الملف

الملف

27/10/2016

الإمام الحسن عليه السلام
السِّبطُ الأكبر، ثاني أئمّة المسلمين


الإمام الحسن عليه السلام

السِّبطُ الأكبر، ثاني أئمّة المسلمين

 

اقرأ في الملف

استهلال

أشبهتَ خَلقي وخُلُقي

دعوةُ ابن نبيٍّ مُجابة

ذُقْ وَبالَ ما كسبتْ يداك

.. ولو وجدتُ أعواناً ما سلَّمتُ له الأمر

إنّي مفارقُك ولاحقٌ بربّي

إعداد: «أسرة التحرير»

 

 

استهلال

التقوى باب كلّ توبة

عن الإمام الحسن عليه السلام، أنّه قال:

إعلموا أنّ الله لم يخلُقكُم عبثاً، وليس بتاركِكُم سُدىً، كتب آجالَكُم وقاسَم بينكم معائشكُم، ليعرف كلُّ ذي لبٍّ منزلته، وأنّ ما قُدِّرَ له أصابه، وما صُرِفَ عنهُ فلنْ يُصيبه، قد كفاكُم مؤونةَ الدّنيا، وفرَّغكُم لعبادتِه، وحَثّكم على الشّكر،

وافترَضَ عليكم الذّكر، وأوصاكم بالتّقوى، وجعَلَ التّقوى منتهى رضاه.

والتّقوى بابُ كلّ توبة ورأسُ كلّ حِكمة وشرف كلّ عمل.

بالتّقوى فاز من فاز من المتّقين. قال الله تبارك وتعالى: ﴿إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً﴾.

وقال: ﴿وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لاَ يَمَسُّهُمْ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.

فاتّقوا اللهَ عبادَ الله! واعلموا أنّه مَن يتّقِ اللهَ يجعل له مخرجاً من الفِتن،

ويُسدّده في أمره، ويهيّئ له رشدَه، ويُفلجه بِحجّته، ويبيِّض وجهَه، ويُعطِهِ رَغبته مع الّذين أنعمَ اللهُ عليهم من النّبيّين والصّدّيقين والشّهداء والصّالحين، وحَسُنَ أولئك رفيقاً.

(تحف العقول، ابن شعبة الحرّاني)

 

 

أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي

موجز في سيرة السِّبط الأكبر عليه السلام

 

* تكشف نصوص المصادر المختلفة التي ترجمت للإمام الحسن عليه السلام، عن خصوصيةٍ أكّدها النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبلَّغها للأمّة بالقول والفعل؛ سواء لناحية انتظار الوحي في تسمية سبطه الزكيّ، أو الشهادات المتوالية بحقّ هذا المولود الربانيّ الذي سيكون له الشأن الرفيع في مسيرة الرسالة الخاتمة.

«شعائر»

 

* في كتاب (شرف النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وآله) لأبي سعيد الواعظ، مرفوعاً إلى جابر بن عبد الله الأنصاريّ، قال:

 «لمّا ولدت فاطمة عليها السلام الحسنَ عليه السلام قالت لأمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام: سَمِّه.

فقال: ما كنتُ لِأسبقَ باسمه رسولَ الله صلّى الله عليه وآله.

فقال رسول الله: ما كنتُ لأسبق باسمه ربّي عزَّ وجلَّ.

فأوحى الله جلّ جلاله إلى جبرئيل: أنّه قد وُلد لمحمّدٍ ابنٌ، فاهبط إليه وهنّئه وقل له: إنّ عليّاً منك بمنزلة هارونَ من موسى، فسمِّه باسم ابنِ هارون.

فهبط جبرئيل فهنّأه من الله تعالى جلّ جلاله، ثمّ قال: إنّ الله تعالى يأمرُك أن تسمّيه باسم ابن هارون.

قال: وما كان اسمُه؟

قال: شُبَّر.

قال: لساني عربيّ.

قال: سمِّه الحسن، فسمّاه الحسن».

* وقال ابنُ الأثير في (أُسد الغابة): «الحسنُ بنُ عليِّ بنِ أبي طالب بنِ عبد المطّلب بنِ هاشم، القرشيّ الهاشميّ، أبو محمّد، سبطُ النبيِّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

وأمُّه، فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، سيدةُ نساءِ العالمين. وهو سيُّد شباب أهل الجنّة، وريحانةُ النبيِّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وشبيهُه.

سمّاه النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم الحسنَ، وعَقَّ عنه يومَ سابعِه، وحلق شعرَه، وأمر أن يُتصدَّق بِزِنَة شعرِه فضّة.

وهو (رابع) أهل الكساء.

قال أبو أحمد العسكريّ: سمّاه النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم الحسن، وكنّاه أبا محمّد، ولم يكن يُعرف هذا الاسم في الجاهليّة.

رُوي عن ابن الأعرابي، عن المفضّل، قال: إنّ الله حجبَ اسمَ الحَسَن والحُسَين، حتّى سمّى بهما النبيُّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ابنَيه الحسنَ والحسين.

قال، فقلت له: فاللّذَين باليمن؟

قال: ذاك حُسْن، ساكنُ السّين، وحَسِين بفتح الحاء، وكسر السين، ولا يُعرف قبلهما».

* قال الإربليّ في (كشف الغمة)، وقال غيره: «ولد الإمام الحسن بن عليّ أمير المؤمنين عليهما السلام، بالمدينة المنوّرة ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، وقيل سنة اثنتين من الهجرة، وكنيته أبو محمّد».

* وقُبض رسول الله صلّى الله عليه وآله وله سبع سنين وأشهر، وقيل: ثمان سنين.

* قال الخوارزميّ في (مقتل الحسين عليه السلام): «.. عن مدرك بن راشد، قال: كنّا في حيطانٍ لابن عباس، فجاء الحسن والحسين فطافا بالبستان.

فقال الحسن: أعندك غداءٌ يا مدرك؟

فقلت له: طعام الغلمان، فجئته بخبزٍ وملح جريش وطاقات بقل، فأكل. ثمّ جيء بطعامه وكان كثير الطعام طيّبه.

فقال: يا مدرك، اجمع غلمان البستان.

فجمعتهم فأكلوا ولم يأكل، فقلت له في ذلك.

فقال: ذاك كان عندي أشهى من هذا.

ثمّ توضأ، ثمّ جيء له بدابّته فأمسك ابن عباس له بالركاب وسوّى عليه، ثمّ مضى.

فقلت لابن عباس: أنت أسنّ منهما، أفتُمسك لهما؟

قال: يا لُكَع، أما تدري مَن هذان؟ هذان ابنا رسول الله، أوَليس ممّا أنعم الله عليّ أن أُمسك لها وأسوّي عليهما؟».

* أمره أبوه أمير المؤمنين عليهما السلام - عندما أُصيب في المسجد - أن يصلّي بالناس.

* وقام بالأمر بعد أبيه وله سبع وثلاثون سنة.

* وأقام في خلافته ستّة أشهر وثلاثة أيام، وصالح معاوية في الخامس عشر من شهر جمادى الأولى سنة 41 للهجرة - على أصحّ الروايات - فحفِظ الدين، وحقنَ دماء المؤمنين، وجرى في ذلك وفق التعاليم الخاصة التي رواها عن أبيه عن جدّه، صلّى الله عليهما وآلهما.

* رجع بعد توقيع الصلح إلى المدينة، فأقام فيها، وبيتُه حرمُها الثاني لأهلها ولزائريها، والحسن من هذين الحرمَين، مشرقُ الهداية، ومعقلُ العلم وموئلُ المسلمين. ومن حوله الطوائف التي نفرت من كلّ فرقة لتتفقّه في الدين، ولتنذر قومها إذا رجعت إليهم، فكانوا تلامذته وحَمَلَة العلم والرواية عنه.

* استُشهد صلوات الله عليه سنة 49 للهجرة. سمّته جعدة بنت الأشعث بما دسّه معاوية إليها، ومنّاها بزواج ولده يزيد، ثمّ نقض عهدها.

وبقي يكابد المرض أربعين يوماً، وتولّى أخوه الحسين غسله وتكفينه ودفنه عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم في «بقيع الغرقد»، مقابل حرم الرسول صلّى الله عليه وآله، من الجهة الشرقية، بعدما منع تحريضُ مروان بن الحكم، الذي كان معاوية قد خطّط معه لهذا المنع، والسبب هو ما صرّح به مروان بن الحكم بقوله: «إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن عند جدّه، والله لَئِن دفنَه ليذهبنَّ فخرُ أبيكِ وصاحبه.. إلى يوم القيامة».

وقد هدم الوهّابيّون في بداية حكم آل سعود القباب التي كانت على أضرحة الإمام الحسن والأئمّة من وُلد الحسين؛ السجّاد والباقر والصادق عليهم السلام.

وما تزال كلّ القلوب المحمديّة في شرق الأرض وغربها تستنكر على الوهّابيّين وآل سعود هذه الإساءة النَّكراء إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

 

..في حديث رســـول الله صلّى الله عليه وآله

استقبل سيّد النبيّين ولادة الإمام الحسن بفرحة الوحي والنبوّة بحامل رايتهما، في أحلك ظرفٍ تواجهه الأمّة من بعده..

* قال صلّى الله عليه وآله: «وأمّا الحسن فإنّه ابني، ووَلَدي، وبضعةٌ مني، وقُرَّةُ عيني، وضياء قلبي، وثمرة فؤادي، وهو سيّد شباب أهل الجنّة، وحجّة الله على الأمّة، أمرُه أمري، وقوله قولي، مَن تَبِعَه منّي، ومَن عصاه فليس منّي. فمَن بكاه لم تَعْمَ عينُه يوم تعمى العيون، ومَن حزن عليه لم يحزن قلبُه يوم تحزن القلوب، ومَن زاره في بقيعه ثبتتْ قدمُه على الصّراط، يوم تزلّ فيه الأقدام».

* وقال فيه صلّى الله عليه وآله:

- «لو كانُ العقل رجلاً لكان الحَسن».

- «أمّا الحسن فله هَيبتي وسؤدُدي، وأمّا الحسين فله جُودي وشجاعتي».

* وقال صلّى الله عليه وآله مخاطباً الحسن عليه السلام: «أشبهتَ خَلْقي وَخُلُقي».

 

دعوةُ ابنِ نبيٍّ مُجابة

شذَرات من علم الإمام الحسن ومعجزاته عليه السلام

 

* ليس وصيّ النبيّ سليمان عليه السلام، آصف بن برخيا، الذي «عنده علمٌ من الكتاب»، بأعلم مِن وصيّ «مَن عنده علمُ الكتاب»، وليست معجزة عصا موسى عليه السلام، ممّا يقصر عنها مقام الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وهو سبط رسول الله صلّى الله عليه وآله وريحانته.

ما يلي، مختارات يسيرة من أجوبة الإمام الحسن عليه السلام في معارف مختلفة يعضدها ظهور بعض كراماته الدالّة على مقام ولايته عليه السلام. 

«شعائر»

 

* روى السّيوطيّ في (الدرّ المنثور): «عن الحسن بن عليّ عليهما السلام، قال: مَن قرأ ثلاث آياتٍ من آخر سورة (الحشر) إذا أصبح؛ فمات من يومه ذلك، طُبع بطابع الشّهداء. وإنْ قرأ إذا أمسى فمات في ليلته، طُبع بطابع الشّهداء».

* قال المحّدث الطبرسيّ في (مستدرك الوسائل): «رُوي عن قطب الرّاونديّ في (فقه القرآن)، عن الحسن بن عليّ عليهما السلام، في قوله تعالى: ﴿.. وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾: أنّها الرّكعتان بعد المغرب تطوّعاً». (ق:40)

* قال الإربليّ في (كشف الغمّة): «قال الشّيخ كمال الدّين بن طلحة:..وكان الحسنُ عليه السلام، يجلس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله، ويجتمع النّاس حوله، فيتكلّم بما يشفي غليل السّائلين، ويقطع حُجج القائلين.... وروى الإمام أبو الحسن عليّ بن أحمد الواحديّ رحمه الله، في (تفسير الوسيط) ما يرفعه بسنده: إنّ رجلاً قال: دخلتُ مسجد المدينة فإذا أنا برجلٍ يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، والنّاس حوله، فقلت له: أخبرني عن ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾ (البروج:3).

قال: نعم، أمّا الشّاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود فيوم عرفة.

فجُزته إلى آخر يحدّث، فقلت له: أخبرني عن ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾.

فقال: نعم، أمّا الشّاهد فيوم الجمعة، وأمّا المشهود فيوم النّحر.

فجزتهما إلى غلامٍ كأنّ وجهه الدّينار، وهو يحدّث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقلت: أخبرني عن ﴿وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ﴾.

فقال: نعم، أمّا الشّاهدُ فمحمّدٌ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمّا المشهود فيومُ القيامة، أما سمعتَه يقول ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً..﴾ (الأحزاب:45)، وقال تعالى: ﴿..ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾ (هود:103).

فسألت عن الأوّل؟ فقالوا: ابن عبّاس، وسألت عن الثّاني؟ فقالوا: ابن عمر، وسألت عن الثّالث؟ فقالوا: الحسن بن عليّ بن أبي طالب..».

* قال المجلسيّ: «..وصحّ عن الحسن بن عليّ أنّه خطب الناس، فقال في خطبته: أنا مِن أهل البيت الذين افترضَ اللهُ مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: ﴿..قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا..﴾ (الشورى:23)، واقترافُ الحسنة مودّتنا أهلَ البيت».

* روى العلامة الحلّي في (كشف اليقين): في تفسير قوله تعالى: ﴿..فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ..﴾ الفتح:29، عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، قال: «استوى الإسلامُ بِسَيفِ عليّ».

* ورُوي عنه عليه السلام: «مَن قرأ القرآنَ كانت له دعوةٌ مجابة، إمّا مُعَجَّلة وإمّا مؤجَّلة».

* وفي (جامع الأخبار) للسّبزواري: «قال الحسنُ بن عليٍّ عليهما السلام: إنّ من أخلاقِ المؤمنين:

- قوّةً في دِين، وكَرَماً في لِين.

- وحَزْماً في عِلم، وعِلماً في حِلم.

- وتَوسِعَةً في نَفَقَة، وقصداً في عبادة.

- وتَحَرُّجاً في طَمَع، وبِرّاً في استقامة.

- لا يَحيفُ على من يُبغض، ولا يأثَم فيمن يُحبّ.

- ولا يدّعى ما ليس له، ولا يَجحَدُ حقّاً هو عليه.

- ولا يَهْمِزُ ولا يَلْمِزُ ولا يَبغي.

- مُتَخَشِّعٌ في الصّلاة، مُتَوَسِّعٌ في الزّكاة.

- شَكُورٌ في الرّخاء، صابِرٌ عند البلاء، قانِعٌ بالّذي له.

- لا يَطمَحُ به الغَيظ، ولا يَجمحُ به الشُّح.

- يُخالِطُ النّاس ليعلمَ، ويسكتُ لِيَسلم.

- يصبرُ إن بُغِيَ عليه، ليكونَ إلهُه الّذي يَجزيه يَنتقِم له».

 

***

* قال الخوارزميّ في (المناقب): «..وقَتل الأشتر (يوم صفّين) من قوم عكّ [قبيلة كانت تقاتل مع معاوية] خلقاً كثيراً، وفقد أهلُ العراق أمير المؤمنين وساءت الظنون، وقالوا: لعلّه قُتل، فعلا البكاء والنحيب، ونهاهم الحسنُ عليه السلام عن ذلك، وقال: إنْ علمتِ الأعداءُ ذلك منكم، اجترؤوا عليكم، وإنّ أمير المؤمنين أخبرني بأنّ قتله يكون بالكوفة.

وكانوا على ذلك إذ أتاهم شيخٌ يبكي، وقال: قُتل أمير المؤمنين وقد رأيتُه صريعاً بين القتلى! فكَثُر البكاء والانتحاب.

فقال الحسن عليه السلام: يا قوم، هذا الشيخ يكذب، فلا تصدّقوه، وإنّ أمير المؤمنين قال: يقتلُني رجلٌ من مراد في كوفتكم هذه».

* وروى الراونديّ في (الخرائج والجرائح): «..عن الصّادق عليه السلام، قال: خرج الحسن بن عليٍّ عليهما السلام، في بعض عُمَرِه [أي أنه عليه السلام كان في سفر لأداء العُمرة] ومعه رجلٌ من وُلد الزبير كان يقول بإمامته، فنزلوا في منهل من تلك المناهل تحت نخلٍ يابس، قد يبسَ من العطش، ففُرش للحسن عليه السلام تحت نخلة وللزبيريّ بحذائه تحت نخلة أخرى.

فقال الزبيريّ - وقد رفع رأسه: لو كان في هذه النخلة رطبٌ لأكلنا منه.

فقال له الحسن عليه السلام: وإنّك لتَشتهي الرُّطب؟

قال: نعم.

فرفع الحسن عليه السلام رأسه ويده إلى السماء فدعا بكلامٍ لم يفهمه الزّبيريّ، فاخضرّتِ النخلة، وأورقتْ، وحملت رطباً.

فقال الجمّال الذي اكتروا منه: سحرٌ والله!

فقال الحسن عليه السلام: ويلك! إنّ هذا ليس بسِحر، ولكنّها دعوةُ ابن نبيٍّ مُجابة..».

 

 

ذُقْ وَبالَ ما كسبتْ يداك

موقف سيّد شباب أهل الجنّة من طُغاة زمانه

* قال أمير المؤمنين عليه السلام: «وإِنَّا لأُمَرَاءُ الْكَلَامِ، وفِينَا تَنَشَّبَتْ عُرُوقُه، وعَلَيْنَا تَهَدَّلَتْ غُصُونُه».

كان الإمام الحسن عليه السلام لسانَ الله الناطق في زمانه، دحضَ الباطل وألقمَ المفترين لسيعَ حُجَجه البينّات. وفي ما يلي، جملة من المواقف التي تُظهِر، من ناحية، عظيم هيبة الإمام سلام الله عليه وتصاغُر الطُّغاة بين يدَيه، وتُبيّن من ناحية ثانية المكانة السامية التي تبوّأها صلوات الله عليه في قلوب الناس.

«شعائر»

 

* في (إعلام الورى) للطبرسيّ: «..عن محمّد بن إسحاق، قال: ما بلغ أحدٌ من الشرف بعد رسول الله ما بلغ الحسنُ بن عليّ، كان يُبسَط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق؛ فما مرّ أحدٌ من خلق الله إجلالاً له، فإذا علم قام ودخل بيته، فمرّ الناس.

ولقد رأيته في طريق مكّة نزل عن راحلته فمشى، فما من خلق الله أحدٌ إلّا نزل ومشى، حتّى رأيتُ سعد بن أبي وقّاص قد نزل ومشى إلى جنبه».

 * وكان الحسن صلوات الله عليه إذا حجّ وطاف بالبيت، يكاد الناس يَحطِمونه ممّا يزدحمون للسلام عليه.

* قال الأصفهاني في (مقاتل الطالبيّين): «وأراد معاوية البيعةَ لابنه يزيد، فلم يكن شيءٌ أثقلَ عليه من أمر الحسن بن عليّ..».

* وقال واصل بن عطاء، وهو تلميذ الحسن البصريّ ومؤسّس فرقة المعتزلة: «كان الحسن بن عليّ، عليه سِيماءُ الأنبياء وبهاءُ الملوك».

.. وإنّي من قريش كواسطة القِلادة

* وفي (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد، قال: «روى المدائنيّ، قال: لقيَ عمرو بن العاص الحسنَ عليه السلام في الطّواف، فقال له: يا حسن، زعمتَ أنّ الّدين لا يقومُ إلاّ بك وبأبيك، فقد رأيتُ اللهَ أقامه بمعاوية، فجعله راسياً بعد ميله، وبيّناً بعد خفائه، أفرضيَ الله بقتل عثمان؟ أَوَمِنَ الحقّ أن تطوف بالبيت وأنت قاتل عثمان؟ والله إنّه لألمّ للشّعث وأسهل للوعث، أن يوردك معاوية حياض أبيك!

فقال الحسن عليه السلام: إنّ لأهل النّار علاماتٍ يُعرَفون بها، إلحاداً لأولياء الله؛ وموالاةً لأعداء الله، واللهِ إنّك لَتَعلمُ أنّ عليّاً لم يرتَبْ في الدّين، ولم يشكّ في الله ساعةً ولا طرفةَ عينٍ قطّ، وأَيْمُ الله لتَنتهينّ يا بن أمّ عمرو أو لأنفذنّ حضنَيك بنوافذ أشدّ من القعضبيّة – أي الأسِنّة - فإيّاكَ والتهجُّمَ عليَّ، فإنّي مَن قد عرفتَ... وإنّي من قريشٍ كواسطة القِلادة؛ يُعرَف حَسَبي، ولا أُدعى لغير أبي، وأنت مَن تعلمُ ويعلمُ النّاس، تحاكمتْ فيك رجالُ قريش، فغلب عليك جزّارها؛ ألأَمُهم حَسَباً، وأعظمُهم لؤماً، فإيّاك عنّي، فإنّك رِجس، ونحن أهلُ بيت الطّهارة، أذهبَ اللهُ عنّا الرّجسَ وطهّرنا تطهيراً.

فأُفحم عمرو وانصرف كئيباً».

وكان العاص أالذي نُسب إليه عمرو ممّن يداوي الأمراض بقطع العضو المصاب وبَتْره، ولذلك اشتُهر بين العرب بـ«الجزّار».

* وقال الطّبرانيّ في (المعجم الكبير): «..عن أبي كبير، قال: كنت جالساً عند الحسن بن عليّ رضي الله عنه، فجاءه رجلٌ، فقال: لقد سبّ عند معاوية عليّاً رضي الله عنه سبّاً قبيحاً رجلٌ يقال له معاوية بن حديج، فهل تعرفه؟

قال الحسن: نعم، إذا رأيتَه فائتني به.

قال: فرآه عند دار عمرو بن حريث، فأراه إيّاه.

فقال له الحسن: أنتَ معاوية بن حديج؟ فسكت، فلم يُجبه ثلاثاً.

ثمّ قال الحسن: أنت السبّاب عليّاً عند ابن آكلة الأكباد، أما لئن وردتَ عليه الحوض، وما أراك تَرِدُه، لتجدنّه مشمِّراً حاسراً ذراعيه يذود الكفّار والمنافقين عن حوض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما تُذاد غريبةُ الإبل عن (حياضها)؛ قولُ الصّادق المصدوق أبي القاسم».

* وفي (مقتل الحسين) للخوارزمي: «إنّ معاوية قدم المدينة وجلس للعطاء، فكان يُعطي ما بين خمسين ألف إلى مائة ألف، فأبطأ عليه الحسن عليه السلام، فلمّا كان آخر النّهار دخل عليه، فقال معاوية: أبطأتَ علينا يا أبا محمّد، لعلّك أردت أن تبخّلنا!

ثمّ قال: أعطِه يا غلام مثلَ ما أعطيتَ اليوم أجمع.

ثمّ قال: خذها يا أبا محمّد، وأنا ابنُ هند.

فقال الحسن عليه السلام: لقد ردَدتُها عليك، وأنا ابنُ فاطمة».

* وروى ابن عساكر في (تاريخه): «قال معاوية يوماً في مجلسه: إذا لم يكن الهاشميّ سخيّاً لم يُشبه حسَبَه، وإذا لم يكن الزّبيريّ شجاعاً لم يُشبه حسَبَه، وإذا لم يكن المخزوميّ تائهاً لم يُشبه حسبَه، وإذا لم يكن الأمويّ حليماً لم يُشبه حسبَه.

فبلغ ذلك الحسن بن عليٍّ عليهما السلام، فقال: واللهِ ما أرادَ الحقّ؛ ولكنّه أراد أن يُغري بني هاشم بالسّخاء فيُفنوا أموالهم ويحتاجون إليه، ويُغري آل الزّبير بالشّجاعة فيَفنوا بالقتل، ويُغري بني مخزوم بالتِّيه فيبغضهم النّاس، ويُغري بني أميّة بالحِلم فيُحبّهم النّاس».

ما لهم؟! خَرَّ عليهم السّقف من فوقهم

* وقال الطبرسي في (الاحتجاج): «رُوي عن الشِّعبي، وأبي مِخْنَف، ويزيد بن أبي حبيب المصريّ أنّهم قالوا: لم يكن في الإسلام يومٌ في مشاجرةِ قومٍ اجتمعوا في محفل، أكثر ضجيجاً ولا أعلى كلاماً ولا أشدّ مبالغةً في قول، من يومٍ اجتمع فيه عند معاوية بن أبي سفيان عمرو بن عثمان بن عفان، وعمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، والمغيرة بن شعبة، وقد تواطأوا على أمرٍ واحد.

فقال عمرو بن العاص لمعاوية: ألا تبعث إلى الحسن بن عليّ فتُحضره، فقد أحيا سُنّة أبيه، وخفقت النعالُ خلفه، أمر فَأُطِيع، وقال فَصُدِّق، وهذان يرفعان به إلى ما هو أعظم منهما، فلو بعثتَ إليه فقصّرنا به وبأبيه، وسَببناه وسببنا أباه، وصغَّرنا بقدره وقدر أبيه!...

فقال لهم معاوية: إنّي أخاف أن يُقلِّدكم قلايد يبقى عليكم عارها، حتّى يدخلكم قبوركم، والله ما رأيتُه قطُّ إلّا كرهتُ جنابَه، وهِبْتُ عتابَه، وإنّي إنْ بعثتُ إليه لأُنْصِفَنَّه منكم.

قال عمرو بن العاص: أتخاف أن يتسامى باطله على حقّنا، ومرضُه على صحّتنا؟!

قال: لا.

قال: فابعث إذاً إليه.

فقال عتبة: هذا رأيٌ لا أعرفه، والله ما تستطيعون أن تلقوه بأكثر ولا أعظم ممّا في أنفسكم عليه، ولا يلقاكم بأعظم ممّا في نفسه عليكم، وإنه لَمن أهل بيتٍ خَصِمٌ جَدِل.

فبعثوا إلى الحسن، فلمّا أتاه الرسول قال له: يدعوك معاوية.

 قال: ومَن عنده؟

قال الرسول: عنده فلان وفلان، وسمَّى كلاً منهم باسمه.

 فقال الحسن عليه السلام: ما لهم؟ خَرَّ عليهم السّقفُ من فوقهم، وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون.

ثمّ قال: يا جارية، أبلغيني ثيابي.

ثمّ قال: أللّهمّ إنّي أدرأُ بك في نحورهم، وأعوذُ بك من شرورهم، وأستعينُ بك عليهم، فاكفِنيهم بما شئتَ، وأنّى شئتَ، مِن حَولك وقوّتك، يا أرحمَ الراحمين، وقال للرسول: هذا كلامُ الفَرَج،

فلمّا أتى معاوية رحّب به، وحيّاه وصافحه. فقال الحسنُ عليه السلام: إنّ الذي حيَّيتَ به سلامة، والمصافحةُ أمْن.

فقال معاوية: أجل، إنّ هؤلاء بعثوا إليك وعصوني ليُقِرّوك: أنّ عثمان قُتل مظلوماً، وأنّ أباك قتله، فاسمع منهم، ثمّ أَجِبْهم بمثل ما يكلّمونك، فلا يمنعك مكاني من جوابهم.

فقال الحسن: فسبحان الله! البيتُ بيتُك والإذنُ فيه إليك! واللهِ لَئِن أجبتَهم إلى ما أرادوا إنّي لأستحيي لك من الفُحش، وإن كانوا غلبوك على ما تريد؛ إنّي لأستحيي لك من الضعف، فبأيِّهما تُقرّ، ومن أيّهما تعتذر؟...

(ثمّ تُورد المناظرة افتراءات الحاضرين من بني أميّة على الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن عليهما السلام في كلام طويل، فتصل إلى جواب الإمام الحسن الذي اختتمه بهذه الكلمات):

ثمّ قام الحسن فنفض ثيابه وهو يقول: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ..﴾ هم والله يا معاوية: أنت وأصحابُك هؤلاء وشِيعتُك،..﴿..وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ..﴾.. هم عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، وأصحابُه وشيعتُه.

ثمّ خرج وهو يقول لمعاوية: ذُقْ وَبالَ ما كسبتْ يداك وما جَنَتْ، ما قد أعدّ اللهُ لك ولهم من الخِزي في الحياة الدنيا والعذابِ الأليم في الآخرة.

فقال معاوية لأصحابه: وأنتم فذوقوا وبالَ ما جَنيتُم.

فقال الوليد بن عقبة: واللهِ ما ذُقنا إلّا كما ذُقتَ، ولا اجترأَ إلّا عليك.

فقال معاوية: ألم أقلْ لكم إنّكم لن تنتقصوا من الرجل... فواللهِ ما قام حتّى أظلمَ عليَّ البيت، وهممتُ أن أسطو به، فليس فيكم خيرٌ اليوم، ولا بعدَ اليوم».

 

ولو وجدتُ أعواناً ما سلَّمتُ له الأمر

نصوص مرويّة عن الإمام الحسن عليه السلام توضح ظروف الصلح

 

* حلقة مُرّة ومفصليّة من حلقات خِذلان الناس للحقّ الذي عرفوه، واتّباعهم للباطل الذي أنكروه، مستسلمين لداعي الحياة الذليلة، إبقاءً على الحطام الذي يسرع زواله، تلك هي محنة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام مع أهل الكوفة بعد استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام، وبيعة الناس له، إذ انتهز معاوية بن أبي سفيان فرصة وَهَن أهل العراق ليبسط سلطانه على الدولة الإسلامية، بسلاح الخدعة والمال.

ما يلي أبرز الوقائع التي جرّت إلى أن يهادن الإمام الحسن عليه السلام معاوية، كما أرّخت لها المصادر المختلفة، نوردها بتصرّف بسيط.

«شعائر»

 

* قال ابن أعثم الكوفي في (الفتوح):

«..فلمّا مضى عليّ بن أبي طالب عليه السلام إلى سبيل الله، اجتمع النّاس إلى ابنه الحسن عليه السلام، فبايعوه ورضوا به وبأخيه الحسين مِن بعده.

قال: فنادى الحسن عليه السلام في النّاس فجمعهم في مسجد الكوفة، ثمّ صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال:

أيّها النّاس، إنّ الدّنيا دارُ بلاءٍ وفتنة، وكلّ ما فيها نائلٌ إلى زوالٍ واضمحلال... فازهدوا فيما يفنى، وارغبوا فيما يبقى، وخافوا الله في السّرّ والعلانية... وإنّي أبايعكم على أن تحاربوا مَن حاربت، وتُسالموا مَن سالمت.

فقال النّاس: سمعنا وأطعنا، فمُرنا بأمرك..».

* وفي (تاريخ الطبري):

«قيل: إنّ أوّل مَن بايعه قيس بن سعد؛ قال له: ابسط يدك أبايعك على كتاب الله عزّ وجلّ، وسنّة نبيّه، وقتال المحِلّين.

فقال له الحسن رضي الله عنه: على كتاب الله وسنّة نبيّه، فإنّ ذلك يأتي من وراء كلّ شرط، فبايعه وسكت، وبايعه النّاس».

الكُتب المتبادلة بين الإمام عليه السلام ومعاوية

* قال أبو الفرج في (مقاتل الطالبيّين)، وغيره:

«وكتب الحسن عليه السلام، إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزديّ: ..دعِ الّتمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه النّاس من بيعتي، فإنّك تعلمُ أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عندَ الله وعند كلّ أوّابٍ حفيظ، ومَن له قلبٌ مٌنيب...

فكتب إليه معاوية: ... ولكنّي قد علمتُ أنّي أكبر منك سنّاً، فأنت أحقّ أن تُجيبني إلى هذه المنزلة الّتي سألتني، فادخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي، ولك ما في بيت مال العراق من مالٍ بالغاً ما بلغ، تحمله إلى حيث أحببتَ، ولك خراج أيّ كور العراق شئت، يجيبها لك أمينك، ويحملها إليك في كلّ سنة، ولك ألّا يستولى عليك بالإساءة، ولا تُقضى دونك الأمور، ولا تُعصى في أمرٍ..

ثمّ كتب إليه معاويةُ مرّة ثانية: ..إنْ أنتَ أعرضتَ عمّا أنت فيه وبايعتني، وفيتُ لك بما وعدتُ، وأجزت لك ما شرطتُ...

فأجابه الحسن بن عليّ عليه السلام: .. فاتّبعِ الحقّ تعلم أنّي من أهله».

فلمّا وصل كتابُ الحسن عليه السلام إلى معاوية قرأه، ثمّ كتب إلى عمّاله على النّواحي نسخةً واحدةً: فأقبلوا إليَّ حين يأتيكم كتابي هذا بجُندكم وجهدكم وحُسن عدّتكم.

فاجتمعت العساكر إلى معاوية بن أبي سفيان، وسار قاصداً إلى العراق، وبلغ الحسنَ عليه السلام خبر مسيره، وأنّه بلغ جسر منبج، فتحرّك لذلك، وبعث حجر بن عديّ يأمر العمّال والنّاس بالتهيّؤ للمسير، ونادى المنادي: الصّلاة جامعة، فأقبل النّاس يثوبون ويجتمعون.

الإمام عليه السلام يستنفر أهل الكوفة

فخرج الحسن عليه السلام فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أخرجوا، رحمكم الله، إلى معسكركم بالنّخيلة، حتّى ننظر وتنظروا، ونرى وتروا.

فسكتوا فما تكلّم منهم أحدٌ، ولا أجاب بحرف.

فلمّا رأى ذلك عديّ بن حاتم، قال: أنا ابنُ حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام؟ ألا تُجيبون إمامَكم، وابنَ بنت نبيّكم؟..

ثمّ استقبل الحسنَ عليه السلام بوجهه، فقال: أصابَ الله بك المراشد، وجنّبك المكاره، وهذا وجهي إلى معسكري، فمن أحبّ أن يُوافيني فليُوافِ. ثمّ مضى لوجهه، فخرج من المسجد ودابّته بالباب، فركبها ومضى إلى النّخيلة...

ثمّ قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ ومعقل بن قيس الرّياحيّ، وزياد بن صعصعة التيميّ فأنّبوا النّاس ولاموهم وحرّضوهم، وكلّموا الحسن عليه السلام بمثل كلام عديّ بن حاتم في الإجابة والقبول.

فقال لهم الحسن صلوات الله عليه: صدقتم.. فجزاكم الله خيراً.

ثمّ نزل وخرج الناس، فعسكروا ونشطوا للخروج...

غدرُ الكِندي والمُرادي

* قال في (الخرائج):

«ثمّ وجّه الحسن عليه السلام، إلى معاوية قائداً في أربعة آلاف، وكان من كِندة، وأمره أن يُعسكِر بالأنبار ولا يُحدِثَ شيئاً حتّى يأتيه أمره. فلمّا توجّه إلى الأنبار، ونزل بها، وعلم معاوية بذلك بعث إليه رُسلاً، وكتب إليه معهم: إنّك إن أقبلتَ إليَّ وليّتك بعض كُور الشّام، أو الجزيرة، غير منفِس عليك، وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم، فقبض الكنديّ - عدوّ الله - المال، وقلب على الحسن عليه السلام وصار إلى معاوية، في مائتي رجل من خاصّته وأهل بيته.

وبلغ الحسن عليه السلام ذلك، فقام خطيباً، وقال:

هذا الكنديّ توجّه إلى معاوية وغدر بي وبكم، وقد أخبرتُكم مرّةً بعد أخرى أنّه لا وفاء لكم، أنتم عبيدُ الدّنيا، وأنا موجِّهٌ رجلاً آخر مكانه، وأنا أعلم أنّه سيفعلُ بي وبكم ما فعل صاحبه، لا يراقب الله فيّ ولا فيكم.

فبعث إليه رجلاً من مراد في أربعة آلاف وتقدّم إليه بمشهدٍ من النّاس، وتوكّد عليه، وأخبره أنّه سيغدر كما غدر الكنديّ، فحلف له بالأيْمان الّتي لا تقوم لها الجبال إنّه لا يفعل.

فقال الحسن عليه السلام: إنّه سيَغدر.

فلمّا توجّه إلى الأنبار، أرسل معاوية إليه رسلاً، وكتب إليه بمثل ما كتب إلى صاحبه، وبعث إليه بخمسمائة ألف درهم، ومنّاه أيّ ولايةٍ أحبّ من كور الشّام، أو الجزيرة، فقلب على الحسن عليه السلام، وأخذ طريقه إلى معاوية، ولم يحفظ ما أخذ عليه من العهود، وبلغ الحسن عليه السلام ما فعل المراديّ. فقام خطيباً وقال:

قد أخبرتُكم مرّةً بعد مرّة أنّكم لا تَفُونَ لله بعهود، وهذا صاحبُكم المراديّ غدر بي وبكم، وصار إلى معاوية.

فقالوا: إن خانك الرّجلان وغدرا، فإنّا مناصحون لك...

ثمّ إنّ الحسن عليه السلام أخذ طريق النّخيلة، فعسكر عشرة أيّام، فلم يحضره إلاّ أربعة آلاف، فانصرف إلى الكوفة فصعد المنبر، وقال:

يا عجباً من قومٍ لا حياء لهم ولا دين مرّةً بعد مرّةً، ولو سلّمت إلى معاوية الأمر؛ فَأَيْمُ الله لا ترونَ فرَجاً أبداً مع بني أميّة، والله ليسومنّكم سوء العذاب حتّى تتمنّون أن يلي عليكم حبشيّاً، ولو وجدت أعواناً ما سلّمتُ له الأمر، لأنّه محرّمٌ على بني أميّة، فَأُفٍّ وتَرَحاً يا عبيد الدّنيا.

(ثمّ نزل وهو يقول: ﴿وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ..﴾ (مريم:48). فاتّبعه من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام عددٌ يسيرٌ إشفاقاً عليه وحقناً لدمه).

وكتب أكثر أهل الكوفة إلى معاوية بأنّا معك، وإن شئتَ أخذنا الحسن وبعثناه إليك!».

 

غدرُ عبيد الله بن عباس

* وفي (مقاتل الطالبيّين)، وغيره:

«ثمّ إنّ الحسن بن عليّ عليهما السلام، سار في عسكر عظيم وعُدّة حسنة حتّى أتى دير عبد الرّحمن، فأقام به ثلاثاً حتّى اجتمع النّاس، ثمّ دعا عبيد الله بن العبّاس بن عبد المطّلب فقال له:

يا ابن عمّ، إنّي باعثٌ معك اثني عشر ألفاً من فرسان العرب وقرّاء المصر، الرّجل منهم يَزِن الكتيبة، فسِر بهم، وألِن لهم جانبك، وابسط وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنِهم من مجلسك، فإنّهم بقيّة ثقة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وسِر بهم على شطّ الفرات حتّى تقطع بهم الفرات، ثمّ تصير إلى مسكن، ثمّ امضِ حتّى تستقبلَ معاوية، فإن أنت لقيتَه فاحبسه حتّى آتيك فإنّي في أثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كلّ يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد، وسعيد بن قيس- فإذا لقيتَ معاوية فلا تقاتله حتّى يقاتلك، فإنْ فعل فقاتل، فإن أُصبت فقيسُ بن سعدٍ على النّاس، وإن أُصيب قيس فسعيدُ بن قيس على النّاس، ثمّ أمره بما أراد.

وسار عبيد الله حتّى انتهى إلى.. مسكن.

فلمّا كان اللّيل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن العبّاس يحتال عليه، بأنّ الحسن قد راسلني في الصّلح وهو مسلّمٌ الأمر إليّ، فإن دخلتَ في طاعتي الآن كنت متبوعاً، وإلاّ دخلتَ وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، يعجّل لك في هذا الوقت النّصف، وإذا دخلتُ الكوفة النّصف الآخر، فانسّل عبيد الله ليلاً فدخل عسكر معاوية، فوفى بما وعده، فأصبح النّاس ينتظرون أن يخرج فيصلّي بهم، فلم يخرج حتّى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه، فصلّى بهم قيس بن سعد...

وجعل أهل العراق يتوجّهون إلى معاوية قبيلةً بعد قبيلة، حتّى خفّ عسكر سعد. فلمّا رأى ذلك كتب إلى الحسن بن عليّ يخبره بما هو فيه، فلمّا قرأ الحسن الكتاب، أرسل إلى وجوه أصحابه فدعاهم، ثمّ قال:

يا أهل العراق، ما أصنعُ بجماعتكم معي، وهذا كتاب قيس بن سعد يُخبرني بأنّ أهل الشّرف منكم قد صاروا إلى معاوية، أما واللهِ ما هذا بمُنكَرٍ منكم لأنّكم أنتم الذّين أكرهتم أبي يوم صفّين على الحكَمين، فلمّا أمضى الحكومة وقبل منكم اختلفتم، ثمّ دعاكم إلى قتال معاوية ثانيةً فتوانيتُم، ثمّ صار إلى ما صار إليه من كرامة الله إيّاه، ثمّ إنّكم بايعتموني طائعين غير مكرهين، فأخذتُ بيعتكم وخرجتُ في وجهي هذا والله يعلم ما نويتُ فيه، فكان منكم إلى ما كان..».

محاولة اغتيال الإمام عليه السلام

قالوا: فلمّا بلغ الحسنَ عليه السلام غدرُ عبيد الله به، ورأى ما عليه أهل الكوفة من التشتّت واضطراب الرأي، عزم على حقن دماء مَن بقيَ من شيعته وخواصّ أمير المؤمنين، فلمّا أصبح عليه السلام، نادى في النّاس: الصّلاة جامعة، فاجتمعوا، وصعد المنبر، فخطبهم، وكان من جملة ما قاله صلوات الله عليه:

أمّا بعد، فوالله إنّي لأَرجو أن أكون قد أصبحتُ بحمد الله ومنِّه وأنا أنصحُ خلق الله لخلقه، وما أصبحتُ محتملاً على مسلمٍ ضغينةً ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة، ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة خيرٌ لكم ممّا تحبّون في الفُرقة، ألا وإنّي ناظرٌ لكم خيراً من نَظَرِكم لأنفسِكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا عليَّ رأيي..

ثمّ كان من أهل الكوفة مع الحسن عليه السلام مثل الذي صنعوه مع أمير المؤمنين عليه السلام، يومَ أكرهوه على القبول بالتحكيم، فلمّا رضيَ بذلك حقناً لدمائهم ودرءاً للفتنة في معسكره انقلبوا عليه.

قالوا: فلما سمع النّاسُ مقالة الحسن عليه السلام، نظر بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ نظنّه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلّم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرّجل!!

ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه حتّى أخذوا مصلاّه من تحته، ونزعوا مطرفه عن عاتقه، فدعا الحسن عليه السلام بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته، ومنعوا منه مَن أراده.

فقال عليه السلام: ادعوا لي ربيعة وهمدان، فدُعوا له، فأطافوا به، ودفعوا النّاس عنه، ومعهم خليطٌ من الناس من غيرهم.

فقام إليه رجل يقال له الجرّاح بن سنان، فلمّا مرّ في مظلم ساباط (موضعٌ قرب المدائن)، قام إليه فأخذ بلِجام بغلته وبيده مِعول، فقال: الله أكبر يا حسن، أشركتَ كما أشركَ أبوك! ثمّ طعنه، فوقعت الطّعنة في فخذه، فضرب الحسن عليه السلام الّذي طعنه بسيفٍ كان بيده وصرعه، فوثب عبد الله بن الخطل فنزع المِعول من يد جرّاح بن سنان فخضخضه به، وأكبّ ظبيان بن عمارة عليه، فقطع أنفه ثمّ أخذوا الأجرّ فشدّخوا وجهه ورأسه، حتّى قتلوه. وحُمل الحسن عليه السلام على سريرٍ إلى المدائن، وبها سعد بن مسعود الثّقفيّ والياً عليها من قبله.

* وقال الصّدوق في (علل الشرائع): دسّ معاوية إلى عمرو بن حريث، والأشعث بن قيس، وإلى حجر بن الحارث، وإلى شبث بن ربعيّ دسيساً؛ أفرد كلّ واحدٍ منهم بعينٍ من عيونه: إنّك إنْ قتلتَ الحسن بن عليّ فلك مائتا ألف درهم، وجندٌ من أجناد الشّام، وبنتٌ من بناتي، فبلغ الحسنَ عليه السلام فاسْتَلأَمَ، ولبس درعاً وكفّرها، وكان يحترز ولا يتقدّم للصّلاة بهم إلاّ كذلك، فرماه أحدهم في الصّلاة بسهم فلم يثبت فيه لما عليه من اللاّمة...

فقال الحسن عليه السلام: ويلكم، واللهِ إنّ معاوية لا يَفي لأحدٍ منكم بما ضَمِنَه في قتلي... كأنّي أنظرُ إلى أبنائكم واقفين على أبواب أبنائهم يَستسقونهم ويَستطعمونهم بما جعلَه اللهُ لهم، فلا يُسقون ولا يُطعمون، فبُعداً وسحقاً لما كسبته أيديكم ﴿..وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَب يَنقَلِبُونَ﴾». (الشعراء:227)

ثمّ كتب معاوية إلى الحسن عليه السلام: يا ابن عمّ، لا تقطع الرّحم الّذي بيني وبينك!

فأجابه الإمام عليه السلام: إنّ هذا الأمر لي والخلافةُ لي ولأهل بيتي، وإنّها لمحرَّمةٌ عليك وعلى أهل بيتك، سمعتُه من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. ولو وجدتُ صابرين عارفين بحقّي غير مُنكِرين، ما سلّمتُ لك ولا أعطيتُك ما تريد. وانصرف إلى الكوفة.

بل البقيّةُ والحياة!

* قال الديلمي في (أعلام الدين):

«من كلام الحسن بن عليّ عليه السلام لأصحابه: ... وإنّ معاويةَ قد دعا إلى أمرٍ ليس فيه عزٌّ ولا نَصَفَة، فإن أردتُم الحياةَ قبلناه منه، وأغضَضْنا على القَذى، وإن أردتُم الموت، بذلناه في ذات الله وحاكمناهُ إلى الله.

فنادى القوم بأجمعهم: بل البقيّةُ والحياة!».

* وفي (الكامل) لابن الأثير:

«أنّ بعضهم سأله: ما حمَلك على ما فعلت؟!

قال عليه السلام: ..رأيتُ أهلَ الكوفة قوماً لا يثقُ بهم أحدٌ أبداً إلّا غُلِب، ليس أحدٌ منهم يوافقُ آخرَ في رأيٍ ولا هوى، مختلفين لا نيّةَ لهم في خيرٍ ولا شرٍّ، لقد لقيَ أبي منهم أموراً عظاماً، فليتَ شعري لمَن يصلحون بعدي، وهي أسرعُ البلاد خراباً».

* ومن خطبه عليه السلام لمّا تمّ الصلح: أيُّها الناس.. إنّكم لو طلبتم ما بين جابلق وجابرس (كناية عن المشرق والمغرب) رجلاً جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ما وجدتموه غيري، وغير أخي الحسين عليه السلام... وإنّ معاوية نازعني حقّاً هو لي دونَه، فنظرتُ لصلاح الأمّة، وقَطْع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تُسالموا مَن سالمني، وتُحاربوا مَن حاربني، فرأيتُ أنّ... حَقْنَ دماء المسلمين خيرٌ من سَفْكِها، ولا أريدُ بذلك إلّا صلاحَكم، وبقاءَكم، ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ﴾.

ثمّ نزل وتوجه بعد ذلك إلى المدينة، وأقام بها».

 

إنّي مفارقُك ولاحقٌ بربّي

وقائعُ شهادة الإمام الحسن عليه السلام

 

* استُشهد الإمام الحسن صلوات الله عليه، في الثامن والعشرين من صفر، سنة تسع وأربعين، عن سبعة وأربعين عاماً. وقيل: كانت شهادته عليه السلام يوم الخميس في السابع من صفر، ودُفن بالبقيع من المدينة المنوّرة.

وقد تضافرت النصوص على اغتيال معاوية الإمامَ الحسنَ، عليه السلام، بالسمّ كأوضح قضيّة في التاريخ. ذكرها صاحب (الاستيعاب)، و(الإصابة)، و(الإرشاد)، و(تذكرة الخواصّ)، و(دلائل الإمامة)، و(مقاتل الطالبيّين)، والشعبي، واليعقوبي، وابن سعد في (الطبقات)، والمدائني، وابن عساكر، والواقدي، وابن الأثير، والمسعودي، وابن أبي الحديد، والمرتضى في (تنزيه الأنبياء)، والطوسي في (أماليه)، والشريف الرضي في (ديوانه)، والحاكم في (المستدرك)، وغيرهم.

«شعائر»

 

قال الشيخ الكليني في (الكافي) إنّ جعدة بنت الأشعث بن قيس الكنديّ سمّت الحسن بن عليّ عليهما السلام، وسمّت مولاةً له، فأما مولاته فقاءت السّم، وأما الحسن عليه السلام فاستُشهد بعد أن كابد المرض لعدّة أيّام.

وقال ابن سعد في طبقاته: «سَمّه معاوية مراراً». وقال المدائني: «سُقي الحسن السمّ أربع مرّات». وقال الحاكم في (مستدركه): «إنّ الحسن بن عليّ سمَّ مراراً. كلّ ذلك يسلم، حتّى كانت المرّة الأخيرة التي مات فيها، فإنّه رمى كبده».

وفي هذه المرّة الأخيرة، قال الإمام الحسن لأخيه الحسين عليهما السلام: «إنّي مفارقُك ولاحقٌ بربّي، وقد سُقيتُ السُمّ، ورميتُ بكبدي في الطّست، وإنّي لعارفٌ بمَن سقاني السمّ ومن أين دُهيت، وأنا أخاصمُه إلى الله عزّ وجلّ».

ثمّ قال: «وادفنّي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّي أحقّ به وببيته. فإن أبَوا عليك، فأُنشدك الله بالقرابة التي قرّب الله عزّ وجلّ منك، والرّحِم الماسّة من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أن لا تُهريق في أمري محجمةً من دمٍ، حتّى نلقى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فنختصمَ إليه، ونُخبره بما كان من النّاسِ إلينا».

وأوصى إليه بأهله وبولده وتركاته، وبما كان أوْصى به إليه أبوه أمير المؤمنين عليه السلام، ودلَّ شيعته على استخلافه للإمامة من بعده.

* وفي (الكافي) للكليني: «..عن المفضّل بن عمر، عن أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام، قال: لمّا حضرت الحسن بن عليٍّ عليهما السلام الوفاة، قال: يا قنبر، انظُر هل ترى من وراء بابك مؤمناً من غير آل محمّدٍ عليهم السلام؟

فقال: اللهُ تعالى ورسولُه وابنُ رسوله أعلم به منّي.

قال: ادعُ لي محمّد بن عليّ.

قال قنبر: فأتيته فلمّا دخلت عليه، قال: هل حدث إلاّ خير؟

قلت: أجِب أبا محمّد.

فعجّل على شِسع نعله، فلم يسوّه وخرج معي يعدو، فلمّا قام بين يديه سلّم، فقال له الحسن بن عليّ عليهما السلام: اجلِس، فإنّه ليس مثلك يغيبُ عن سماع كلامٍ يحيا به الأموات، ويموت به الأحياء، كونوا أوعيةَ العلم، ومصابيحَ الهدى، فإنّ ضوء النهار بعضُه أضوأُ من بعض. أما علمتَ أنّ الله جعل وُلد إبراهيم عليه السلام أئمّة، وفضَّل بعضهم على بعض، وآتى داود عليه السلام زبوراً، وقد علمتَ بما استأثر به محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم..

يا محمّد بن عليّ، أما علمتَ أنّ الحسين بن عليٍّ عليهما السلام بعد وفاة نفسي، ومفارقة روحي جسمي، إمامٌ من بعدي، وعند الله جلّ اسمُه في الكتاب، وراثةً من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، أضافها الله عزّ وجلّ له في وراثة أبيه وأمّه، فعلم الله أنّكم خيَرة خلقه، فاصطفى منكم محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، واختار محمّدٌ عليّاً عليه السلام، واختارني عليٌّ عليه السلام بالإمامة، واخترتُ أنا الحسين عليه السلام.

فقال له محمّد بن عليّ: أنت إمامٌ وأنت وسيلتي إلى محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم.. الحسين أعلمنا عِلماً، وأثقلنا حِلماً، وأقربنا من رسول الله صلّى الله عليه وآله رحِماً، كان فقيهاً قبل أن يُخلق، وقرأ الوحي قبل أن ينطق، ولو علم اللهُ في أحدٍ خيراً ما اصطفى محمّداً صلّى الله عليه وآله، فلمّا اختار الله محمّداً واختار محمّدٌ عليّاً واختارك عليٌّ إماماً واخترتَ الحسين، سلَّمنا ورضينا...».

وقد استعمل معاوية مروانَ بن الحكم، لإقناع جعدة بنت الأشعث بن قيس الكندي - وكانت من زوجات الحسن عليه السلام - بأن تسقي الحسن السمّ، فإنْ هو قضى نحبه زوّجها بيزيد، وأعطاها مائة ألف درهم.

وكانت جعدة هذه بحكم بُنُوَّتِها للأشعث بن قيس - المنافق المعروف - الذي أسلم مرّتين، بينهما ردّة منكرة، أقرب الناس روحاً إلى قبول هذه المعاملة النكراء.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام: «إنّ الأشعث بن قيس شَرِك في دم أمير المؤمنين عليه السلام، وابنتُه جُعدة سمّت الحسن عليه السلام، وابنُه محمّد شَرِك في دم الحسين عليه السلام».

 

فرح معاوية!

لم يملك معاوية نفسه من إظهار السرور بموت الحسن عليه السلام، وكان بالخضراء، فكبّر، وكبّر معه أهل الخضراء، ثمّ كبّر أهل المسجد بتكبير أهل الخضراء.

وزاد ابن قتيبة في (الإمامة والسياسة) على هذا بقوله: «فلماّ أتاه الخبر، أظهر فرحاً وسروراً حتّى سجد، وسجد مَن كان معه! وبلغ ذلك عبد الله بن عباس - وكان بالشام يومئذٍ - فدخل على معاوية فلمّا جلس، قال معاوية: يا ابن عباس، مات الحسن بن عليّ.

فقال ابن عباس: نعم مات. إنّا لله وإنّا اليه راجعون (ترجيعاً مكرّراً). وقد بلغني الذي أظهرتَ من الفرح والسرور لوفاته. أما والله ما سدَّ جسدُه حفرتك، ولا زاد نُقصانُ أجله في عمرك. ولقد مات وهو خيرٌ منك. ولئن أُصبنا به، لقد أُصبنا بمَن كان خيراً منه، جدّه رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم. فجبر الله مصيبته وخلف علينا من بعده أحسن الخلافة.

ثمّ شهق ابن عباس وبكى مَن حضر في المجلس. قال الراوي: فما رأيت يوماً أكثر باكياً من ذلك اليوم.

فقال معاوية: كم أتى له من العمر؟

فقال ابن عباس: أمرُ الحسن أعظمُ من أن يَجهل أحدٌ مولده.

قال: فسكت معاوية يسيراً ثمّ قال: يا ابن عباس، أصبحتَ سيّد قومك من بعده.

فقال ابن عباس: أمّا ما أبقى الله أبا عبد الله الحسين فلا».


مدفنه عليه السلام

 روى سبط ابن الجوزيّ بسنده إلى ابن سعد عن الواقدي: «إنّه لمّا احتضر الحسن عليه السلام، قال: ادفنوني عند أبي - يعني رسول الله صلّى الله عليه وآله - فقامت بنو أميّة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص، وكان والياً على المدينة فمنعوه! قال ابن سعد: ومنهم عائشة، وقالت: لا يُدفن مع رسول الله أحد».

وروى أبو الفرج الأموي الأصفهاني في (مقاتله) عن يحيى بن الحسن، أنّه قال: «سمعت عليّ بن طاهر بن زيد يقول: لمّا أرادوا دفنه - يعني الحسن بن عليّ عليهما السلام - ركِبَتْ بغلاً واستعونَتْ بني أميّة ومروان ومَن كان هناك منهم ومن حَشَمهم، وهو قول القائل: فيوماً على بغلٍ ويوماً على جمل».

وذكر المسعودي ركوب عائشة البغلة الشهباء وقيادتها الأمويّين ليومها الثاني من أهل البيت عليهم السلام، قال: «فأتاها القاسم بن محّمد بن أبي بكر، فقال: يا عمّة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر. أتريدين أن يُقال يوم البغلة الشهباء؟ فرجعت».

واجتمع مع الحسين بن عليّ عليهما السلام خلقٌ من الناس، فقالوا له: «دعنا وآل مروان، فوالله ما هم عندنا إلّا كأكلة رأس، فقال: إنّ أخي أوصى أن لا أُريقَ فيه محجمةَ دم. ولولا عهدُ الحسن هذا، لَعلمتُم كيف تأخذُ سيوف الله منهم مأخذها. وقد نقضوا العهدَ بيننا وبينهم، وأبطلوا ما اشترطنا عليهم لأنفسنا»، يشير بهذا إلى شروط الصلح. ومضوا بالحسن عليه السلام فدفنوه بالبقيع عند جدّته فاطمة بنت أسد بن هاشم.

وروى أبو جعفر الطبري في كتابه (دلائل الإمامة): «فلمّا فرغ الحسين عليه السلام من أمره وصلّى عليه، سار بنعشه يريد قبر جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ليُلحده معه، فبلغ ذلك مروان بن الحكم طريدَ رسول الله، فذهب مسرعاً على بغلٍ حتّى دخل على عائشة، وقال: يا أمّ المؤمنين! إنّ الحسين يريد أن يدفن أخاه الحسن عند جدّه..

قالت: فما أصنع؟

قال: إلحقي وامنعيه من الدخول إليه..

فأرادت بنو هاشم الكلام وحملوا السلاح، فمنعهم الحسين عليه السلام، وقال: الله، الله أن تفعلوا، وتضيِّعوا وصيّة أخي..».

وقال ابن حجر في (الإصابة): «.. عن ثعلبة بن أبي مالك: شهدتُ الحسن يوم مات ودُفن بالبقيع، فلقد رأيت البقيع ولو طُرِحت فيه إبرة ما وقعت إلّا على رأس إنسان».

فصلوات الله عليه وعلى جدّه وأبيه وأمّه وأخيه والأئمّة المعصومين من ذريّة أخيه، صلاةً دائمةً تدومُ بدوام الأيام، متعاقبةً لا تنقضي.

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

28/10/2016

دوريات

  إصدارات أجنبية

إصدارات أجنبية

نفحات