، وَادْعوا إِلى الهِجْرَةِ بَعْدَ الإِسْلامِ، فَإِنْ فَعَلوا فَاقْبَلوهُ مِنْهُمْ وَكُفّوا عَنْهُمْ.

23 - وَإِن أَبَوْا أَنْ يُهاجِروا وَاخْتاروا دِيارَهُمْ وَأَبَوْا أَنْ يَدْخُلوا دارَ الهِجْرَةِ كانوا بِمَنْزِلَةِ أَعْرابِ المُؤْمِنينَ، يَجْري عَلَيْهِمْ ما يَجْري عَلى أَعْرابِ المُؤْمِنينَ، وَلا يَجْري لَهُمْ في الفَيْءِ وَلا في القِسْمَةِ شَيْءٌ إِلّا أَنْ يُهاجِروا في سَبيلِ اللهِ.

24 - فَإِنْ أَبَوْا هاتَيْنِ فَادْعوهُمْ إِلى إِعْطاءِ الجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرونَ، فَإِنْ أَعْطوا الجِزْيَةَ فَاقْبَلوا مِنْهُمْ وَكُفّوا عَنْهُمْ.

25 - وَإِنْ أَبَوْا فَاسْتَعينوا بِاللهِ عَلَيْهِمْ وَجاهِدوهُمْ في اللهِ حَقِّ جَهادِهِ.

26 - ولا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعاكُمْ إِلَيْهِ عَدُوُّكُمْ للهِ فيه رِضا.

27 - لا تَهْدِمَنَّ بِناءً.

28 - إنّه صلّى الله عليه وآله امتنعَ من قطع الماء في خيبر ".." كما أنّ أمير المؤمنين عليه السلام- بعد أن أخذَ الماء من معاوية وقيلَ له أنْ يمنع الماء - قال: «خَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الماءِ فَإِنَّ اللهَ نَصَرَكُمْ بِبَغْيِهِمْ وَظُلْمِهِمْ» ".." أو قال: «فَإِنَّ القَوْمَ قَدْ بَدَأوكُمْ بِالظُّلْمِ وَفاتَحوكُمْ بِالبَغْيِ»؛ عدّ عليه السلام منعَهم الماء ظلماً، أو قال: «خَلّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، لا أفْعَلُ ما فَعَلَهُ الجاهِلونَ».

وصايا أمير المؤمنين عليه السّلام في الحرب

وفي وصايا أمير المؤمنين عليه السلام في حروبه (الجمل بالبصرة، وصفّين بالشام، والنهروان) مسائل كثيرة نلخّص منها ما يرتبط بالمقام:

1 - أُوصيكُمْ بِتَقْوى اللهِ الّذي لا بُدَّ لَكُمْ مِنْ لِقائِهِ وَلا تُقاتِلُنَّ إِلّا مَنْ قاتَلَكَ.

2 - أَطيلوا اللَّيْلةَ القِيامَ، وَأَكْثِروا تِلاوَةَ القُرْآنِ، وَاسْأَلوا اللهَ الصَّبْرَ وَالنَّصْرَ. تَعاهَدوا الصَّلاةَ وَحافِظوا عَلَيْها وَاسْتَكْثِروا مِنْها وَتَقَرّبوا بِها.

3 - لا تُقاتِلوا القَوْمَ حَتّى يَبْدَأوكُمْ، فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللهِ عَلى حُجَّةٍ، وَتَرْككُمْ إِيَّاهُمْ حَتّى يَبْدَأوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرى لَكُمْ عَلَيْهِمْ.

4 - انْهَدّوا إِلَيْهِمْ وَعَلَيْكُمُ السَّكينَةُ وَوَقارُ الإِسْلامِ، اسْتَشْعِروا الخَشْيَةَ وَتَجَلْبَبوا السَّكينَةَ.

5 - لا تُمَثِّلوا بِقَتيلٍ إِذا قاتَلْتُموهُمْ وَهَزَمْتُموهُمْ بِإِذْنِ اللهِ.

6 - فَلا تَقْتُلوا مُدْبِراً.

7 - لا تُجْهِزوا عَلى جَريحٍ، (أي لا تقتلوهم سريعاً).

8 - وَإذا وَصَلْتُمْ إِلى رِحالِ القَوْمِ فَلا تَكْشِفوا عَوْرَةً. (والعورة كلّ ما يستحيي منه إذا ظهر).

9 - وَلا تَهْتِكوا سِتْراً.

10 - وَلا تَدْخُلوا داراً إِلّا بِإِذْني.

11 - وَلا تَأْخُذوا شَيْئاً مِنْ أَمْوالِهِمْ إلّا ما وَجَدْتُمْ في عَسْكَرِهِمْ.

12 - وَلا تهيِّجوا امْرَأَةً بِأَذى، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْراضَكُمْ وَسَبَبْنَ أُمَراءَكُمْ وَصُلَحاءَكُمْ فَإِنَّهُنَ ضِعافُ القِوى وَالأنفُسِ وَالعُقول، وَقَدْ كُنّا نُؤْمَرُ بِالكَفِّ عَنْهُنَّ وَهُنَّ مُشْرِكاتٌ، وَإنْ كانَ الرَّجُلُ لَيَتناوَلُ المَرْأَةَ بِالهِراوَةِ أَوْ بِالحَديدِ فَيُعَيَّرُ بِها، وَعَقِبَهِ، مِنْ بَعْدِهِ...

13 - إِنّي أَكْرَهُ لَكُمْ أَنْ تَكونوا سَبّابينَ، وَلِكَنَّكُمْ لَوْ وَصَفْتُمْ أَعْمالَهُمْ. إلى آخر ما مرّ.

14 - لا تَتْبَعوا مُوَلِيّاً وَلا تَطْلُبوا مُدْبِراً.

15 - وَلا تَقْتُلوا أَسيراً.

16 - وَلا تُصيبوا مُعْوِراً، (من أَعْوَر الفارس إذا بدا فيه موضع خَلَل).

17 - وَلا يَطْلُبُ المُبارَزَةَ إِلّا بِإِذْنِ الإِمامِ.

18 - وَمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَاقْبَلوا مِنْهُ.

19 - قال عليه السلام للأشتر: «إِيّاكَ وَأَنْ تَبْدَأَ القَوْمَ بِقِتالٍ إِلّا أَنْ يَبْدَأوكَ حَتّى تَلْقاهُمْ وَتَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنآنُهُمْ عَلى قِتالِهِمْ قَبْلَ دُعائِهِمْ وَالإِعْذارِ إِلَيْهِمْ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ».

20 - قال لأمير الجيش: «وَاحْرُسْ عَسْكَرَكَ بِنَفْسِكَ وَإِيّاكَ أَنْ تَرْقُدَ أَوْ تُصْبِحَ إِلّا غِراراً». (يعني: إيّاك أن ترقد حتّى الصّباح إلّا قليلاً).

21 – وَعَلَيْكَ بِالتَّأَنّي في حَرْبِكَ، وَإِيّاكَ وَالعَجَلَةَ إِلّا أَنْ تُمَكِّنَكَ فُرْصَةٌ.

22 - اسْتَعينوا بِالصَّبْرِ، فَإِنَّ بَعْدَ الصَّبْرِ النَّصْرَ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.

هذه (تعليمات) أخذناها من وصايا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه في الآداب والأحكام الحربية الناشئة عن فضائل إنسانية وملَكَات نفسانية، يتحلّى بها المسلم المقاتل فتورثُه سجايا حسنة وأخلاقاً رزينة. هذا عدا ما نُقل عنه، صلوات الله عليه، من بيان أمورٍ لها دخلٌ في ظفَر المقاتل وغلَبَته على عدوّه وسلامته من نكاية العدو ومكائده، وذِكرُها خارجٌ عن شرط المقال.

مسلكُ الإسلام في جهاد العدوّ

هذا كلّه في الجهاد الإسلامي، وإنّ الإسلام يستخدم القتال في الوصول إلى الحقّ، لا في طريق الدنيا وشَهواتها وزُخرفها، ولا للوصول إلى الانتقام وتَشفّي النفوس من المخالفين. وفي استخدامه القتال في الدفاع عن الدين وعن المستضعفين يسلك سبيلاً عقليّاً دينياً على سُنن الرحمة والرأفة. ولا يرى العنف والشدّة إلّا فيما يراه الله تعالى حيث يقول: ﴿.. وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ البقرة:190. «والنَّهيُ عن الاعتداء مطلَقٌ يُراد به كلّ ما يَصدق عليه أنه اعتداء؛ كالقتال قبل أن يُدعى إلى الحقّ، والابتداء بالقتال، وقتْل النساء والصبيان، وعدم الانتهاء إلى العدوّ، وغير ذلك مما بيّنته السنّة النبويّة». [كما في تفسير الميزان للعلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي]

قال الأستاذ العلّامة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى، في ذيل آيات القتال: ﴿.. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ البقرة:195: «ثمّ ختم سبحانه الكلام بالإحسان، فقال: ﴿وأَحْسِنُوا إِنّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وليس المراد بالإحسان الكفّ عن القتال أو الرّأفة في قتْل أعداء الدِّين وما يُشبههما، بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجهٍ حسنٍ بالقتال في مورد القتال، والكَفّ في مورد الكفّ، والشدّة في مورد الشدّة، والعفو في مورد العفو. فدفعُ الظالم بما يستحقّه إحسانٌ على الإنسانية باستيفاء حقّها المشروع، ودفاعٌ عن الدين المصلِح لشأنها، كما أن الكَفّ عن التجاوز - في استيفاء الحقّ المشروع - بما لا ينبغي، إحسانٌ آخَر».

سلكَ الإسلامُ في الكافر الطاغي المعاند أيضاً طريق الإحسان في مقاتلتِه:

- نهى عن الغدر، أي نقْض ما عُقد معه من المواثيق.

- نهى عن المُثلة إذا أريدَ قتلُه؛ [أي نهى الإسلام عن] أن يُقطَع أنفه وأذُنه ويدُه ورِجله.

- نهى عن قتل الصبر، بأنْ يُجعل غرَضاً [هدفاً] فيُرمى حتّى يموت.

- نهى عن التجويع، بأن يُحبَس حتّى يموت جوعاً.

- نهى عن التعطيش، بأن يحبَس حتّى يموت عطَشاً.

وبالجملة، الأمرُ بالإحسان بعد قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ..﴾ البقرة:190.

وقولِه تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ..﴾ البقرة:191.

وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ..﴾ البقرة:193.

وقوله تعالى: ﴿..فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ..﴾ البقرة:194.

يدلّ على أنّ المراد بالإحسان هو القتالُ على نحوٍ أحسن، وفي الحديث عن الصّادق عليه السلام: «يَعْنِي المُقْتَصِدِيْنَ»، أي البعيدين عن الإفراط والتفريط.

بل الظاهر أن قوله تعالى: ﴿..وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً..﴾ التوبة:123، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ..﴾ التوبة:73، أيضاً ليس المراد منها الخشونة والفظاظة وسوء الخُلُق والقساوة والجَفوة، بل المراد أن يُجروا عليهم أحكام الله من القتل والحبس وشَدِّ الوَثاق، ولا تمنعُهم الرحمةُ عن إجراء أحكام الله. ويُقال هذا لمن غلبَ عليه العطوفة والعفو والرحمة، كما قال الرازي في تفسيره.

ولا غَرو في ذلك عند من وقف على الأحكام الإلهيّة في صدورها على أساس الإصلاح والرحمة لعباد الله، ومَدْح مَن أطعم أسيراً كافراً أو سقى ظامئاً كافراً.

..فإنّكم مسؤولونَ عن البِقاع والبَهائم

بل أصدر الإسلام أحكاماً كثيرةً حتّى في الحيوانات بأجمعها؛ أهليّاً ووحشيّاً في قتْلِها وتجويعها وتعطيشها والحَمل عليها بما لا تُطيق، أو في مَن ملَكَها ولا يُنفق عليها، أو في مَن ركبَها وحملَها على السير وضربَها، أو مَن مثّل بها أو كفّها أو وسمَها في وجوهها، أو قطع أعضاءها أو جعلها غرَضاً، أو...

ولا بأس بالإشارة إلى بعض ما ورد فيها:

- جعل [الإسلام] لكلّ ذي حياة حقّاً، وإنْ شئتَ فَسَمِّه حقَّ الحياة.

- نهى عن قتل كلّ حيوان، إلا ما كان مؤذياً ومضِرّاً أو مفسِداً حكمَ الدينُ والعقلُ باعدامه؛ كالكافر الحربي، أو الإنسان القاتل، أو مَن ارتكب عملاً حدُّه القتل. قال الإمام الصّادق عليه السلام: «أَقْذَرُ الذُّنوبِ ثَلاثَةٌ: قَتْلُ البَهيمَةِ، وَحَبْسُ مَهْرِ المَرْأَةِ، وَمَنْعُ الأَجيرِ أَجْرَهُ».

- وقال النبيّ صلّى الله عليه وآله: «اتَّقوا اللهَ فيما خوَّلَكُمْ وَفي العُجْمِ مِنْ أَمْوالِكُمْ. فقيل له: وما العُجم؟ قال: الشّاةُ وَالبَقَرَةُ وَالحَمَامُ وَأَشْباهُ ذَلِكَ».

* وقال صلّى الله عليه وآله: «اتَّقوا اللهَ في هَذِهِ البَهائِمِ».

* وقال صلّى الله عليه وآله: «لَوْ غُفِرَ لَكُمْ ما تَأْتونَ إِلَى البَهائِمِ، لَغُفِرَ لَكُمْ كَثيرٌ».

* وقال صلّى الله عليه وآله: «اتَّقوا اللهَ في عِبادِهِ وَبِلادِكُمْ فَإِنَّكُمْ مَسْؤولونَ عَنِ البِقاعِ وَالبَهائِمِ».

* وقال صلّى الله عليه وآله: «ارْحَموا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّماءِ»، (..أي لمَن في الأرض من آدميّ أو حيوان لم يؤمَر بقتله، في الشَّفَقة عليهم والإحسان إليهم).

- وعن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قَضى فيمَن قتلَ دابّةً عَبَثَاً، أو قطع شجراً، أو أفسد زرعاً، أو هدمَ بيتاً، أو غَوَّر بئراً أن يغرَّم قيمةَ ما استهلك وأفسد، وضُرِبَ جَلَداتٍ نَكالاً.

هذه الأخبار [الآتية] تشمل إيذاء الحيوان أيضاً كما لا يخفى:

- وفي حديث: «نَهى النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَنْ ذَبْحِ الحَيَوانِ إِلّا لِأَكْلِهِ».

- نهى صلّى الله عليه وآله عن قَتل النَّحل.

- نهى عن الصّيد للّهو، وجَعَلَ السَّفر - لطلبِ الصّيد لهواً - من الأسفار التي لا يرخّص فيها التقصير والإفطار. بل عن عبد العظيم الحَسَني رضوان الله عليه، عن الإمام أبي جعفر الجواد عليه السّلام في تفسير قوله تعالى: ﴿..فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ..﴾ البقرة:173:  أنّ الِميتة لا تحلّ للباغي، والباغي [هو] الذي يطلب الصّيد بطَراً أو لهواً، لا ليعودَ به على عياله. ليس لهما أن يأكلا المِيتة إذا اضطُرّا، هي حرامٌ عليهما في حال الاضطرار كما هي حرامٌ عليهما في حال الاختيار.

- نهى رسولُ الله صلّى الله عليه وآله عن قَتْل أربعٍ من البهائم: النملة والنحلة والهدهد والصّرد.

- [روي أنّ] «عليّ بن الحسين عليهما السّلام قتلَ نملةً فأعطى فرساً في سبيل الله».

- «عن أبي حمزة الثّمالي، قال: كانت لابن بنتي حماماتٌ فذَبَحتُهنّ غضَباً، ثمّ خرجتُ إلى مكّة فدخلتُ على أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام قبل طلوع الشمس، فلمّا طلعتْ رأيتُ حَماماً كثيراً.

قال، قلت: أسألُه عن مسائل وأكتب ما يُجيبني عنها، وقلبي متفكِّرٌ فيما صنعتُ بالكوفة وذَبحي لتلك الحمامات.

فقال لي أبو جعفر عليه السلام: كَأَنَّ قَلْبَكَ في مَكانٍ آخَرَ؟

قلت: أي والله، وقصصتُ عليه القصّة وحدّثته بأنّي ذبحتُهم.

قال: فقال الباقر عليه السّلام: بِئْسَ ما صَنَعْتَ يا أَبا حَمْزَةَ؛ فَتَصَدَّقْ عَنْ كُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ ديناراً، فَإِنَّكَ قَتَلْتَهُنَّ غَضَباً».

إلى غير ذلك ممّا [قد نصنّف فيه] رسالة مفردة في حقوق الحيوانات إنْ شاء الله تعالى، والغرَض من إيرادها التنبيه على الرحمة واللّطف والرأفة الملحوظة في أحكام الإسلام وقوانينه. ولمزيد الاطّلاع استمع لما يُتلَى عليك:

- نهى [الإسلام] عن سَلْخ الذّبيحة قبل أن تموت، ونهى أن يُقطع رأسها قبل أن تموت.

- نهى أن تُعَرقَب الدّابّة إذا حرنتْ [أي وقفت] في أرض العدوّ. [العَرْقَبَة: قَطْعُ العُرقوب؛ وهو العصب الذي خلف الكعبَين]

- لا يجوز قطع أعضاء الحيوان إلّا لعلاج.

- ونهى عن إخصاء الدّوابّ والغنم إلّا للإصلاح.

- رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: «لَعَنَ اللهُ مَنْ مَثَّلَ بِالحَيَوانِ».

- «رُوي أنه كان رجلٌ من بني إسرائيل ناسكٌ يعبدُ الله، فبينما هو يصلّي وهو في عبادته إذْ بَصُر بغلامَين صبيّين قد أخذوا ديكاً وهما ينتفان ريشَه. فأقبلَ على ما فيه من العبادة ولم يَنههما عن ذلك، فأوحى الله إلى الأرض أن تَسيخي بعبدي، فساخت به الأرض».

- نهى رسول الله صلّى الله عليه وآله أن يُحرَق شيءٌ من الحيوان.

- مرّ رسول الله صلّى الله عليه وآله على قومٍ نصبوا دجاجةً حيّةً وهم يرمونها بالنّبل فقال: «مَنْ هَؤُلاءِ؟ لَعَنَهُمُ اللهُ!».

- روي عنه صلّى الله عليه وآله قوله: «لَعَنَ اللهُ مَن اتَّخَذَ شَيئاً فِيه الرُّوحُ غَرَضَاً».

- وعنه صلّى الله عليه وآله أنّه نهى عن المُثلة وعن صَبْرِ البَهائم. [الصّبر هنا: من قبيل حَبْسِها حتّى تموت جوعاً أو عطشاً]

 

 

دعوةُ المشركين إلى الحقّ

حرمةُ الغَدر والخيانة

------ الشهيد السيّد محمّد الصدر قدّس سرّه -----

في كتابه الموسوعيّ (ما وراء الفقه) تناول المرجع الديني الراحل الشهيد السيّد محمّد محمّد صادق الصدر، موضوعَ آداب الحرب في الإسلام، وقد اختارت منه «شعائر» ما يلي:

لا يجوز البدء بقتال المشركين، إلَّا أن يدعوهم إلى الإسلام عقيدةً ومفهوماً. إذ لعلّهم إنّما جاؤوا لقتاله، باعتبار جَهْلهم به وبُعدهم عن السّماع بتعاليمه. فلا بدّ من عرض محاسن الإسلام أمامَهم. فإنْ قبلوا فهو المطلوب، وإنْ رفضوا استحقّوا القتال.

- عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال: «قالَ أَميرُ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ: بَعَثَني رَسولُ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ، إِلى اليَمَنِ فَقالَ: يا عَلِيُّ، لا تُقاتِلَنَّ أَحَداً حَتّى تَدْعُوَهُ إِلى الإِسْلامِ. وَأَيْمُ اللهِ لَئِنْ يَهْدِي اللهُ، عَزَّ وَجَلَّ، عَلَى يَدَيْكَ رَجُلاً خَيْرٌ لَكَ مِمّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ..»، الحديث.

- وعن «الزّهريّ»، قال: «دخلَ رجالٌ من قُرَيش على عليّ بن الحسين، عليهما السّلام، فسألوه كيف الدّعوةُ إلى الدِّين؟ فقال: بِسْمِ اللهِ الرّحمنِ الرحّيمِ. أَدْعوكَ إِلى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلى دينِهِ، وَجِماعُهُ أمران: أَحَدُهُما: مَعْرِفَةُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالآخَرُ: العَمَلُ بِرِضْوانِهِ. وَإِنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يُعْرَفَ بِالوَحْدانِيَّةِ، وَالرَّأْفَةِ، وَالرَّحْمَةِ، وَالعِزَّةِ، وَالعِلْمِ، وَالقُدْرَةِ، وَالعُلُوِّ عَلى كُلِّ شَيْءٍ. وَأنَّهُ النافِعُ [الضّارّ] القاهِرُ لِكُلِّ شَيْءٍ، لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطيفُ الخَبيرُ. وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، وَأَنَّ ما جاءَ بِهِ هُوَ الحَقُّ مِنْ عِنْدِ اللهِ، عَزَّ وَجَلَّ، وَما سِواهُ هُوَ الباطِلُ. فَإِذا أَجابوا إِلى ذَلِكَ فَلَهُمْ ما للْمُسْلِمينَ وَعَلَيْهِمْ ما عَلى المُسْلِمينَ».

أقول: وهذا هو المضمون العامّ، وليس المهمّ هذا اللّفظ، بل المهمّ أن يفهمَ المخاطَب ويَستوعب ما يُقال له. مضافاً إلى أنّ بعضَ ما ورد في هذا الخبر غيرُ واجبِ الاعتقادِ به بالتّفصيل، وخاصّةً مع الغَفلة عنه. ولذا علَّق عليه (صاحب الوسائل): «الظّاهر أنّ هذه أفضلُ الكيفيّات».

قضاءُ الله سبحانَه

إنّ المحاربين والمعارضين مهما أوتوا من جهد وقوّة أو كَثرة أو قلّة، لن يستطيعوا أن يُغيّروا قضاء الله وقَدَره. وإنّ لكلّ حكمٍ مهما كانت صفتُه أمَداً يبدأ به وينتهي إليه، ولا رادَّ لقضاء الله سبحانه بذلك.

- عن الإمام الصادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام (في وصية النّبيّ صلّى الله عليه وآله لعليٍّ عليه السّلام)، قال: «يا عَلِيُّ، إِنَّ إِزالَةَ الجِبالِ الرّواسي أَهْوَنُ مِنْ إِزالَةِ مُلْكٍ لَمْ تَنْقَضِ أَيّامُهُ».

- وقال الإمام السجّاد، زينُ العابدين عليه السّلام، في الدّعاء: «.. ذَلَّتْ لِقُدْرَتِـكَ الصِّعَابُ، وَتَسَبَّبَتْ بِلُطْفِكَ الأَسْبابُ، وَجَرى بِقُدْرَتِكَ الْقَضَاءُ، وَمَضَتْ عَلى إرَادَتِكَ الأَشْياءُ، فهيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ، وَبِإرَادَتِكَ دُونَ نَهْيِكَ مُنْزَجِرَةٌ. أَنْتَ الْمَدْعُوُّ لِلْمُهِمَّاتِ، وَأَنْتَ الْمَفزَعُ فِي الْمُلِمَّاتِ، لاَ يَنْدَفِعُ مِنْهَا إلّا مَا دَفَعْتَ، وَلا يَنْكَشِفُ مِنْهَا إلّا مَا كَشَفْتَ».

إلى أن يقول صلوات الله عليه: «فَلاَ مُصْدِرَ لِمَا أَوْرَدْتَ، وَلاَ صَارِفَ لِمَا وَجَّهْتَ، وَلاَ فَاتِحَ لِمَا أغْلَقْتَ، وَلاَ مُغْلِقَ لِمَا فَتَحْتَ، وَلاَ مُيَسِّرَ لِمَا عَسَّرْتَ، وَلاَ نَاصِرَ لِمَنْ خَذَلْتَ..». إلى آخر الدّعاء.

حرمةُ الغدر والخيانة

- عن طلحة بن زيد، عن أبي عبد الله، الإمام الصادق عليه السلام: «.. لا يَنْبَغي للمُسْلِمينَ أَنْ يَغْدُروا، وَلا يَأْمُروا بِالغَدْرِ، وَلا يُقاتِلوا مَعَ الّذينَ غَدَرُوا..». الحديث.

- وعن الأصبغ بن نباتة، قال: قال أمير المؤمنين، عليه السّلام، ذاتَ يومٍ وهو يخطبُ على منبر الكوفة: «أَيُّها النّاسُ! لَوْلا كَراهَةُ الغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهى النّاسِ. أَلا إِنَّ لِكُلِّ غُدَرَةٍ فُجَرَةً، وَلِكُلِّ فُجَرَةٍ كُفَرَةً، أَلا وَإِنَّ الغَدْرَ وَالفُجورَ وَالخِيانَةَ في النّارِ». إلى غير ذلك من الأخبار.

الذِّمَام

الذِّمام محترمٌ بين المسلمين، فمَن أجار شخصاً أو جماعةً من الأعداء، وجب َعلى الآخرين الالتزام بذِمامه واحترام عَملِه. وقد وردت في ذلك عدّة أخبار:

- منها: عن الإمام الصّادق عليه السلام، قال الرّاوي: «قلتُ له: ما معنى قولِ النبيّ صلَّى الله عليه وآله: يَسْعَى بِذِمَّتِهم أَدْنَاهُم؟ قال: لَوْ أَنَّ جَيْشاً مِنَ المُسْلِمينَ حاصَروا قَوْماً مِنَ المُشْرِكينَ، فَأَشْرَفَ رَجُلٌ فَقالَ: أعْطوني الأَمانَ حَتّى أَلْقَى صاحِبَكُمْ وَأُناظِرَهُ، فَأَعطاهُ أَدْناهُمُ الأَمانَ، وَجَبَ عَلى أَفْضَلِهِمُ الوَفاءُ بِهِ».

* والمُراد من «صاحبكم»: الإمام أو القائد. وإنّما عبّرَ بذلك لكونه غيرَ مؤمنٍ به لحَدِّ قوله ذلك.

- رُوي أيضاً عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «أَنَّ عَلِيّاً أَجازَ أَمانَ عَبْدٍ مَمْلوكٍ لِأَهْلِ حِصْنٍ مِنَ الحُصونِ. وقَال: هُوَ مِنَ المُؤْمِنينَ».

- وعن الإمام الباقر عليه السّلام: «ما مِنْ رَجُلٍ آمَنَ رَجُلاً عَلى ذِمَّةٍ ثُمَّ قَتَلَهُ، إِلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيامَةِ يَحْمِلُ لِواءَ الغَدْرِ».

وهذا بالطبع ثابتٌ ومن ضروريّات الفقه، ما لم تَحدث هناك مصلحة أعلى من ذلك في حفظ المجتمع المسلم، إلَّا أنّ حدوثَ ذلك نادر، لأنّ الذي يُعطي الأمان إنّما يُعطيه بعد أخْذِ كلّ ما يعرف من الملابسات بنَظر الاعتبار. فلا يقع في الخطأ إلَّا نادراً.

الأمان

مَن تخيّلَ خطأ من الأعداء المشركين - فرداً أو جماعةً - أنّه داخلٌ في أمان المسلمين أو ذِمّتهم، بأيّ سببٍ كان ذلك؛ كان ذلك الفرد أو الجماعة في أمان حتّى يرجعوا إلى مأمنِهم.

عن أبي عبد الله، الإمام الصادق عليه السلام، قال: «لَوْ أَنَّ قَوْماً حَاصَروا مَدينَةً فَسَأَلوهُمُ الأَمانَ، فَقالوا: لا. فَظَنّوا أَنَّهُمْ قالوا: نَعَمْ، فَنَزَلوا إِلَيْهِمْ، كَانوا آمِنينَ».

* ومعنى: «نَزلوا إليهم»: تخلّوا عن تحصُّنهم أو سلاحِهم اطمئناناً بأمان المسلمين.

وبعد التجريد عن الخصوصيّة يعمُّ الحكم لكلّ حالة. وهذا ما فعلَه المحقّق الحلّي. فقد كرّر - في كتاب الجهاد من (الشّرائع) - ذلك في عدّة مسائل:

* قال عن الذِّمام: «وَلَو أذمَّ المراهقُ أو المجنون لم ينعَقِد، لكنْ يُعاد إلى مَأْمَنِه. وكذا كلُّ حّربيٍّ دخلَ في دار الإسلام بشُبهة الأمان. كأنْ يسمعَ لفظاً فيعتقدَه أماناً، أو يصحبَ رِفقةً فيتوهّمها أماناً».

* وقال: «ولو ادّعى الحربيُّ على المسلم الأمان، فأنكرَ المسلمُ فالقولُ قولُه. ولو حِيلَ بينَه وبين الجواب بموتٍ أو إغماءٍ لم تُسمَع دعوى الحربيّ. وفي الحالَين يُرَدُّ إلى مأمنِه. ثمّ هو حرب».

* وقال: «ولو مات الحاكم (بالهدنة) قبل الحُكم بطلَ الأمان، ويُرَدّون إلى مأمنِهم». إلى غير ذلك من الفتاوى.

(الشهيد السيد محمّد الصدر، ما وراء الفقه: ج 2، ص 378، بتصرّف)

 

 

وقعةُ الماء، أوّل وقعة صِفِّين

ـــــــــــــــــــــ تنسيق: «أسرة التحرير» ـــــــــــــــــــــــــــــــ

* عندما وصل الإمام عليّ عليه السّلام مع جيشٍ قوامُه تسعين ألفاً، إلى «صِفّين» - الرّقّة في الشّام - سنة 38 هجريّة لحرب معاوية، أمر معاوية جيشَه - الذي كان تسعين ألفاً أيضاً - بمَنْع جيش الإمام من الوصول إلى الماء.

* وبعد أن استعاد جيشُ الإمام عليه السلام الماء بعد مواجهاتٍ قاسية، أباح الإمامُ الماء لمعاوية وجيشه ولم يُعامِلهم بالمثل.

* ما يلي عرضٌ لمسار هذه الوقعة الأولى التي عُرفت باسم «وقعة الماء في صِفّين» تقدّمها «شعائر» بتصرّف، من (تاريخ ابن أعثم) المعروف باسم (فتوح أعثم).

قال ابنُ أعثم في كتابه (الفتوح):

* نزل عليٌّ عليه السّلام بالعساكر والأثقال [في «صِفِّين» بالشّام] وذلك في النّصف من المحرّم سنة ثمان وثلاثين [هجريّة]، وأمر معاوية أصحابه فنزلوا على شاطئ الفرات وحالوا بين عليٍّ عليه السّلام وأصحابه وبين الماء.

 * وأرسل أصحاب عليٍّ عليه السّلام ليَستقوا الماء من الفرات، فإذا هم بأبي الأعور [قائد جيش معاوية] وقد صفّ خيلَه على شاطئ الفرات وحال بينَهم وبين الماء، ووثبَ الناسُ إلى عليٍّ عليه السّلام يُخبرونه بذلك.

* ودعا عليٌّ عليه السّلام بشَبَث بن رِبْعي الرّياحيّ، وصَعْصَعة بن صوحان العَبديّ، فقال لهما: «انْطَلِقا إِلى مُعاوِيَةَ فَقُولا لَهُ: إِنَّ خَيْلَكَ قَدْ حالَتْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الماءِ، وَلَوْ كُنّا سَبَقْناكَ لَمْ نَحُلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنْ شِئْتَ فَخَلِّ عَنِ الماءِ حَتّى نَسْتَوِيَ فيهِ نَحْنُ وَأَنْتَ، وَإِنْ شِئْتَ قاتَلْناكَ عَلَيْهِ حَتّى يَكونَ لِمَنَ غَلَبَ، وَتَرَكْنا ما جِئْنا لَهُ مِنَ الحَرْبِ».

فأقبلَ شَبَث فقال: يا معاوية، إنّك لستَ بأحقّ من هذا الماء منّا، فخَلّ عن الماء، فإنّنا لا نموت عَطَشاً وسيوفُنا على عواتقنا.

ثمّ تكلّم صَعْصَعة بن صوحان فقال: يا معاوية! إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبٍ يقول لك: «إِنَّنا قَدْ سِرْنا مَسيرَنا هَذا وَإِنّي أَكْرَهُ قِتالَكُمْ قَبْلَ الإِعْذارِ إِلَيْكُمْ، فَإِنَّكَ قَدَّمْتَ خَيْلَكَ فَقاتَلْتَنا مِنْ قَبْلِ أَنْ نُقاتِلَكَ، وَبَدَأْتَنا بِالقِتالِ وَنَحْنُ مَنْ رَأَيْنا الكَفَّ حَتّى نُعْذِرَ إِلَيْكَ وَنَحْتَجَّ عَلَيْكَ، وَهَذِهِ مَرَّةٌ أُخْرَى قَدْ فَعَلْتُموها، حُلْتُمْ بَيْنَ النّاسِ وَالماءِ، وَأَيْمُ اللهِ لَنَشْرَبَنَّ مِنْهُ شِئْتَ أَمْ أَبَيْتَ! فَامْنُنْ إِنْ قَدِرْتَ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَغْلِبَ فَيَكونَ الغالِبُ هُوَ الشّارِبُ».

فقال [معاوية] لعمرو بن العاص: ما ترى أبا عبد الله؟ فقال: أرى أنّ عليّاً لا يظمأ وفي يده أعنّةُ الخيل، وهو ينظر إلى الفرات، دونَ أن يشرب منه، وإنّما جاء لغير الماء، فخَلّ عن الماء حتّى يشربَ ونشرب.

فقال الوليد بن عقبة: يا معاوية! إنّ هؤلاء قد منعوا عثمان بن عفّان الماء أربعين يوماً وحَصَروه، فامنَعهم إيّاه حتّى يموتوا عَطَشاً واقتلهم، قاتلهم اللهُ أنّى يؤفَكون!

ثمّ تكلّم عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح [من أركان حرب معاوية]، فقال: لقد صدقَ الوليد في قوله: فامنَعهم الماء، منعَهم اللهُ إيّاه يومَ القيامة!

فقال صَعصعة: إنّما يمنعُه اللهُ يومَ القيامة الكفَرة الفسَقة الفجَرة مثلَك ومثلَ نظرائك، هذا الذي سمّاه اللهُ في الكتاب فاسقاً؛ الوليد بن عقبة الذي صلّى بالناس الغداةَ أربعاً وهو سكران.

ثمّ قال: أزيدُكم؟ فجُلد الحدَّ في الإسلام.

قال: فثاروا إليه بالسيوف، فقال معاوية: كفّوا عنه، فإنّه رسول.

ثمّ وثب «السّليل بن محرم السَّكونيّ» إلى معاوية، وجعل يقول:

اسْمَعِ اليَوْمَ ما يَقولُ السّليلُ

إِنَّ قَوْلي قَوْلٌ لَهُ تَأْويلُ

امْنَعِ الماءَ مِنْ صحابِ عَلِيٍّ

أَنْ يَذوقوهُ وَالذَّليلُ ذَليلُ

وَاقْتُلِ القَوْمَ مِثْلَ ما قَتَلُوا الشَّيْـ‍

خَ ظَمَاً، وَالقِصاصُ أَمْرٌ جَميلُ

إِنَّه وِالذي تُساقُ لَهُ البُدْ

نُ هَدايا لنَحْرِهِنّ نحولُ

لَوْ عَلِيٌّ وَصَحْبُهُ وَرَدوا الما

ءَ، لَما ذُقْتُموهُ حَتّى تَقولوا:

قَدْ رَضينا بِمَا حَكَمْتُم عَلَيْنا

بَعْدَ ذاكَ الرِّضا خراجٌ ثَقيلُ

فَامْنَعِ القَوْمَ ماءَكُمْ لَيْسَ لِلْقَوْ

مِ بَقاءٌ، وَإِنْ يَكُنْ فَقَليلُ

 

فقال معاوية: الرأيُ واللهِ ما تقول! ولكن عمرو لا يدعني ورأيي.

ثمّ أخذ معاوية عمامتَه عن رأسه مغضَباً وقال: لا سقى الله معاوية ولا أباه من حوض محمّد إنْ شربَ عليٌّ أو أصحابه من ماء الفرات أبداً، إلّا أن يغلبوا عليه.

فوثب رجلٌ من أهل الشام يقال له «المعراء بن الأقبل بن الأهول»، فقال: ويحكَ يا معاوية! واللهِ لو سبقَك عليٌّ إلى الماء فنزلَ عليه من قبلِك إذاً لما منعَك منه أبداً! ولكنْ أخبرني عنكَ أنّك إذ أنت منعتَه الماءَ من هذا الموضع، ألا تعلمُ أنّه يرحلُ من موضعِه هذا وينزلُ على مَشرَعَةٍ أخرى فيشرب منه، ثمّ يحاربك على ما صنعت؟

ألا تعلم أنّ فيهم العبيد والإماء والضّعيف ومَن لا ذنب له؟ هذا واللهِ أوّلُ البَغي والفجور! واللهِ لقد حملتَ مَن لا يريد قتالك على قتالك [بمَنعك] هذا الماء، فإنْ شئتَ فاغضب وإنْ شئتَ فارضَ، فإنّي لا أدعُ القولَ بالحقّ، ساءَك أم سرّك، ثمّ أنشأ يقول:

لَعَمْرُ أَبي مُعاوِيَةَ بْنِ حَرْبٍ

وَلَيْسَ لَرَأيِهِ عِنْدِي دَواءُ

سِوَى طَعْنٍ يحارُ العَقْلُ فيهِ

وَضَرْبٍ حينَ يخْتَلِطُ الرَّجَاءُ

فَلَسْتُ بِتابِعٍ دينَ ابْنِ هِنْدٍ

طَوالَ الدَّهْرِ ما أَوفى حراءُ

وقَدْ ذَهَبَ العِتابُ فَلا عِتابٌ

وَقَدْ ذَهَبَ الوَفاءُ فَلا وَفاءُ

وَقَوْلي في حَوادِثِ كُلِّ أَمْرٍ

عَلى عَمْرٍو وَصاحِبِهِ العَفاءُ

أَلا للهِ درُّكَ يا ابْنَ هِنْدٍ

لَقَدْ ذَهَبَ الحَياءُ فَلا حَياءُ

أَتَحْمونَ الفُراتَ عَلى رِجالٍ

وَفي أَيْديهِمُ الأَسَلُ الظّماءُ

وَفي الأَعْناقِ أَسْيافٌ حِدادٌ

كَأَنَّ القَوْمَ عِنْدَكُمُ نِسَاءُ

أَتَطمعُ أَنْ [يقرَّ] أبو حسينٍ

بِلا ماءٍ وَلِلأَحْزابِ ماءُ

دَعاهُمْ دَعْوَةً فَأَجابَ قَوْمٌ

كَجُرْبِ الإِبْلِ خالَطَها الهِناءُ

* الهِناء: ضرب من القطران.

فأمر معاوية بقَتل هذا الرجل، فوثب قومٌ من بني عمّه فاستَوهبوه منه، فوهبَه لهم، فلمّا كان اللّيل هربَ إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فصار معه.

وانصرف أصحابُ عليٍّ عليه السّلام من عند معاوية بالخيبة، فاغتمَّ عليٌّ عليه السّلام لِما أصابَ أصحابَه من العطش، ثمّ إنّه خرج ليلاً نحو رايات مَذْحِج، فإذا هو برجلٍ يقول أبياتاً من الشّعر من جوف خيمته:

أَيَمْنَعُنا القَوْمُ ماءَ الفُراتِ

وَفينا الرِّماحُ وَفينا الحَجَفْ*

وفينا الشَّوازِبُ مِثْلُ الوَشيجِ

وَفينا السُّيوفُ وَفينا الزَّغَفْ**

وَفينا عَلِيٌّ لَهُ سَوْرَةٌ

إِذا خَوَّفوهُ الرَّدى لَمْ يَخَفْ

وَنَحْنُ الّذينَ غَداةَ الزُّبَيْرِ

وَطَلْحَةَ خِضْنا غِمارَ التَّلَفْ

فَما بالُنا أَمْسِ أُسْدَ العَرينِ

وَما بالُنا اليَوْمَ شاءُ النَّجَفْ

* الحَجف : جمع حَجَفَة ، وهي التّرس من جلود الإبل.

** الشّوازب : الخيل الضّامرة . والوشيج : أراد به الرّماح ، وشبّه الخيل بالرّماح في دقّتها وضمرها. والزّغَف: جمع زغفة، وهي الدّرع الطّويلة الواسعة.

".." وجعل الأشتر يرتجزُ ويقول:

لَأُورِدَنَّ خَيْلِيَ الفُراتا

شُعثَ النَّواصي أَوْ يُقالُ مَاتَا

وأصبحَ النّاس واضعي سيوفِهم على عواتقهم، وتقدّم الحارثُ بن هشام وهو يرتجز ويقول:

يا أَشتر الخَيْراتِ يا خَيْرَ النَّخَعْ

وَصاحِبَ النَّصْرِ إِذا عَمَّ الفَزَعْ

وَكاشِفَ الكَرْبِ إِذِ الأَمْرُ وَقَعْ

إنْ تَسْقِنَا المَاءَ فَمَا ذَا بِالبِدَعْ

أو نعْطَشِ اليَوْمَ فخيرٌ مُنْقَطعْ

فَذَاك إنْ شِئْتَ، وإنْ شِئْتَ فَدَعْ

   

 

قال: فَدَنا منه الأشترُ فقبّلَ بين عينَيه.

وأقبلَ الأشعث بن قيس على صاحبِ رايته واسمه الحارث بن حِجر الكنديّ، فقال له: ابنَ حِجر! واللهِ ما النّخعُ بخيرٍ من كِندة، ولا الأشترُ بخير منّي! فتقدّم، فداك أبي وأمّي، بالراية! "..".

 وتقدّم فتًى من أصحاب عليٍّ عليه السّلام، وفي يده رمحٌ له وهو يقول:

أَنَعْطَشُ اليَوْمَ وَفينا الأَشْعَثُ

وَالأَشْتَرُ الخَيْر كَلَيْثٍ يبعثُ

"..".

قال: وتقدّم رجلٌ من همدان في كفّه سيفٌ له مشهور، وهو يرتجز ويقول: خلّوا لنا ماء الفرات الجاري "..".

وتقدّم «ظبيان بن عُمارة التّميمي» وهو يَرتجز ويقول:

هَلْ لَكَ يا ظَبْيانُ مِنْ بَقاءِ

في فُسْحَةِ الدّنيَا بِغَيْرِ ماءِ

ألا وَربِّ الأَرْضِ وَالسَّماءِ

فَاضْرِبْ وُجوهَ الرِّجْسِ الأَعْداءِ

بِالسَّيْفِ عِنْدَ حَمَسِ اللّقاءِ

حَتّى يُجيبوكَ إِلى السَّواءِ

 

وخَشِيَ أهلُ العراق أن [يتمكّن] أهل الشام (من تثبيت غلبَتهم) على الماء، فأمر الأشعث الرَّجّالة، فتقدّم أكثر من أربعة آلاف رجل حتّى بركوا خلف الأَتْرِسة والحَجَف.

وجعل الأشعث يقدّم رمحَه ويقول: بأبي أنتم وأمّي يا أهل العراق، تقدّموا. فلم يَزَلْ يفعلْ ذلك هو والأشتر جميعاً وصاحوا بأصحاب معاوية: خلّوا عن الماء. فقال «أبو الأعور السّلمي»: هيهات، واللهِ حتّى تأخذَنا وإيّاكم السّيوف، فقال الأشعث: بلى والله أظنّ أنّها قد دَنَتْ منّا ومنكم.

ونظر الأشتر إلى عمرو بن العاص واقفاً في أوّل القوم فصاح به: ويلك يا عَمرو! لقد كنتُ أظنّ أنّ لك رأياً، أتظنّ أننا نخلّيك والماء؟ أي تَرِبَت يداك، وثكلتك أمُّك! أما علمتَ أنّنا أفاعي أهلِ العراق؟ لقد رمتَ أمراً عظيماً.

فقال له عمرو: ستعلمُ يا أشتر أيّنا يُوفي بالعهد ويتمّ على العقد. قال: فتبسّم الأشتر، وهو يقول:

وَيْلَكَ يا بْنَ العَاصي

تَنَحَّ في القَواصي

وَاهْرُبْ إِلى الصَّياصي

مِنْ شِدَّةِ المَناصِ

فَاليَوْمَ في العِراصِ

يُؤْخَذُ بِالنَّواصي

مِنْ حَذَرِ القِصاصِ

في الأَدْرَعِ الدِّلاصِ

 

قال: وجعل عمرو يقول:

وَيْلَكَ يا بْنَ الحارِثْ

أَنْتَ العَدوُّ النّاكِثْ

أَنْتَ الكَذوبُ الحانِثْ

احمل مالَ الوارِثْ

وَفي الضَّلالِ لابِثْ

وَفي القُبورِ ماكِثْ

قال: فحمل عليه الأشتر ليضربَه بسيفه، فمرّ عمرو من بين يديه هارباً حتّى اختلط بأهل الشام.

وصاح الأشعث بالرجّالة والأشتر بالخَيل، واختلط القوم على شاطئ الفرات فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقُتل من أهل الشام جماعةٌ كثيرة وغرق منهم في الفرات مثل ذلك، وولّوا الأدبار منهزمين، وصار الماء في يد عليّ عليه السّلام وأصحابه، فأنشأ «النجاشي» يقول:

كَشَفَ الأَشْتَرُ عَنّا

سَكْرَةَ المَوْتِ عَيانا

بَعْدَما طارَتْ حِصانا

طَيْرَةً مَسَّتْ لَهانا

إِذْ حَمى القَوْمُ حِماهُم

ثُمَّ لَمْ يُحْمَ حِمانا

قد دعا الأَشْعَثُ قَوْماً

مِنْ مَعَدٍّ وَدَعانا

فَمَنَحْنا القَوْم في النَّقْـ‍

عِ ضِراباً وَطِعانا

فَلَهُ المَنُّ عَلَيْنا

وَبِهِ دارَتْ رَ  حانا

لَبِسَ التّاجَ غُلاما

ثُمَّ لَمْ يَثْنِ عِنانا

نَذْرَعُ الأَرْضَ بِريحٍ

قابَهُ كانَ [خُطانا]

فَنَهَضْنا نَهْضَةَ البا

زِيِّ لَمْ نَبْغِ سِوانا

ساعَةً، ثُمَّ تَوَلّوا

وَحَمى الأَشْعَثُ مانا

وَبِمِثْلِ الأَشْعَثِ اليَوْ

مَ لَكَ الخَيْرُ كَفانا

عَنْ هَوَى المُلْكِ ابْنُ قَيْسٍ

قَدْ حَمانا وَرَعانا

ثم أقبل عمرو بن العاص على معاوية فقال: ما تقول الآن إنْ منعَك عليٌّ الماء كما منعتَه إيّاه؟

فقال معاوية: دعْ عنك هذا، ولكن ما ظنّك بعَلِيّ؟

فقال عمرو: ظنّي واللهِ بعليٍّ أنّه لا يستحلّ منك مثلَ الذي استحلَلْتَ منه، لأنّه إنّما جاء لغير الماء، وقد كنتُ أشرتُ عليك في بدء الأمر أنْ لا تمنعه الماء، فخالفتني وقبلت من (ابن) أبي سَرح، فقلّدت نفسك عاراً يحدّث به إلى آخر الأبد، ثم قال:

أَمَرْتُكَ أَمْراً فَفَسَخْتَهُ

[وخَالَفَني ابنُ أبي سَرحَه]

وَأَغْمَضْتَ في الرّأْيِ إِغْماضَةً

وَلَمْ تَرَ في الحَرْبِ كَالفُسْحَة

فَكَيْفَ رَأَيْتَ كِباشَ العِراقِ

أَلَمْ يَنْطَحُوا جَمْعَنا نَطْحَة

أَظُنُّ لَها اليَوْمَ ما بَعْدَها

وَميعادُ ما بَيْنَنا صُبْحَة

فَإِنْ يَنْطَحونا غَداً مِثْلَها

فَقَدْ قَدّموا الخَبْطَ وَالنَّطْحَة

وَقَدْ شَرِبَ القَوْمُ ماءَ الفُراتِ

وَقَلَّدَكَ [الأشترُ] الفَضْحَة

 

وأرسل عليٌّ عليه السلام إلى أصحابه أنْ خلّوا بينهم وبين الماء ولا تَمنعوهم إيّاه.

قال: فكان أصحابُ عليٍّ عليه السّلام وأصحاب معاوية يَرِدون الماء بالقِرَب والأسقية، يَستقون ويسقون الخيلَ والإبل، ما يؤذي أحدٌ منهم أحداً.

 

(أنظر: إبن أعثم، الفتوح: ج 2/ ص 569، وج 3/ ص 5،

مصحّحاً على «وقعة صفين» لنصر بن مزاحم المنقري)

 

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

منذ 6 أيام

دوريّات

نفحات