الإنسان الكامل هو قلبُ
العالَم
المعارج الأربعة والأسفار المعنويّة
______الفقيه الحكيم السّيّد حيدر
الآمليّ قدّس سرّه______
ما يلي، مقتطفٌ من كتاب (المحيط الأعظم والبحر الخضمّ في
تأويل كتاب الله العزيز المُحكم) لمؤلّفه الفقيه الحكيم السّيّد حيدر الآمليّ قدّس سرّه، والمتوفّى في القرن الثّامن الهجريّ. يتناول العلّامة الآمليّ الأسفار
المعنويّة الأربعة للنّفس، بالتّحليل والدّليل القرآنيّ، مبيّناً حقيقة معراج المصطفى
صلّى الله عليه وآله من القلب الحقيقيّ إلى أقصى مراتب المشاهدات.
اِعلم أنّ الأسفار المعنويّة المعبّر عنها بالمعراج، أربعةٌ بالاتّفاق:
الأوّل: هو السَّير
إلى الله من منازل النّفس إلى الوصول إلى الأفق المُبين، وهي نهاية مقام القلب
ومبدأ التّجلَّيّات الأسمائّية.
الثّاني: هو السَّير في
الله بالاتّصاف بصفاته، والتّحقيق بأسمائه إلى الأفق الأعلى ونهاية الواحديّة.
الثّالث: هو التّرقّي
إلى عين الجمع والحضرة الأحديّة، وهو مقام قاب قوسَين، ما بقيَت الاثنينيّة، فإذا
ارتفعت فهو مقام: أو أدنى، وهو نهاية الولاية.
الرّابع: هو السَّير بالله
عن الله للتّكميل، وهو مقام البقاء بعد الفناء، والفرق بعد الجمع.
رفع الحُجُب
لكلِّ واحدةٍ من هذه الأسفار بداية ونهاية، أمّا بدايتها فقد عرفتها: من
ابتداء سَير كلّ مرتبة، وأمّا نهايتها فنهاية السّفر الأوّل، وهو رفع حُجُب الكثرة
عن وجه الوحدة، ونهاية السَّفر الثّاني هو رفع حجاب الوحدة عن وجوه الكثرة
العلميّة الباطنيّة، ونهاية السَّفر الثّالث هو زوال التّقييد بالضّدَّين الظَّاهر
والباطن بالحصول في أحديّة الجمع، ونهاية السَّفر الرّابع عند الرّجوع عن الحقّ
إلى الخلق في مقام الاستقامة هو أحديّة الجمع والفرق بشهود اندراج الحقّ في الخلق،
واضمحلال الخلق في الحقّ، حتّى يرى العين الواحدة في صُوَر الكثرة، والصُّور
الكثرة في عين الوحدة، وليس هناك نهاية ولا سفر غير هذه الأربع، وكذلك العروج
بالنّسبة إلى الكلّ، نبيّاً كان أو رسولاً أو وليّاً أو وصيّاً، والتّفاوت بينهم
يقع بحسب الاستعداد والاستحقاق.
تحقُّق المعراج في طرفة عين
وهذا المعراج يجوز أن يكون في ساعةٍ واحدةٍ، ويجوز أن يكون في طرفة عين،
ويجوز أن يكون بعد مجاهدة أربعين سنة، وبل أربعين ألف سنة وأكثر وأقلّ، لأنّه ليس
له حدٌّ محدود ولا زمان مخصوص.
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
الإنسان الكامل هو قلبُ العالم
وإذا عرفْتَ هذا، فاعلم أنّ قوله تعالى: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِه ِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَه
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّه ُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ الإسراء:1، شاهدُ عدلٍ
على صدقِ هذه الدَّعوى، فإنّ قوله: ﴿سبحان الَّذي أسرى بعبده ليلاً..﴾، معناه: سبحان الَّذي أسرى بعبده الحقيقيّ، الَّذي هو
محمّد صلَّى الله عليه وآله ليلاً، أي في ليلة الكثرة الخلقيّة الرّسميّة
الاعتباريّة، من المسجد الحرام أي القلب الحقيقيّ، الحرام على غيره الدّخول فيه، إلى
المسجد الأقصى، أي حضرة الرُّوح وعالم المشاهدة الَّذي هو أقصى نهاية مراتب
المشاهدات.
وقوله: ﴿..الَّذِي بارَكْنا حَوْلَه..﴾، أي مِن نعم الحقائق والمعارف، ﴿..لِنُريه من آياتِنا..﴾ أي لِنريه من آياتنا الدّالة على ذاتنا وصفاتنا وأسمائنا وأفعالنا، وبل
على مشاهدتنا في عالمنا الرّوحانيّة والجسمانيّة.
وقوله: ﴿..إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾،
أي لأنّه هو السّميع الحقيقيّ
باستدعاء عبده البصيرة باستحقاق كلّ واحد منهم.
قلب الإنسان الكامل هو المسجد الحرام
وبيانه مرّة أخرى أوضح من ذلك، وهو: إنّ المسجد الحرام يكون قلبه الحقيقيّ، الحرام على غير الحقّ تعالى، لأنّه محلُّه الخاصّ
ومنزلُه المخصوص لقوله فيه: «لا يَسعني أرضي ولا سمائي، ولكن يَسعني قلبُ عبدي
المؤمن».
ونسبة هذا القلب إلى المسجد الحرام، الَّذي هو قبلة أهل العالم، لأنّه أيضاً
قبلة جميع أعضائه الظّاهرة والباطنة، وقواه الصّوريّة والمعنويّة، وأنّه أوّل صورة
ظهرت في صورة الإنسان حين نطفة أو علقة أو مضغة، كما أنّ الكعبة ﴿..أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ
مُبَارَكًا..﴾ آل
عمران:96، والمسجد الأقصى يكون روحه الَّذي هو المضاف إليه لقوله:
﴿..وَنَفَخْتُ فِيه مِنْ رُوحِي..﴾ الحجر:29، لأنّه أقصى
مقام المشاهدة وأعلى درجة الكشف لقول الإمام عليه السّلام: «وقلبي بمعرفتك وروحي بمشاهدتك».
ولقول جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام: «لو كُشِف الغطاء ما ازددْتُ
يقيناً».
ونسبته إلى المسجد الأقصى الَّذي هو قبلة أهل الشّرق من أمّة عيسى عليه السّلام، لأنّ الرّوح من عالم الرّوحانيّات الَّذي هو بالنسبة إلى العالم كالمشرق
كما قرَّرناه، لأنّه قبلة قلب الإنسان، كما أنّ القلب قبلة جميع الجسد. والكعبة
مثلاً بالنّسبة إلى المسجد، والمسجد بالنّسبة إلى الحرم، لأنّ البَدن بمثابة الحرم،
والقلب بمثابة المسجد، والرّوح بمثابة الكعبة.
رؤية الملكوت والصّفات والذّات في المعراج
وقوله: ﴿..الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ..﴾ الإسراء:1، إشارة إلى
الرُّوح وما حوله، وتقديرُه أي باركنا حوله بِنِعَمِ المعارف والحقائق والأسرار
والدَّقائق، وكان العلّة في ذلك أي في العروج، لِنُريه من آياتنا الأنفسيّة دون
الآفاقيّة مشاهدة ذاتِنا وصفاتِنا في ذاتِه وصفاتِه مشاهدةَ شهودٍ وعيانٍ، ونجعله
بعد ذلك سميعاً لأقوالِنا وأسرارِنا، بصيراً لإشاراتِنا ورموزِنا، لأنّه الخليفةُ
في مُلكِنا وملكوتِنا، وإليه الأمر في آفاقنا وأنفسنا، له الحكم وإليه ترجعون، أي
له الحكم فيهما والنّصب والعَزْل، تارة بالنّسبة إلى أهلها، وإليه يرجعون في
حوائجهم وقضائها، أعني في مصالحهم الدّينيّة والدّنياويّة.