الكلمة السَّواء
دعوةٌ إلى التّوحيد، من غير مداهنة*
______المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي______
﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 64
تتَّجه الدَّعوة هنا، وبموجب هذه الآية الشريفة، إلى النّقاط المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب. وبهذا يعلِّمنا القرآن الكريم درساً، مفادُه: أنَّكم إذا لم تُوَفَّقوا في حَمْلِ الآخَرين على التّعاون معكم في جميع أهدافكم، فلا يَجوز أن يَقعد بكم اليأسُ عن العمل، بل اسْعوا لإقناعهم بالتّعاون معكم في تحقيق الأهداف المشترَكة فيما بينكم، كقاعدةٍ للانطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدَّسة. |
تُعَدُّ هذه الآية الكريمة نداء «الوحدة والاتِّحاد» إلى أهل الكتاب، فهي تقول لهم: إنَّكم تزعمون أنَّ التّثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثّلاثة) لا يُنافي التَّوحيد، لذلك تقولون بالوحدة في التَّثليث. وهكذا يدّعي اليهود التَّوحيد، مع أنّهم يتفوّهون بالشِّرك، ويعدّون عُزيراً النبيّ ابن الله، تعالى الله عمّا يقولون.
وعليه، جاءهم الخطاب القرآني ليُلزمهم بما ادّعوه، ومفادُه: إنَّكم جميعاً تَرَوْن التَّوحيد مُشتَرَكاً، فتعالوا نضعْ يداً بيد لنُحيي هذا المبدأ المشترك من دون لفٍّ أو دوران، ونَتَجنَّبْ كلَّ تفسيرٍ يؤدِّي إلى الشِّرك والابتعاد عن التَّوحيد. والمُلفت للنَّظر أنَّ الآية الشّريفة تؤكِّد موضوع التّوحيد في ثلاثة تعبيرات مختلفة، فأوَّلاً ذَكَرت: ﴿..أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله..﴾، وفي الفقرة الثّانية: ﴿..وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً..﴾، وفي المرّة الثّالثة قالت: ﴿..وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله..﴾. ولعلَّ في هذه الفقرة الأخيرة من الآية إشارة إلى أحد موضوعَين:
الأوّل: أنّه لا يجوز تَأْلِيه المسيح عليه السلام، وهو بشرٌ مثلنا ومِن أبناء نَوْعنا.
الثاني: أنَّه لا يجوز الاعتراف، واتّباع العلماء المُنحرفين الذين يَستغلُّون مكانتهم، فيُغيِّرون حلالَ الله وحرامه، كيفما يَحلو لهم.
ويتَّضح من جملةٍ من الآيات القرآنيّة أنَّ جماعاتٍ من أهل الكتاب دأَبت على تحريف أحكام الله تعالى وفقاً لمصالحها، أو أهوائها. إنَّ الإسلام يرى أنَّ مَن يتَّبِع أمثال هؤلاء -وهو عارفٌ بحقيقتِهم- إنَّما هو يَعبدُهم، بالمعنى الواسع لكلمة العبادة. وتعليلُ هذا الحكم، أنّ التّشريعَ وسَنّ القوانين حقُّ الله تعالى، فمَن أخذ الأحكام من غيره سبحانه، فقد أشركَ به.
يقول المفسِّرون إنّ «عَديّ بن حاتم» كان نصرانيّاً ثمَّ أسلم، فلمّا سَمِع هذه الآية، فَهِمَ من كلمة «أرباب» أنَّ القرآن يقول إنَّ أهل الكتاب يَعبدون بعضَ علمائهم. فقال للنّبيّ صلّى الله عليه وآله: ما كُنَّا نعبدُهم يا رسول الله، فقال صلّى الله عليه وآله: أمَا كانوا يُحِلُّون لكم ويُحرِّمون فتأخذون بقولهم؟ فقال: نعم، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: هو ذاك.
في الواقع، يَعتبر الإسلام الرِّقَّ والاستعمار الفكري نوعاً من العبوديّة والعبادة لِغير الله تعالى، وهو كما يُحارب الشِّرك وعبادة الأصنام، يُحارب كذلك الاستعمار الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام.
ولا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ كلمة «أرباب» جمع، لذلك لا يمكن أن نقول إنَّ المقصود هو النَّهي عن عبادة عيسى عليه السلام وحده. ولعلّ النَّهي يشمل عبادتَه، وعبادة «العلماء» المُنحرفين.
ختامُ الآية قولُه تعالى: ﴿..فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ آل عمران: 64. والمعنى: أنّه إذا أصرّ أهلُ الكتاب على الإعراض عن كلمة الحقّ -بعد دعوتِهم إلى نقطة التَّوحيد المشترَكة، بالحُسنى وبالمنطق وبالانفتاح- فلا بدَّ أن يُقال لهم: اشهدوا أنَّنا قد أَسلَمنا للحقّ، ولم تُسلِموا. وبعبارةٍ أخرى: لقد بانَ الآن مَن هو المتعصّب والمعاند. ومع ذلك، فلا تأثيرَ لِعنادِكم وعصيانِكم، فنحن لن نحيدَ عن الصّراط المستقيم، ولن نتّخذَ من أحدٍ من الآدميّين ربّاً من دون الله عزّ وجلّ.
_______________
* نقلاً عن (تفسير الأمثل، للشيخ ناصر مكارم الشيرازي) - بتصرُّف