حيث تجلّت في كربلاء حقائقُ الوحي ومقاصدُ الشّريعة المطهّرة
روحُ كربلاء تلهم الأمّة والأجيال
_____الشّيخ
محمّد مهدي شمس الدّين رحمه الله_____
المقالة
التّالية لآية الله الشّيخ محمّد مهدي شمس الدّين رحمه
الله، تأصيلٌ لمنزلة الشّهادة كقربانٍ إلهيٍّ
قدَّمهُ سيِّدُ الشُّهداء الإمام الحسين عليه
السلام مع أهل بيته في واقعة الطّفّ. أهمّيّة
هذا التّأصيل تعود إلى رؤية الاستشهاد الحسينيّ كظاهرةٍ روحيّةٍ باعثُها الوَلَه
والحبّ والعشق الإلهيّ بما هي معانٍ راسخة في حقائق الوحي والشّريعة المطهّرة.
نشير
إلى أنَّ هذا النّصّ مقتطف من كتاب الشّيخ رحمه
الله، وهو تحت عنوان: «أنصار الحسين».
لإيضاح
مفهوم الشّهادة، نستذكر قول أبي الشّهداء الإمام الحسين عليه
السّلام في خطبته في المدينة حين أزْمَعَ التّوجُّه
نحو الاستشهاد: «.. خُطَّ الْمَوْتُ عَلى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ الْقِلادَةِ
عَلى جِيدِ الْفَتاةِ، وَما أَوْلَهَني إِلى أَسْلافي اشْتِياقَ يَعْقُوبَ إِلى
يُوسُفَ، وَخِيْرَ لي مَصْرَعٌ أَنَا لاقيهِ، كَأَنّي بِأَوْصالي تُقَطِّعُها
عُسْلانُ الْفَلَواتِ بَيْنَ النَّواويسِ وَكَرْبَلاءَ، فَيَمْلأْنَ مِنّي
أَكْراشاً جوفاً وَأَجْرِبَةً سُغْباً، لا مَحيصَ عَنْ يَوْم خُطَّ بِالْقَلَمِ،
رِضىَ اللهِ رِضانا، أَهْلَ الْبَيْتِ، نَصْبِرُ عَلى بَلائِهِ وَيُوَفّينا
أُجُورَ الصّابِرينَ، لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله
لُحْمَتُهُ، وَهِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ في حَظيرَةِ الْقُدْسِ، تَقَرُّ بِهِمْ
عَيْنُهُ، وَيُنْجَزُ بِهِمْ وَعْدُهُ، مَنْ كانَ باذِلاً فينا مُهْجَتَهُ، وَمُوَطِّناً
عَلى لِقاءِ اللهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ مَعَنا فَإِنّي راحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ
شاءَ اللهُ تعالى».
إنَّ
الوَلَهَ هو أسمى وأعلى مراتب الحبّ والعشق، إنّه الذّروة الّتي تستقطب كلّ وعي الإنسان
وإمكاناته نحو مركزها، ونلمس هذه الظّاهرة الرّوحيّة في جميع النّصوص الّتي تُحدِّثنا
عن الحالة الكيانيّة للشّهداء في ذروة اندفاعهم نحو الشّهادة.
إنَّنا
نلمس من خلال النُّصوص الّتي تحاول أن تصوِّر هذه الظّاهرة الرّوحيّة، وهي بالتّأكيد
عاجزة عن تقديمها إلينا بشكلٍ كاملٍ، نلمسُ أنَّ هؤلاء الشُّهداء كانوا يستشعرون ذُروةَ
السّعادة في هذه الذّروة من الاندفاع نحو الشّهادة، نسألُ اللهَ تعالى أنْ يَرزقَنا
الشّهادة.
الموتُ
كَقدرٍ، والشّهادةُ كنعمة
ومن
هنا، فثمّة بَونٌ شاسِع، وفرقٌ نوعيٌّ أساسيٌّ، بين الموت وبين الشّهادة. الموت
نهاية طبيعيّة لكلِّ حيّ، ولكنّ الشّهادةَ ليست نهايةً لكلِّ حياة. الموتُ قدَرٌ
إلهيٌّ ثابتٌ، والشّهادة نعمةٌ نادرةٌ ليست مجّانيّةً كسائر النِّعَم الإلهيّة؛
وإنّما هي نعمةٌ تقتضي شروطاً لا بدَّ من تحقيقها، وهي القضيّة العادلة المستقبليّة،
والاتّحاد بالقضيّة، وبيعُ النّفسِ لله تعالى من خلال هذه القضيّة.
ولأنَّ
الشّهادةَ نعمةٌ غير مجّانيّة، فإنَّ اللهَ تعالى هو الّذي يَختارُ الشُّهداءَ وليست
الصُّدفة هي الّتي تصنعُ الشّهداء. يقول الله عزَّ وجلَّ في كتابه العزيز: ﴿..وَلِيَعْلَمَ
اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لَا يُحِبُّ
الظَّالِمِينَ﴾ آل عمران:140.
فالشَّهادةُ
اتِّخاذٌ واصطفاءٌ واختيارٌ من الله، ومن هنا قلنا إنَّها نعمةٌ غير مجّانيّة. ويؤكِّد
هذا المعنى ما حفلت به السُّنّةُ الشّريفة، وخاصّةً ما يتعلَّق منها بالحقلِ التّربويّ
والتّوجيهّي من التّعبير عن الشّهادة بأنَّها رزقٌ، ومِن اشتمالِ كثيرٍ من نصوص
الأدعية التّربويّة الشّريفة على نصوصٍ تتضمَّن التّوجُّه إلى الله بالدُّعاء طَلَباً
لِرزقِ الشّهادة.
وتَتناسبُ
حيويّةُ كلِّ أمّةٍ وروحُ الانبعاث في كلِّ جماعةٍ طرداً وعكساً مع انتشار روح الشّهادة،
وتصوُّراتها بين أفراد تلك الأمّة والجماعة ومع كثرة الشّهداء الأحياء وندرتهم في
تلك الأمّة والجماعة. فكلّما نما في الأمّة عددُ هؤلاء الشُّهداء الأحياء، كلّما
كانت الأمَّةُ أقدر على النُّهوض وأقرب إلى تحقيق أهدافها من خلال تحقيق قضيّتها،
وكلَّما ندَرَ في الأمَّة عددُ هؤلاء الشُّهداء الأحياء، كانت الأمّةُ أعجزَ عن
النُّهوض، وأقرب إلى أن تكون منالاً سهلاً لأعدائها والمتربِّصين بها، وهذا قانونٌ
حياتيٌّ تاريخيٌّ ينطبق على كلِّ الأمم في كلِّ العهود وفي جميع الحضارات. ويمكن
أن نقدّم مثالاً له من حياة الإسلام بين عهد الرّسول صلّى
الله عليه وآله وبين عهد الإمام الحسين عليه
السّلام.
الشّهادة
في حركة التّاريخ
ففي
عهدِ الرّسول صلّى الله عليه وآله
، كانت روحُ الشّهادة بين أصحابه شائعةً كالهواء والنُّور، فحقَّقَ الإسلامُ والمسلمون
انتصارات تجاوزت كلّ القوانين العاديّة للتّاريخ، لأنَّ عاملاً نوعيّاً هو عامل
الشّهادة، غير المعطيات العاديّة لحركة التّاريخ، واستمرَّت هذه الاندفاعة بفضل
هذه الرُّوح، حتّى حقّقت للإسلام ".." انتشارَه
الأعظم.
أمّا
في عهد الإمام الحسين عليه السّلام،
مع انتشار الإسلام وانتشار ثقافته ونموِّ مجتمعه، فقد كانت روحُ الشّهادةِ ضئيلةً
تُشبِهُ النّجوم في ظُلُمات اللّيل، بحيث لم يَستطِع كلُّ الظُّلم الأمويّ، وكلُّ
التّحدّي الحسينيّ العلويّ الإسلاميّ، أن يولِّد إلَّا عدداً محدوداً من الشُّهداء
تُمثِّل نخبتهم شهداء كربلاء، ما اقتضى من الإمام الحسين عليه
السّلام، وقد أدرك هذه الحقيقة المرعبة، أن
يقوم بثورته العظيمة و[الاستشهاديّة] من أجل أن يفجِّر في الأمّة الإسلاميّة روحَ
الشّهادة من جديد، لِتَغدو كالنُّور والهواء كما كانت في عهد رسول الله صلّى
الله عليه وآله ولِتستأنفَ الأمّةُ بهذه الرُّوح جهادَها
من أجل العدالة والكرامة الإنسانيّة للمُستضعَفين، كلِّ المُستضعّفين في الأرض،
ومن هذا المنظور يمثِّل أنصارُ الحسين عليه السّلام
شهداء كربلاء، أعلى ذروة نوعيّة في سِجِلِّ الشّهادة والشّهداء في تاريخ الإسلام
كلِّه، لأنَّهم صمَّموا على نيل الشّهادة الّتي رَزَقَهم اللهُ إيّاها في حالةٍ من
الهزيمة للأمّة، أمام قوى الطّغيان، وهذا ما يميِّزُهم عن شهداء العهد النّبويّ الّذي
صمَّموا على نيل الشّهادة الّتي رَزَقهُم اللهُ إيّاها، في حالة من اندفاع الأمّة
نحو مواجهة قوى الطّغيان، وفي حالةٍ كانت الشّهادة في حياة الأمّة كالنّور
والهواء.
إنَّ
التّضحية العظمى الّتي جعلت شهداء كربلاء يتجاوزون حياتَهم من أجل الآخَرين، ونحو
الآخَرين، الّذين كان موقفهم في الغالب موقف الخذلان وفي النّادر موقف الأسى السّلبيّ
المتفرِّج، يختلفُ، بالتّأكيد، عن التّضحية العظمى الّتي جَعَلَت شهداءَ العهد النّبويّ
يتجاوزون حياتهم نحو الآخَرين ومن أجل الآخَرين، الّذين كان موقفهم موقف المشارك المُتعاطف:
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ
أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ
فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ
أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ
مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ آل
عمران:169-171.
إنِّي
لمْ أكتُب هذه الدّراسة عن شهداء كربلاء الأبرار إحياءً لِذكرهم، فهم ﴿..أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾، وإنَّما كتبتُها لِأَصِلَ حياتي بحياتِهم، فأتعلَّم
منها وأستشعر بها روح الشّهادة، ونشرتُ هذا الكتاب في النّاس ليَستذكرَ قرَّاؤه
روحَ الشّهادة هذه، في زمنٍ طَغَت فيه على الأمّة الإسلاميّة روحُ التَّرَف، وضَمرَت
فيه روحُ الشّهادة، وطَغَت فيه مُثُلُ الحياة المادّيّة الّتي تُجرِّدُ الإنسانَ
من أيَّة قضيّةٍ تجعل من حياته مشروعاً يتجاوز ذاته نحو الآخَرين ومن أجل الآخَرين،
وانحسرتْ فيه رُوحُ الإسلام الّتي هي قضيّة الأمّة الإسلاميّة الّتي تستطيع أنْ
تحرِّر بها نفسها، وتُحرِّر بها الآخرين من أغلالِ الاستعمار الجديد في العالم الثّالث
والعالم الإسلاميّ، ومِن أغلال «إسرائيل» ووجودها العدوانيّ الرّجعيّ في العالم
العربيّ. فلم تستطع الأمّةُ الإسلاميّة أن تتجاوز أغلال عبوديّتها وتخلُّفها، ولن
تستطيع أن تستعيدَ دورَها الحضاريّ والسّياسيّ في العالم بدون أنْ تنمو في فكرِها وعقلِها
وجميعِ وجوه حياتِها روحُ الشّهادة الّتي تولِّد الشُّهداء الأحياء، الّذين يستطيعون
أن يقودوا خطى الأمّة نحو النّصر في طريقهم نحو ختمِ حياتِهم بالشَّهادة.
إنَّ
هذا هو الطّريق الوحيد للخروج بالأمَّة ممَّا هي فيه، وهذا هو الشّرط التّغييريّ
الوحيد الّذي يجب أن يتوفَّرَ في معظم أفراد الأمّة، لتستطيعَ أن تُغيِّر ما يحيطُ
بها ويحلّ فيها من بلاء، بعد أن تغيِّر ما بنفسها من عوامل التَّخلُّف والضّعف
والهزيمة ﴿..إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا
بِأَنْفُسِهِمْ..﴾ الرّعد:11.
وسيَبقى
الإمام الحسينُ عليه السّلام
وأنصارُه معلِّمين كباراً، وروّاداً عِظاماً في عمليّة التّغيير الّتي يُمثِّل النّبيُّ
وآلُ بيتِه الأطهار عليه السّلام
رُوَّادها في كلِّ عصرٍ ولكلِّ جيلٍ.
أَخْفَى
أربعةً في أربعةٍ
عن
أبي بصير، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر، عن أبيه عليّ بن
الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه أمير المؤمنين عليهم السّلام، قال:
إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى
أخفى أربعةً في أربعةٍ:
1- أَخفى رضاه في طاعتِه فلا تَستَصغِرنَّ شيئاً من
طاعتِه،
فربَّما وافقَ رضاهُ وأنتَ لا تَعلمُ.
2- وأَخفى سَخَطَهُ في معصيتِه فلا تَستَصغِرنَّ شيئاً من
معصيتِه،
فربَّما وافَق سَخَطَهُ مَعصِيَتُهُ وأنتَ لا تَعلمُ.
3- وأَخفى إجابتَه في دعوتِه فلا تَستَصغَرنَّ
شيئاً
من دُعائه، فربَّما وافقَ إجابَتَهُ وأنتَ لا تَعلمُ.
4- وأَخفى وليَّه في عبادِه فلا تَستَصغِرنَّ
عبداً
من عبيدِ الله، فربَّما يكونُ وليَّهُ وأنت لا تَعلمُ.
الخصال، للشّيخ الصَّدوق