العلاقة الرّوسيّة
– الأميركيّة، واتّفاق جنيف
_____ الأستاذ منير
شفيق*____
لعلَّ الجانب الإيجابيّ
الّذي أخذ يبرز حتّى الآن في ما يتعلّق بالاتّفاق الأميركيّ – الرّوسيّ الأخير في
جنيف حول السّلاح الكيماويّ السّوريّ، تجسّد في ما راح يبرز من تعثُّرٍ وخلافاتٍ في
تنفيذه ما بين الطّرفين.
الأمر الّذي يشير إلى
أنّ الاتّفاق ما زال في بداياته، وأنّه لم يمثّل، كما تصوّر البعض، مرحلة جديدة من
التّعاون بين القطبَين الكبيرَين.
الرُّوس من جهة
استراتيجيّتهم العليا يستهدفون انتزاع رضوخٍ أميركيٍّ، باعتبار روسيا الشّريك
العالميّ الّذي يستطيع بالتّعاون مع أميركا، إذا قبلت به كذلك، أن يقيما معاً،
مرّةً أخرى، نظاماً عالميّاً ثنائيّ القطبيّة.
طبعاً لا يقول الرّئيس
فلاديمير بوتين أو وزير خارجيّته سيرغي لافروف ذلك، بكلّ هذا الوضوح، لما قد يثيره
نظام عالميّ روسيّ – أميركيّ ثنائيّ القطبيّة من اعتراض، أو مخاوف دول كبرى
وإقليميّة كثيرة. فهذا الهدف يُرادُ له أن يتحقّق قبل أن يُعلَنَ عنه بصراحة
وفظاظة. ولكن مَن يقرأ وراء السُّطور بالنّسبة إلى السّياسات الرّوسيّة الأخيرة،
يستطيع أن يقطع بأنَّ ذلك هو الهدف للاستراتيجيّة الرّوسيّة الحاليّة.
أمّا أميركا، فلم تقبل
بهذه الشّراكة بعد بالرّغم من تدهور قدرتها على إقامة نظامٍ عالميٍّ أحاديّ القطبيّة،
وربّما تهاوى أملُها في تحقيقه، لا سيّما بعد الهزائم الّتي لحقت باستراتيجيّة
المحافظين الجُدد في عهدَيْ جورج دبليو بوش 2001-2009، والتي تُوِّجَت بالأزمة الماليّة
الّتي عصفت بالعولمة المؤمركة في العام 2008، وما زالت ترسل ارتداداتها حتّى
اليوم.
النّظام
الأُحاديّ القطبيّة وهمٌ
لم تعد أميركا قادرة
على الانفراد في السّيطرة على النّظام العالميّ، وهي لم تكن كذلك خلال العقدَين
اللّذين تليا انهيار الاتّحاد السّوفياتيّ. وقد توّهمت، وتوّهم الكثيرون، أنَّ
نظاماً أُحاديّ القطبيّة بقيادتها أصبح على الأجندة، أو حتّى تحقَّق فعلاً. وقد
جاء هذا التوّهم بأنَّ انهيار معسكر وارسو وانحلال الاتّحاد السّوفياتيّ لم يُبقيا
منافساً، أو متحدّياً، لأميركا. وبهذا أسقط من حسابه معادلة الدّول والشّعوب
الأخرى وتعارضه مع مصالحها العليا.
في الواقع، أميركا
أصبحت أضعف، وأكثر هشاشة، بعد انهيار الاتّحاد السوفيّاتيّ ومعسكره. لأنَّ القطبين
ما كانا أصلاً قد أحكما السّيطرة على العالم؛ إذ بقيت هنالك ثغرات كثيرة نفَذَت
منها الصّين وثورات فييتنام وكمبوديا ولاوس، كما حركة عدم الانحياز، والثّورة
الفلسطينيّة في بداياتها، والأهمّ الثّورة الإسلاميّة في إيران. الأمر الّذي كان
يفترض منذ البداية الأخذ بموضوعة استحالة إقامة نظام أُحاديّ القطبيّة بسبب عدم
قدرة أميركا وحدها التّحكّم في مصالح الدّول الكبرى، فضلاً من دول العالم كافّة.
ثمّ ناهيك من إرادة الشّعوب القادرة على كسر أيّ نظام عالميّ تتحكّم فيه دولة
واحدة أو دولتان أو أكثر.
ولكنَّ أميركا، وبالرّغم
من وقائع العقدَين الأخيرَين، لم تستطع حتّى استيعاب ضعفها، أو ابتلاع هبوطها من
موقع الدّرجة الكبرى الأقوى. ومن ثمّ التّعامل الصّريح مع هذا الواقع. فقد تذهب
القوّة، أو القدرة عند الدُّول، أو حتّى عند الأفراد، ولكن يَتأخّر الوعي، أو
ضرورة التّخلّي عن الغطرسة السّابقة، بما ألِفَتْه من عادات، فيصعب التّأقلم مع
حالة الضّعف وذهاب ما كان من سطوة وقدرة.
أميركا اليوم في هذه المرحلة: ذهاب القدرة السّابقة، مع بقاء الغطرسة السّابقة.
ولكن مع ارتباكٍ فاضحٍ في سياساتها نتيجةً ذلك.
من هنا لا تستطيع
الإدارة الأميركيّة، أو الّذين يخطِّطون لها، التّقدّم بسياساتٍ نابعة من
استراتيجيّة عليا، تتناسب وما نشأ من موازين قوى وحقائق جديدة. وهذا يفسّر ما أخذت
تظهره من تراجع في دورها في الكثير من الحالات الجزئيّة ولكن مع تردّد، أو مع
تطعيمه بمحاولات التّصرّف كما كان الحال في الأيّام الخوالي.
الطّموح
الرُّوسيّ، والتّسليم الأميركيّ
ثمّة الكثير من الشّواهد
على هذه السّياسة، وآخرها كان التّعامل مع الوضع الجديد في مصر، أو مع التّلويح
بتوجيه ضربة عسكريّة إلى سوريا إثر اتّهامها باستخدام السّلاح الكيماويّ.
ويشهد على هذا التّناقض،
الشّبيه بانفصام الشّخصيّة، أو الازدواجيّة في الشّخص الواحد، الاتّفاق الرّوسيّ –
الأميركيّ في جنيف حول سوريا، ثمّ التّعامل الأميركيّ مع هذا الاتّفاق لاحقاً. وهو
ما هزّ الاستنتاج أنّ الاتّفاق مثّل مرحلة جديدة في العلاقة بين الدّولتين الكبريَين،
ليمضي في طريق الطّموح الاستراتيجيّ الرّوسيّ بالسّعي لإقامة نظامٍ ثنائيِّ القطبيّة.
وبكلمةٍ أخرى، يبدو أنّ
أميركا لم تصل بعد إلى التّسليم بهذا الدّور الشّريك لروسيا، وإنْ حمل ما يُسوِّغه
بسبب موازين القوى، والأهمّ إذا ما استقرّت الاستراتيجيّة الأميركيّة على إعطاء
الأولويّة الحاسمة لمواجهة المنافس الصّينيّ، ومحاولة احتوائه والحدّ من تقدّمه
كالصّاروخ للتّحوّل إلى الدّولة الكبرى الأولى خلال العقدَين القادمَين.
إلى هنا يمكن قراءة
الاتّفاق الأميركيّ – الرّوسيّ الأخير في جنيف، باعتباره خطوة فارقة باتّجاه
احتمال التّطوّر نحو ثنائيّة قطبيّة إن لم تكن على مستوى أغلب القضايا الإقليميّة
والعالميّة، فيمكن أن تمتدّ إلى قضيّة أو أكثر، لا سيّما في ما يسّمى (زُوراً)
منطقة الشّرق الأوسط، مثلاً إيران، أو المفاوضات الفلسطينيّة - الصّهيونيّة
الجارية.
على أنَّ التّعقيدات
الّتي أخذت تُطلقها أميركا في وجه كيفيّة تطبيق الاتّفاق أو الانتقال إلى ما بعده
هو الّذي يهزّ تلك القراءة. ولكن من دون أن يُسقطها أو يستبعدها حتّى الآن على
الأقلّ.
وأخيراً، ثمّة أبعاد أخرى
مهمّة لاتّفاق جنيف لم تتطرّق لها هذه المقالة، لأنَّ التّركيز على العلاقة الأميركيّة
– الرّوسيّة يعود لأهمّيّتها القصوى عالميّاً وإقليميّاً.
- خبير في الدّراسات الاستراتيجيّة