فكر ونظر

فكر ونظر

08/01/2016

إجماعُ المسلمين على فضيلة التعبّد بالمستحبّات

 

التقرّب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل

إجماعُ المسلمين على فضيلة التعبّد بالمستحبّات

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلامة المجلسي رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: يَا رَبِّ، مَا حَالُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَكَ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وأَنَا أَسْرَعُ شَيْءٍ إِلَى نُصْرَةِ أَوْلِيَائِي. ومَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه كَتَرَدُّدِي عَنْ وَفَاةِ الْمُؤْمِنِ يَكْرَه الْمَوْتَ وأَكْرَه مَسَاءَتَه. وإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُه إِلَّا الْغِنَى، ولَوْ صَرَفْتُه إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ. وإِنَّ مِنْ عِبَادِيَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُصْلِحُه إِلَّا الْفَقْرُ، ولَوْ صَرَفْتُه إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ لَهَلَكَ. ومَا يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْه، وإِنَّه لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّه، فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ - إِذاً - سَمْعَه الَّذِي يَسْمَعُ بِه، وبَصَرَه الَّذِي يُبْصِرُ بِه، ولِسَانَه الَّذِي يَنْطِقُ بِه، ويَدَه الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُه وإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُه».

هذا الحديث هو الثامن من (باب من آذى المسلمين واحتقرهم)، في الجزء الثاني من (أصول الكافي)، للشيخ الكليني، وقد صحّحه العلّامة المجلسي في (مرآة العقول: ج 10/ ص 389) فقال: «الحديث الثامن: صحيح. وقال الشيخ البهائي برّد الله مضجعَه: هذا الحديث صحيحُ السند، وهو من الأحاديث المشهورة بين الخاصّة والعامة، وقد رَووه في صحاحهم بأدنى تغيير‌«.

هذا المقال هو شرح فقرات من هذا الحديث الشريف، ضمّنه العلامة المجلسي آراء كبار العلماء والمحقّقين.

 

* «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ»: أُسري - بالبناء - للمفعول من السُّرى على وزن هُدى، وهو السير في الليل. وأما تقييده بالليل في قوله تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا..﴾ الإسراء:1، فللدلالة بتنكير الليل على تقليل مدة الإسراء، مع أنّ المسافة بين المسجدين مسير أربعين ليلة.

* «مَا حَالُ الْمُؤْمِنِ عِنْدَكَ؟»: أي ما قدره ومنزلته؟

* «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ»: المراد بالوليّ المحبّ، وبالمبارزة بالمحاربة إظهارها والتصدّي لها.

* «ومَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُه»: نسبة التردّد إليه سبحانه يحتاج إلى التأويل، وفيه وجوه:

الأوّل: أنّ في الكلام إضماراً، والتقدير لو جاز عليَّ التردّد ما تردّدت في شيء كتردّدي في وفاة المؤمن.

الثاني: المراد به والله أعلم: ليس لشيءٍ من مخلوقاتي عندي قدر وحرمة كقدر عبدي المؤمن وحرمته، فالكلام من قبيل الاستعارة التمثيلية.

الثالث: يمكن أن يكون التردّد إشارة إلى المحو والإثبات في لوحهما، فإنّه يُكتب أجله في زمانٍ وآنٍ فيدعو لتأخيره أو يتصدّق فيمحو الله ذلك ويؤخّره إلى وقت آخر، فهو يشبه فعل المتردّد، أطلق عليه التردّد على وجه الاستعارة، هذا بحسب ما ورد في (لسان الشريعة).

* «يَكْرَه الْمَوْتَ وأَكْرَه مَسَاءَتَه»: جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً، كأنّ سائلاً يسأل ما سبب التردد؟ فأُجيب بذلك.

قال الشيخ البهائيّ روّح الله روحه: «قد يُتوهّم المنافاة بين ما دلّ عليه هذا الحديث وأمثاله من أنّ المؤمن الخاصّ يكره الموت ويرغب في الحياة، وبين ما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَه، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَه)، فإنّه يدلّ بظاهره على أنّ المؤمن الحقيقي لا يكره الموت بل يرغب فيه، كما نُقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه كان يقول: (والله لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّه)، وأنّه قال حين ضربه ابن ملجم عليه اللعنة: فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَة».

وقد أجاب عنه شيخنا الشهيد في (الذكرى)، فقال: «إنّ حبّ لقاء الله غير مقيّد بوقت، فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يحبّ، كما روينا عن الصادق عليه السلام، ورووه في (الصحاح) عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنّه قال: مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لِقَاءَه، ومَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَه.

قيل: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّا لَنَكْرَه الْمَوْتَ؟

فقالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ المُؤْمِنَ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ بُشِّرَ بِرضْوانِ اللهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبّ إِلَيْه مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ وَأَحَبَّ اللهُ لِقَاءَهُ، وإنَّ الكَافِرَ إِذا احْتَضَرَهُ (حضرَه الموتُ) يُبَشَّرُ بِعَذابِ اللهِ، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ فَكَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ».


كشفُ الحُجُب عن القلب بالنّوافل

* «وإِنَّه لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّافِلَةِ حَتَّى أُحِبَّه»: النوافل جميع الأفعال الغير الواجبة، وأمّا تخصيصها بالصلوات المندوبة فعرفٌ طار، ومعنى محبّة الله سبحانه للعبد هو كشفُ الحجاب عن قلبه وتمكينه من أن يطأَ على بساط قربه، فإنّ ما يوصف به سبحانه إنّما يؤخَذ باعتبار الغايات لا باعتبار المبادئ، وعلامة حبّه سبحانه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور والترقّي إلى عالم النور، والأنس بالله والوحشة عمّا سواه، وصيرورة جميع الهموم همّاً واحداً. قال بعض العارفين: «إذا أردتَ أنْ تعرفَ مَقامَكَ فَانْظُرْ فِيما أَقَامَك».


* «فَإِذَا أَحْبَبْتُه كُنْتُ سَمْعَه الَّذِي يَسْمَعُ بِه» إلخ: تمسّك بعض الصوفية والاتحادية والحلولية والملاحدة بظواهر تلك العبارات، وأعرضوا عن بواطن هذه الاستعارات فضلّوا وأضلّوا، مع أنّ عقل جميع أرباب العقول يحكم باستحالة اتّخاذ شيء مع أشياء كثيرة متباينة الحقائق مختلفة الآثار، وأيضاً ما ذكروه من الكفر الصريح لا اختصاصَ له بالمحبّين والعارفين، بل يحكمون باتّحاده تعالى بجميع أصناف الموجودات، سبحانه وتعالى عمّا يقولون علوّاً كبيراً.

فهذه الأخبار نافية لمذاهبهم الفاسدة الخبيثة لا مثبِتة لها، ولها عند أهل الإيمان وأصحاب البيان وأرباب اللسان معانٍ واضحة ظاهرة تقبلها الأذهان، ومبنيّة على مجازات واستعارات شائعة في الحديث والقرآن، ومشتملة على نكات بليغة استحسنها أرباب المعاني، ولا تنافي عقائد أهل الإيمان، وهي كثيرة نومئ هنا إلى بعضها.

الأول: ما ذكره الشيخ البهائي قدس سرّه حيث قال: «لأصحاب القلوب في هذا المقام كلمات سَنيّة وإشارات سرية وتلويحات ذوقية تعطّر مشام الأرواح وتُحيي رميم الأشباح، لا يهتدي إلى معناها ولا يطّلع على مغزاها إلا مَن أتعب بدنه في الرياضات وعنّى نفسه بالمجاهدات حتى ذاق مشربهم وعرف مطلبهم، وأمّا مَن لم يفهم تلك الرموز ولم يهتدِ إلى هاتيك الكنوز لعكوفه على الحظوظ الدنيّة وانهماكه في اللذات البدنية، فهو عند سماع تلك الكلمات على خطرٍ عظيمٍ من التردّي في غياهب الإلحاد، والوقوع في مهاوي الحلول والاتّحاد، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، ونحن نتكلّم في هذا المقام بما يسهل تناوله على الأفهام. فنقول: هذا مبالغة في القرب وبيانٌ لاستيلاء سلطان المحبّة على ظاهر العبد وباطنه وسرّه وعلانيته.

فالمراد والله أعلم: أنّي إذا أحببتُ عبدي جذبتُه إلى محلّ الأنس، وصرفتُه إلى عالم القُدس، وصيَّرتُ فكره مستغرقاً في أسرار الملكوت، وحواسّه مقصورةً على اجتلاء أنوار الجبروت، فيثبت حينئذٍ في مقام القرب قدمُه، ويمتزج بالمحبّة لحمُه ودمُه، إلى أن يغيب عن نفسه ويذهلَ عن حسّه، فيتلاشى الأغيارُ في نظره، حتّى أكون له بمنزلة سمعه وبصره، كما قال مَن قال:


جُنُوني فيكَ لا يَخْفَى

وَنارِي مِنْكَ لَا تَخْبُو

فَأَنْتَ السَّمْعُ والإبْصَارُ

والأرْكَانُ والقَلْبُ».

 

الثاني: قيل إنّ المعنى هو أنّي إذا أحببته كنتُ كَسمعه وبصره في سرعة الإجابة. فقوله: «إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُه» إشارة إلى وجه التشبيه، يعني أنّي أجيبه سريعاً إن دعاني إلى مقاصده كما يجيبه سمعه عند إرادته سماع المسموعات، وبصره عند إرادته أبصار المبصرات. وهذا مثل قول الناس المعروف بينهم: فلانٌ عيني ونورُ بصري ويدي وعضُدي، وإنّما يريدون به التشبيه في معنًى من المعاني المناسبة للمقام، ويسمّون هذا تشبيهاً بليغاً بحذف الأداة، مثل: زيدٌ أسد.

الثالث: أنّ المعنى أنّه تعالى هو المطلوب لهذا العبد عند سمعه للمسموعات وبصره للمبصرات وهكذا، يعني منّي يسمع المسموعات وبها يرجع إليّ، والمقصود أنّه يبتدئ بي في سماع المسموعات وينتهي إليّ، فلا يصرف شيئاً من جوارحه فيما ليس فيه رضاي، كما في الحديث: «ما رأيتُ شيئاً إلّا وَرَأيتُ اللهَ قَبلَهُ أو بعدَهُ أو مَعَهُ». وعلى هذا يرجع الحمل إلى المبالغة في السببية أو الغائية، ويؤيّده ما ورد في رواية أخرى: «فَبِي يَسْمَعُ وَبِي يُبْصِرُ وَبِي يَمْشِي وَبِي يَنْطقُ».


الرابع: أنّه لكثرة تخلّقه بأخلاق ربّه ووفور حبّه لجناب قدسه، تخلّى عن محبّته وإرادته، فلا يسمع إلّا ما يحبّه تعالى، ولا ينظر إلّا إلى ما يحبّه تعالى، ولا يبطش إلّا إلى ما يوصل إلى قربه سبحانه، وقريبٌ منه ما قيل: «لا يسمعُ إلّا بِحَقٍّ وإلى حَقٍّ، ولا يَنْظُرُ إلَّا بِحَقٍّ وإِلى حَقٍّ، ولا يَبْطِشُ إلَّا بِإذْنِ الحَقِّ، ولا يَمْشِي إلَّا إلى مَا يَرْضَى بِهِ الحَقُّ، وهُو المُحِقُّ الوَلِيّ والمُؤمِنُ حقّاً، الّذي انزاحَ عَنْهُ كُلُّ بَاطِلٍ وَصَارَ واقِفاً مَع الحَقِّ»، وهو قريبٌ من الوجه الثالث.

الخامس: ما ظهر لي في بعض المقامات وهو أظهرُ عندي من سائر الوجوه، وتفصيله يحتاج إلى بسطٍ وسيعٍ في الكلام لا يسَعُه هذا المقام، ومحصّله أنّه سبحانه أَودَع في بدن الإنسان وقلبه وروحه قوًى ضعيفة هي في معرض الانحلال والاختلال والانقضاء والفناء، فإذا اكتفى بها وصرفها في شهوات النفس والهوى تفنى كلّها، ولا يبقى معه شيءٌ منها ومن ثمراتها إلّا الحسرة والندامة، وإذا استعملها في طاعة ربّه وصرفها في طاعة محبوبة أبدله الله خيراً منها، وأقوى وأبقى تكون معه في الدنيا والعقبى، لقوله تعالى: ﴿..لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ..﴾ إبراهيم:7. فمنها قوّة السمع؛ إذا بذلها في طاعة النفس والشيطان وما يُلهي عن الرحمن، بطل سمعهم الروحانيّ، وهذا السمع الجسمانيّ في معرض الفناء، ولذا قال سبحانه فيهم: ﴿أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾ الفرقان:44. فهم صمٌّ بكمٌ عميٌ في الدنيا والآخرة، فمَثَلهم ﴿..كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً..﴾ البقرة:171، فهم في الدنيا أيضاً كذلك، فإذا بطل بالموت حسُّهم لم يبقَ لهم إلا الضلال والوبال. وإذا صرفها في طاعة ربّه أبدله الله سمعاً كاملاً روحانياً لا يذهب بالصَّمَم ولا بالموت، فهو يسمعُ كلام الملائكة ويُصغي إلى خطاب الربّ تعالى في الآخرة والأولى، ويفهم كلام الله وكلام الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، فما منحَه الله تعالى من سمعٍ قلبيّ روحانيّ لا يضعفُ بضعف البدن ولا يذهبُ بالموت، وبه يسمع في القبر الخطابَ ويعدّ الجواب، ويناديهم الحبيب كما نادى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أهل القليب.

وكذا أودع الله سبحانه حسّاً ضعيفاً في البصر؛ فإذا صرفه في مشتهيات نفسه ذهب الله بنوره وأعمى عين قلبه فهو في الآخرة أعمى وأضلّ سبيلاً، وإذا بذله في طاعة ربّه نوَّر الله عين قلبه وأعطى بصره نوراً أعلى وأقوى، به ينظر إلى الملكوت الأعلى، ويتوسّم في وجوه الخلق ما لا يعرف غيره، ويرى الملائكة الروحانيين كما قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اتّقُوا فراسةَ المُؤمِن، فإنّهُ يَنظُرُ بِنُورِ الله»، وقال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ الحجر:75.

وكذا قوّة البطش البدنية، إذا صرفها في طاعة الله وقُربه ونهكَها بالرياضات الحقّة، أعطاه الله قوّةً روحانية لا تضعف بالأمراض، ولا تذهبُ بالموت، فيها يقدر على التصرّف في عالم المُلك والملكوت، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «مَا قَلَعْتُ بَابَ خَيْبَر بِقُوّةٍ جِسْمَانِيَّةٍ بَلْ بِقُوَّةٍ رَبَّانِيّة».

وكذا النطق إذا صدق فيه وكان موافقاً لعمله ومصادفاً لرضى ربه، فتح الله به ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.

فظهر – ممّا تقدّم - معنى قوله سبحانه: «كُنْتُ سَمْعَه الَّذِي يَسْمَعُ بِه..»، وغير ذلك على ألطف الوجوه لمَن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.

السادس: ما هو أرفع وأوقع وأحلى وأدقّ وألطف وأخفى ممّا مضى، وهو أنّ العارف لمّا تخلّى من شهواته وإرادته، وتجلّى محبّة الحقّ على عقله وروحه ومسامعه ومشاعره، وفوَّض جميع أموره إليه، وسلَّم ورضيَ بكلّ ما قضى ربُّه عليه، يصير الربّ سبحانه متصرِّفاً في عقله وقلبه وقواه، ويدبّر أموره على ما يحبّه ويرضاه، فيريد الأشياء بمشيئة مولاه، كما قال سبحانه مخاطباً لهم: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ..﴾ الإنسان:30، كما ورد في تأويل هذه الآية في غوامض الأخبار عن معادن الحِكم والأسرار والأئمّة الأخيار. ورُوي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «قَلْبُ المؤمِن بين إِصْبَعَيْنِ من أَصابِع الرَّحمَن، يُقَلِّبُها كَيْفَ يَشَاءُ».

وكذلك يتصرّف ربّه الأعلى منه في سائر الجوارح والقوى، كما قال سبحانه مخاطباً لنبيِّه المصطفى: ﴿..وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى..﴾ الأنفال:17، وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ..﴾ الفتح:10، فلذلك صارت طاعتُهم طاعةَ الله، ومخالفتُهم مخالفةً لله تعالى، فاتّضح بذلك معنى قوله تعالى: كنتُ سمعَه وبصره، وأنّه به يسمع ويُبصر، فكذا سائر المشاعر تدرك بنوره وتنويره، وسائر الجوارح تتحرّك بتيسيره وتدبيره، كما قال تعالى: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ الليل:7.

وقريبٌ منه ما ذكره الحكماء في اتّصال النفس بالعقول المفارقة، والأنوار المجرّدة على زعمهم، حيث قالوا: «قد تصير النفس لشدّة اتّصالها بالعقل الفعّال، بحيث يصير العقل بمنزلة الروح للنفس، والنفس بمنزلة البدن للعقل، فيلاحظ المعقولات في لوح العقل ويدبّر العقل نفسه كتدبير النفس للبدن، ولذا يظهر منه الغرائب التي يعجز عنها سائر الناس كإحياء الموتى، وشقّ القمر، وأمثالهما».

قال (صاحب الشجرة الإلهية) الفيض الكاشاني: «كما أنّ النفس في حال التعلّق بالبدن تتوهّم أنّها هي البدن، أو أنّها فيه وإن لم تكن هو ولا فيه، فكذلك النفس الكاملة إذا فارقت البدن وقطعت تعلّقها من شدّة قوّتها ونوريّتها وعلاقتها العشقيّة مع نور الأنوار والأنوار العقليّة، تتوهّم أنّها هي، فتصير الأنوار مظاهر النفوس المفارقة كما كانت الأبدان أيضاً، فهذا هو معنى الاتّحاد، لا بمعنى صيرورة الشيئين شيئاً واحداً، فإنّه باطل».

وما ذكرنا أوفق بالكتاب والسنّة وأنسب بالحقّ ومصطلحات أهله، ولا يتوقّف على إثبات ما نَفَتْه الشريعة من العقول المفارقة القديمة وغيرها، وكثيراً ما يشتبه الحقّ بالباطل كما اشتبه على كثيرٍ من الأوائل.

قال المحقّق نصير الدين الطوسي قدّس الله روحه القدوسيّ: «العارف إذا انقطع عن نفسه واتّصل بالحقّ رأى كلّ  قدرةٍ مستغرقة في قدرته تعالى المتعلّقة بجميع المقدورات، وكلّ علم مستغرقاً في علمه الذي لا يَعزُبُ عنه شيء من الموجودات، وكلّ إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأبّى عنها شيء من الممكنات، بل كلّ وجودٍ وكلّ كمالِ وجودٍ فهو صادرٌ عنه فائضٌ من لدنه. فصار الحقّ حينئذٍ بصره الذي يُبصر به، وسمعه الذي به يسمع، وقدرته التي بها يفعل، وعلمه الذي به يعلم، وَجُودَه الذي به يَجود، فصار العارف حينئذ متخلّقاً بأخلاق الله في الحقيقة».

وقال بعض المحقّقين في شرح هذا الخبر أيضاً: «معنى محبّة الله كشفُه الحجاب عن قلبه وتمكينه إيّاه من قربه، ومعنى المحبّة من العبد ميلُ نفسه إلى الشيء لكمال إدراكه فيه بحيث يحملها على ما يقرّبها إليه، فإذا علم العبد أنّ الكمال الحقيقيّ ليس إلّا لله، وأنّ كلّ ما يراه كمالاً من نفسه أو من غيره فهو من الله وبالله وإلى الله، لم يكن حبّه إلّا لله وفي الله، وذلك يقتضي إرادة طاعته والرغبة فيما يقرّبه إليه، واتّباعه مَن كان وسيلةً له إلى معرفته ومحبّته. قال الله تعالى لرسوله: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ..﴾ آل عمران:31، فإنّ بمتابعة الرسول في عبادته وسيرته وأخلاقه وأحواله ونوافله، يحصل القرب إلى الله، وبالقرب يحصل محبّة الله إيّاه».

وقال بعضهم: «إذا تجلّى الله سبحانه بذاته لأحدٍ، يرى كلّ الذوات والصفات والأفعال متلاشية في أشعّة ذاته وصفاته وأفعاله، ويجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنّها مدبَّرة لها وهي أعضاؤها ولا يلمّ بواحد منها شيء إلّا ويراه ملمّاً به، ويرى ذاته الذات الواحدة، وصفته صفتها، وفعله فعلها، لاستهلاكه بالكلية في عين التوحيد، وليس للإنسان وراء هذه الرتبة مقامٌ في التوحيد.

ولمّا انجذب بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات، استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة، وارتفع التميّز بين القِدَم والحدوث لزهوق الباطل عند مجيء الحقّ.

وقيل: إلى هذا المعنى يشير ما ورد في الحديث النبويّ: (عَلِيٌّ مَمْسُوسٌ  فِي ذَاتِ اللهِ)، ولعل هذا هو السرّ في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة البيان وأمثالها».

وأقول: الاكتفاء بما أسلفنا وأومأنا، وترْك الخوض في تلك المسالك الخطيرة أولى وأحوط وأحرى، والله الموفّق للهدى.

(بتصرّف)

اخبار مرتبطة

  ملحق شعائر/ 21

ملحق شعائر/ 21

  إصدارات عربية

إصدارات عربية

نفحات