أحسن الحديث

أحسن الحديث

02/10/2013

يوم كمال الدِّين وتمام النّعمة


يوم كمال الدِّين وتمام النّعمة

﴿..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ..

________المرجع الدّينيّ الشّيخ ناصر مكارم الشّيرازيّ_________


﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة: 3. يظهر للمتأمّل في الآية المباركة أنّ فيها جملة معترضة تبدأ من قوله عزّ وجلّ ﴿..الْيَوْمَ يَئِسَ.. إلى قوله ﴿..الْإِسْلَامَ دِينًا..، بحيث أنّها لو حُذفت لكان المعنى متّصلاً في خصوص أحكام اللّحوم المحرّم أكلُها، وهذا من أسرار القرآن الّتي يكشف عنها التّدبّر مقروناً بالتّمسّك بالثّقل الأصغر.

ما يلي، إضاءة على معنى «اليوم» المقصود في الآية كما جاء في (التّفسير الأمثل) لآية الله مكارم الشّيرازيّ مختصراً مع بعض التّصرّف.

 

بعد أن بيَّنت الآية الأحكام الّتي مرَّ ذكرها [محرّمات اللّحوم] أوردت جملتَين تحتويان معنًى عميقاً: الأولى منهما تقول: ﴿..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ..المائدة:3، والثّانية هي: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. المائدة:3.


متى أكمل اللهُ الدِّين للمسلمين؟

 إنَّ أهمَّ بحثٍ تطرَحُه هاتان الفقرتان القرآنيّتان يتركَّز في كُنهِه وحقيقته كلمةُ «اليوم» الواردة فيهما. فأيُّ يومٍ يا ترى هو ذلك «اليوم» الّذي اجتمعت فيه هذه الأحداث الأربعة المصيريّة، وهي: يأسُ الكفار، وإكمالُ الدِّين، وإتمام النّعمة، وقبولُ الله لِدِين الإسلام ديناً ختاميّاً لكلّ البشريّة؟

لقد قال المفسِّرون الكثير في هذا المجال، وممّا لا شكَّ فيه ولا رَيب أنَّ يوماً عظيماً في تاريخ حياة النّبيّ صلّى الله عليه وآله -كهذا اليوم- لا يمكن أن يكون يوماً عاديّاً كسائر الأيّام، ولو قلنا بأنّه يومٌ عاديٌّ لمَا بقي مبرِّرٌ لإضفاء مثل هذه الأهمّيّة العظيمة عليه كما ورد في الآية.

ولنبحث الآن في القرائن والدّلائل، وفي تاريخ نزول هذه الآية، وتاريخ حياة النّبيّ صلّى الله عليه وآله، والرّوايات المختلفة المستفادة من مصادر إسلاميّة عديدة، لنرى أيّ يومٍ هو هذا اليوم العظيم.

تُرى هل هو اليوم الّذي أَنزل فيه اللهُ الأحكامَ المذكورة في نفس الآية والخاصّة بالحلال والحرام من اللّحوم؟ بديهيٌّ أنّه ليس ذلك، لأنَّ نزولَ هذه الأحكام لا يوجبُ إعطاءَ تلك الأهمّيّة العظيمة، ولا يُمكن أن يكونَ سبباً لإكمال الدِّين، لأنَّها لم تكُن آخِرَ الأحكام الّتي نَزلت على النّبيّ صلّى الله عليه وآله، والدّليل على هذا القول ما نراه من أحكامٍ تلَت الأحكامَ السّابقة في نزولها، كما لا يُمكن القول بأنَّ الأحكام المذكورة هي السَّبب في يأس الكفّار، بل إنَّ ما يُثير اليأسَ لدى الكفَّار هو إيجاد دعامةٍ راسخةٍ قويّةٍ لمستقبل الإسلام، وبعبارةٍ أُخرى فإنَّ نزول أحكام الحلال والحرام من اللُّحوم لا يترك أثراً في نفوس الكفّار، فماذا يُضيرهم لو كان بعض اللُّحوم حلالاً وبعضُها الآخر حراماً؟!

فهل المُراد من ذلك «اليوم» هو يومُ عرفة من حجَّة الوداع، آخِر حجّة قام بها النّبيّ صلّى الله عليه وآله -كما احتَمَله بعض المفسِّرين-؟ وجواب هذا السُّؤال هو النَّفي أيضاً، لأنَّ الدّلائل المذكورة لا تتطابق مع هذا التّفسير، حيث لم تقع أيّ حادثةٍ مهمّةٍ في مثل ذلك اليوم لِتَكون سبباً ليأس الكفّار، ولو كان المُراد هو حشود المسلمين الّذين شاركوا النّبيّ صلّى الله عليه وآله في يوم عرفة، فقد كانت هذه الحشود تحيط بالنّبيّ صلّى الله عليه وآله في مكّة قبل هذا اليوم أيضاً، ولو كان المقصود هو نزول الأحكام المذكورة في ذلك اليوم، فلم تكُن الأحكام تلك شيئاً مهمّاً مخيفاً بالنّسبة للكفّار.

ثمَّ هل المقصود بذلك «اليوم» هو يوم فتح مكّة -كما احتَمَله البعض؟ ومن المعلوم أنَّ سورة (المائدة) نزلت بعد فترةٍ طويلةٍ من فتح مكّة! أو أنَّ المراد هو يوم نزول آيات سورة (البراءة)، ولكنَّها نزلت قبل فترةٍ طويلةٍ من سورة (المائدة).

والأعجب من كلِّ ما ذُكر هو قولُ البعض بأنَّ هذا اليوم هو يوم ظهور الإسلام، وبعثة النّبيّ صلّى الله عليه وآله، مع أنَّ هذَين الحدَثَين لا علاقة زمنيّة بينهما وبين يوم نزول هذه الآية مطلقاً، وبينهما فارقٌ زمنيٌّ بعيدٌ جدّاً.


يوم يأس الكفّار يوم الغدير

وهكذا يتَّضحُ لنا أنَّ أيّاً من الاحتمالات السّتَة المذكورة، لا تتلاءم مع محتوى الآية موضوع البحث. ويبقى لدينا احتمالٌ أخيرٌ ذَكَرَهُ جميعُ مفسِّري الشّيعة في تفاسيرهم وأيَّدوه، كما دَعمَتْهُ رواياتٌ كثيرة، وهذا الاحتمال يتناسب تماماً مع محتوى الآية، حيث يعتبرُ [اليوم –في الآية- هو] «يوم غدير خمّ»، أيْ اليوم الّذي نصَّب النّبيّ صلّى الله عليه وآله عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام بصورةٍ رسميّةٍ وعلنيّةٍ خليفةً له، حيث غشيَ الكفّار في هذا اليوم سيلٌ من اليأس، وقد كانوا يتوهَّمون أنَّ دينَ الإسلام سينتهي بوفاة النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وأنَّ الأوضاع ستَعود إلى سابقِ عهد الجاهليّة؛ لكنّهم حين شاهدوا أنَّ النّبيّ أَوْصى بالخلافةِ بعدَهُ لِرجلٍ كان فريداً بين المسلمين في عِلمه وتقواه وقوّته وعدالته، وهو عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ورأوا النّبيَّ وهو يأخذُ البَيعةَ لعليٍّ عليه السلام، أحاطَ بهم اليأسُ من كلِّ جانبٍ، وفَقَدوا الأملَ في ما توقَّعوه من شرٍّ لمستقبل الإسلام، وأدركوا أنَّ هذا الدِّينَ باقٍ راسخٍ. ففي يوم غدير خمّ أصبح الدِّينُ كاملاً، إذ لو لم يتمّ تعيين خليفة للنّبيّ صلّى الله عليه وآله، ولو لم يتمّ تعيين وضع مستقبل الأمّة الإسلاميّة، لم تكُن لتكتمل الشّريعةُ بدون ذلك، ولم يكُن ليكتمل الدِّين.

وفي ما يلي قرائن أخرى إضافة إلى ما ذُكر في دعم وتأييد هذا التّفسير:

أ - لقد ذَكرت تفاسير (الرّازي) و(روح المعاني) و(المنار) في تفسير هذه الآية أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله لم يَعشْ أكثرَ من واحدٍ وثمانين يوماً بعد نزول هذه الآية، وهذا أمرٌ يثيرُ الانتباه في حدِّ ذاته، إذ حين نرى أنّ وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وآله كانت في اليوم الثّاني عشر من ربيع الأوّل [بحسب الرّوايات الواردة في مصادر جمهور السّنّة، وحتّى في بعض روايات الشّيعة، كالّتي ذكرها الكلينيّ في كتابه المعروف بـ(الكافي)] نستنتج أنَّ نزول الآية كان بالضّبط في يوم الثّامن عشر من ذي الحجّة الحرام، وهو يوم غدير خمّ.

ب - ذكرت رواياتٌ كثيرة -نقلتها مصادر السُّنّة والشّيعة- أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في يوم غدير خمّ، وبعد أنْ أبلغَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله المسلمين بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ومن هذه الروايات:

1 - ما نقلَهُ ابنُ جرير الطّبريّ في كتاب (الولاية) عن زيد بن أرقم الصّحابيّ المعروف، أنَّ هذه الآية نَزلت في يومِ غدير خمّ بشأن عليّ بن أبي طالب عليه السلام.

2 - نقل الحافظ أبو نعيم الأصفهانيّ في كتاب (ما نزل من القرآن بحقِّ عليٍّ عليه السلام) عن أبي سعيد الخدريّ، أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله أعطى في يوم غدير خمّ عليّاً منصب الولاية، وأنَّ النّاس في ذلك اليوم لم يكادوا ليتفرَّقوا حتّى نزلت آية: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.. المائدة:3.

3 - روى الخطيب البغداديّ في (تاريخه) عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنَّ آية ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.. المائدة:3 نزلت عقيب حادثة غدير خم والعهد بالولاية لعليٍّ عليه السلام.

وقد ذكر العلَّامة السّيّد عبد الحسين شرف الدِّين في كتابه (المراجعات) أنَّ الرّوايات الصحيحة المنقولة عن الإمامين الباقر والصّادق عليهما السلام تقول بنزول هذه الآية في يوم غدير خمّ، وأنَّ جمهور السّنّة أيضاً قد نقلوا ستّة أحاديث بأسانيد مختلفة عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله تصرِّح كلُّها بنزول الآية في واقعة غدير خمّ.

يتَّضح ممّا تقدّم أنَّ الرّوايات والأخبار الّتي أكّدت نزول الآية -موضوع البحث- في واقعة غدير خمّ، ليست من نوع أخبار الآحاد لكي يُمكن تجاهلها عن طريق اعتبار الضّعف في بعض أسانيدها، بل هي أخبار إنْ لم تكُن في حكمِ المُتواتِر فهي على أقلّ تقديرٍ من الأخبار المستفيضة الّتي تناقلتها المصادر الإسلاميّة المشهورة.


أمير المؤمنين عليه السّلام خليفة بنصّ القرآن

وقد وردت في الآية (55) من سورة (النّور) نقطة مهمّة جديرة بالانتباه؛ فالآية تقول: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا..، واللهُ سبحانه وتعالى يقطع في هذه الآية وعداً على نفسه بأن يرسِّخَ دعائم الدِّين، الّذي ارتضاه للمؤمنين في الأرض. ولمّا كان نزول سورة (النّور) قبل نزول سورة (المائدة)، ونظراً إلى جملة ﴿..وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. المائدة:3 الواردة في الآية الأخيرة -موضوع البحث- والّتي نزلت في حقِّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام، لذلك كلّه نستنتج أنّ حكم الإسلام يتعزّز ويترسّخ في الأرض إذا اقترن بالولاية، لأنّ الإسلام هو الدّين الّذي ارتضاه الله ووعد بترسيخ دعائمه وتعزيزه، وبعبارةٍ أوْضح إنّ الإسلام إذا أُريدَ له أن يعمَّ العالم كلّه، يجب عدم فصله عن ولاية أهل البيت عليهم السلام.

أمّا الأمر الثّاني الّذي نستنتجه من ضمّ الآية الواردة في سورة (النّور) إلى الآية الّتي هي موضوع بحثنا الآن، فهو أنَّ الآية الأولى قد أعطَت للمؤمنين وعوداً ثلاثة:

أوّلها: الخلافة على الأرض.

والثّاني: تحقُّق الأمن والاستقرار لكَي تكون العبادة لله وحده.

والثّالث: استقرار الدِّين الّذي يرضاهُ الله في الأرض.

ولقد تحقّقت هذه الوعود الثّلاثة في «يوم غدير خمّ» بنزول آية: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.. المائدة:3؛ فمثال الإنسان المؤمن الصّالح هو عليّ عليه السلام الّذي نُصِّب وصيّاً للنّبيّ صلى الله عليه وآله. ودلّت عبارة ﴿..الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ..المائدة:3 على أنَّ الأمن قد تحقّق بصورةٍ نسبيّة لدى المؤمنين. كما بيَّنت عبارة: ﴿..وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا.. المائدة:3، أنَّ اللهَ قد اختار الدِّين الّذي يرتضيه، وأقرّه بين عباده المسلمين. وهذا التّفسير لا ينافي الرّواية الّتي تصرِّح بأنّ آية سورة (النّور) قد نزلت في شأن المهديّ المنتظَر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وذلك لأنّ عبارة ﴿..آَمَنُوا مِنْكُمْ.. لها معنًى واسع تحقَّق واحدٌ من مصاديقه في «يوم غدير خمّ»، وسَيتحقَّق على مدًى أوسع وأعمّ في زمن ظهور المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف.

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

03/10/2013

دوريّات

  إصدارات أجنبيّة

إصدارات أجنبيّة

نفحات