عوالمُ السّفر
إلى الله تعالى
توجيهات السّيّد بحر العلوم في السَّير والسُّلوك
ـــــ آية الله
الشّيخ ناصر مكارم الشّيرازيّ ـــــ
معلومٌ أنّ أرباب السَّير والسّلوك، والعلماء
الّذين سلكوا هذا الطّريق، واتّخذوا من القرآن الكريم والسّنّة الشّريفة دليلاً لهم
- لا الصّوفيّين الّذين تأثّروا بالمذاهب غير الإسلاميّة الأجنبيّة - فكلّ واحدٍ من
أولئك الأفاضل اقَتَرح طريقةً تختصّ به، أو بتعبير أدقّ، اتّخذَ وأرشدَ إلى منازل السّفر
إلى الله تعالى ومراحله.
ما يلي، مقتطفٌ
من كتاب (الأخلاق في القرآن) للمرجع الدّينيّ الشّيخ ناصر مكارم الشّيرازيّ، تناول
فيه طريقة آية الله السّيّد محمّد مهدي بحر العلوم قدّس سرّه في السّير
والسّلوك إلى الحقِّ تعالى، ملخِّصاً ما ورد في الرّسالة المنسوبة إليه (لُبّ
اللُّباب).
هناك كتابٌ منسوبٌ للعلاّمة
الفقيه العالم السّيّد محمّد مهدي بحر العلوم، ورغم أنّ بعض أبحاثه لا يمكن القول بصدورها
منه، إلّا أنّ بعضَ أقسامه والحقّ يُقال، في غاية الأهمّيّة، فقد ذكر السّيّد في هذا
الكتاب أربعةَ عوالمَ ومنازل مهمّة للسّير والسّلوك إلى الله، والقرب منه تبارك
وتعالى، وهي:
1- الإسلام.
2- الإيمان.
3- الهجرة.
4- الجهاد.
وكلّ واحدٍ من هذه العوالم
الأربعة، ذَكر له ثلاثَ مراحل، فيصبحُ المجموع اثنتَي عشرةَ مرحلةً، وبعد تجاوز هذه
المراحل الاثنتَي عشرة، يصلُ السّالك إلى الله عزّ وجلّ، وإلى عالم الخُلوص والفناء.
وأمّا المراحل أو المنازل الاثنتَا عشرة، فهي:
المنزل الأوّل: الإسلامُ الأصغر،
والقصدُ منه هو إظهارُ الشّهادتَين والتّصديق بهما في الظّاهر، وأداءُ الوظائف الدّينيّة.
المنزل الثّاني: الإيمانُ الأصغر،
وهو عبارةٌ عن التّصديق القلبيّ والاعتقاد الباطنيّ بكلّ المعارف الإسلاميّة.
المنزل الثّالث: الإسلامُ الأكبر،
وهو عبارةٌ عن التّسليم في مقابل كلّ حقائق الإسلام، وجميع الأوامر والنّواهي الإلهيّة.
المنزل الرّابع: الإيمانُ الأكبر،
وهو عبارةٌ عن روح الإسلام الأكبر ومعناه، والّذي ينتقلُ من مرتبة الطّاعة، إلى مرتبة
الشّوق والرّضا والرّغبة.
المنزل الخامس: الهجرةُ الصّغرى،
وهي الانتقالُ من «دار الكفر»، إلى «دار الإسلام»، وهي شبيهةٌ بهجرة المسلمين، من مكّة
- الّتي كانت مقرّاً للكفّار - إلى المدينة المنوّرة.
المنزل السّادس: الهجرةُ الكبرى،
وهي الهجرةُ والابتعادُ عن أهل الذّنوب والعصيان، وعدمُ الجلوس مع الظّالمين والملوَّثين.
المنزل السّابع: الجهادُ الأكبر،
وهو عبارةٌ عن محاربة جنود الشّيطان، بالاستمداد من جنود الرّحمن، وهي جنودُ العقل.
المنزل الثّامن: منزلُ الفتح والظّفَر
على جنود الشّيطان، والتّحرُّر من سلطتِهم، والخروج من عالم الجهل والطّبيعة.
المنزل التّاسع: الإسلامُ الأعظم،
وهو عبارةٌ عن الغلَبة على جنود الشّهوة والآمال البعيدة، فتنتصر العواملُ الموقِظةُ
الخارجيّة، على العوامل الانحرافيّة الدّاخليّة، وهنا يكون القلب، مركزاً للأنوار الإلهيّة،
والإضافات الرّبانيّة.
المنزل العاشر: الإيمانُ الأعظم،
وهو الفناءُ في الله تعالى، ومرحلةُ الدّخول في عالم: ﴿فادخُلِي فِي عِبادِي
* وادخُلِي جَنَّتِي﴾ الفجر:29-30، وعندها تظهر حقيقةُ العبوديّة
لله تعالى في واقع النّفس.
المنزل الحادي عشر: الهجرةُ العظمى،
وهي هجرةُ الذّات ونسيانُها، والسّفرُ إلى عالَم الوجود المطلَق، والتّوجّهُ الكاملُ
للذّات المقدّسة للباري تعالى، وهي الّتي تدخلُ في جملة خطاب: ﴿وادخُلِي جَنَّتِي﴾ الفجر: 30.
المنزل الثّاني عشر: الجهادُ الأعظم،
فبعد هجرة الذّات، يتوسّل بالله تعالى أن يمحوَ كلَّ آثار الأنا، ويضعَ القَدَمَ على
بساط التّوحيد المُطلَق.
فبعد أن تُطوى هذه العوالم
الاثنا عشر، يدخل في عالم الخُلوص، ويكون مصداقاً لقوله تعالى: ﴿..بَلْ أَحْيَاءٌ
عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ آل عمران:169.
كيفيّة السّير
والسّلوك في هذه الطّريقة
بعد ذكره العوالم والمنازل
المذكورة آنفاً، يتطرَّق آية الله السّيّد بحر العلوم إلى كيفيّة السّير في هذا الطّريق
الصّعب، والمليء بالمخاطر، ويذكر خمسَ وعشرين أمراً للوصول إلى المقاصد العليا، ونحن
نذكرها بشكلٍ مختصرٍ:
أوّلاً: تَرْكُ الآداب
والرّسوم والعادات الّتي تقفُ عقبةً في الطّريق، وتُغرقه في بحر الآثام.
ثانياً: العزمُ القاطع
على السّير في هذا الطّريق، فلا يخاف شيئاً، ولا يتردّد، ولْيَعتمد على لُطف الله تعالى.
ثالثاً: الرّفقُ ومُداراةُ
النّفْس، فلا يحمّلها أكثر من طاقتها، كي لا تنفر ولا تنطفئ جذوتُها، ولئلّا تنقطع
عن المسير.
رابعاً: الوفاء، وهو الوفاءُ
بالبقاء على العهد في التّوبة، وترْكِه للذّنوب وَعدم العودة إليها، وليكون وفيّاً
مع أستاذه أيضاً.
خامساً: الثّباتُ والدّوام،
يعني الدّوام على ما اختاره من برامج لنفسه، حتّى تُصبح عادةً عنده، ولكي يُغلق طريقَ
العودة على نفسه.
سادساً: المُراقبة، وهي
عبارة عن الانتباه لنفسه في كلِّ الأمور والأحوال، ولِئلّا تصدر منه المخالفة.
سابعاً: المحاسبة، كما
جاء في الحديث: «لَيسَ مِنّا مَنْ لَم يُحاسِبْ نَفسَهُ كُلَّ يَومٍ».
ثامناً: المؤآخذة، حيث
يوآخذ نفسه في كلّ خطأٍ يصدر منه، ويُعاقبُها.
تاسعاً: المسارعة، يعني
أن يعمل بمقتضى أمر: ﴿وسَارِعُوا إِلى مَغْفِرَة مِنْ رَبِّكُم..﴾ آل عمران:133، الواردِ في القرآن
الكريم، فيُسارع في كلّ خيرٍ، لئلّا يسبقه الشّيطان ويوسوس له في تركه.
عاشراً: خُلوصُ الباطن،
وهو تطهيرُه، بحيث لا يكونُ في قلبه أدنى غشّ، بل يكون الحبُّ التّامُّ لرسول الله
صلّى الله عليه وآله صاحبِ الشّريعة،
والأوصياءِ المعصومين عليهم السّلام.
الحادي عشر: الأدب، أي حفظُ
حُرمة الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وأوصيائه المعصومين
عليهم السّلام، بحيث لا يتلفّظ بلفظٍ
يدلُّ على عدم الرّضا منهم، والاعتراض عليهم عليهم السّلام، وحفظُ حرمة الأكابر،
وأن لا يستعمل ألفاظاً تدلّ على الأمر والنّهي لبيان حاجته في الدّعاء.
الثّاني عشر: النّيّة، وتعني
إخلاصَ القصدِ في هذا المسير والحركة، وفي جميع الأعمال لله تعالى.
الثّالث عشر: الصّمت، ويعني
الاكتفاء بالمقدار اللَّازم من الكلام.
الرّابع عشر: الجوعُ وقلّةُ
الأكل، وهو من الشّروط المهمّة لسلوك هذا الطّريق، ولكنّ ليس للحدّ الّذي يبعثُ على
الضّعف وعدم القدرة.
الخامس عشر: الخَلْوَة، وهي
عبارةٌ عن العزلة عن أهل العصيان، وطلَّابِ الدّنيا وأصحابِ العقول النّاقصة، والتّوجّهِ
الخالصِ لله عند العبادة والذِّكر، والابتعاد عن الضّوضاء وعناصر التّشويش الذّهنيّ.
السّادس عشر: السّهَر، وخصوصاً
في الثّلُث الأخير من اللّيل، الّذي أكَّدته الآياتُ والرّوايات.
السّابع عشر: الدّوامُ على
الطّهارة، وهو أن يكون على وضوءٍ دائماً، حيث ينوّر الباطن بأنوارٍ خاصّةٍ.
الثّامن عشر: التّضرُّعُ لله
تعالى، والتّحرُّكُ على مستوى إظهار الخضوع له، أكثرَ فَأكثر.
التّاسع عشر: عدمُ إعطاء النّفس
ما تريد وإنْ كان مُباحاً، بالقدر الّذي يستطيع.
العشرون: كتمانُ السّرّ،
وهو من أهمّ الشّروط، وهو ما يؤكِّده أساتذةُ هذا الأمر، حتّى لا يجرّ الإنسان للرّياء
والتّظاهر، وإذا ما حصلتْ له المكاشفة، يجب أن لا يخبر أحد لئلَّا يُصابَ بالعُجب.
الحادي والعشرون: يجبُ الالتزامُ
في عمليّة السّلوك المعنويّ بأستاذ، ".." ويجبُ على السّالكِ
الحذرُ الشّديدُ في هذه المرحلة، لأنّه يوجَد بعضُ الشياطين ممّن يتلبّسون بلباس الأساتذة..
الثّاني والعشرون: «الأوراد»، وهي
عبارةٌ عن الأذكار الّتي تفتحُ للسّالك الطّريقَ والمرورَ من المطبَّات الصّعبة، وتُعينه
في المسير إلى الله تعالى.
الثّالث والعشرون: نفيُ الخواطر،
وهو تسخيرُ القلبِ والحكومةُ عليه، والتّمركزُ الفكريّ، بحيث لا يمرّ من خاطره شيءٌ
إلّا باختياره وإذنِه، أو بتعبيرٍ آخَر،لا تشغل تفكيرَه الأفكارُ المُشوّشة، وهو من
الأمور الصّعبة.
الرّابع والعشرون: التّفكُّر، والقصدُ
منه أنّ السّالكَ يسعى من خلال التّفكير الصّحيح والعميق، في اكتسابِ المعرفة الحقّة،
ويحصر تفكيرَه في عالم الصّفات والأسماء الإلهيّة، وتجلّياته وأفعاله سبحانه.
الخامس والعشرون: الذِكّر، والمرادُ
منه التّوجّهُ القلبيُّ للذّات المقدّسة للباري تعالى، وليس مجرَّد الذِّكر اللّسانيّ..
هذه هي خلاصةُ ما نُسِبَ
إلى آية الله السّيّد بحر العلوم، رضوان الله تعالى عليه، في دائرة السّير والسّلوك،
وتَبِعه في ذلك مع اختلافٍ يسيرٍ، العلّامة الطّباطبائيّ، وذلك كما جاء في رسالته (لبّ
اللّباب).