غزّة تحت النّار
منهجيّة المجازر وعقائديّة الصّمود
_____ د. مصطفى يوسف _____
لم يغيِّر العدوّ «الإسرائيليّ» من منهجيّته
العدوانيّة منذ أن بدأت عصاباته الصّهيونيّة في ارتكاب المجازر الدّمويّة ضدّ الشّعب
الفلسطينيّ، إنّها ذات السّياسة الّتي اتّبعها منذ سبعين عاماً، وما زال إلى اليوم
يحاول تطبيقها، ويتعمّد القيام بها، دون خوفٍ من رادعٍ دوليّ، أو مساءلة قانونيّة،
أو محاسبةٍ سياسيّة، وكأنّ مناحيم بيغن وإسحاق شامير ما زالا هنا، ينفذّان ما تعهّدا
به واعتادا عليه، يوم أن كانت عصابات شتيرن والأرغون والهاغاناه ترتكب بالسّلاح
البريطانيّ وغيره مذابح ومجازر بشعة في حقّ سكّان البلدات الفلسطينيّة، وقد تعمّدوا
حينها قتل النّساء والأطفال، وجمع الرّجال في أماكن عامّة، وقتلهم بالجملة.
وهو يأمل أن يحقّق من وراء مجازره البشعة
ذات النّتائج الّتي حقّقها في سنوات التّأسيس وما قبلها، إذ كان يرتكب المجازر
المروّعة بحقّ السّكّان الأصليّين للبلاد، ليحملهم على الهجرة والنّزوح، ومغادرة
البلدات والقرى، والتّخلّي عمّا لهم فيها من حقوقٍ وممتلكات، فراراً بحياتهم،
وحرصاً على مستقبل أطفالهم، ليتسنّى لليهود بعدها أن يغتصبوا أرضهم، ويستحلّوا
بلداتهم، ويستوطنوا في بيوتهم ومنازلهم، ويستولوا على أموالهم وممتلكاتهم، وكلّ ما
كان لهم فيها من مدخّراتٍ ومقتنيات.
إخفاق العدوان
لكنّه اليوم يقف عاجزاً أمام الفلسطينيّين
المتمسّكين بأرضهم، والمتشبّثين بترابهم، والثّابتين على مواقفهم، الّذين يرفضون
كلّ دعوات المغادرة والرّحيل، وترك البيوت والتّخلّي عن القرى والبلدات والمخيّمات،
رغم محاولاته المتكرّرة لإجبارهم على المغادرة، إذ تلقي عليهم الطّائرات آلاف
المناشير، الّتي تدعوهم لترك بيوتهم والخروج منها، وإلّا فإنّهم يحذّرونهم من
عاقبةٍ وخيمةٍ، ومصيرٍ أسود إن هم أصرُّوا على البقاء، وتمسّكوا بحقّهم في الإقامة
في بيوتهم رغم القصف والتّدمير.
كما وجّه العدوّ «الإسرائيليّ» آلاف الرّسائل
النّصيّة والصّوتيّة المسجّلة، لتحذير السّكّان من خطورة البقاء، ودعاهم فيها
لضرورة الخروج حمايةً لأنفسهم وأموالهم، خاصّةً سكّان البلدات الحدوديّة على
امتداد الحدود الشّرقيّة لقطاع غزّة، وفي شماله المتاخم لبلدات بيت حانون، وبيت
لاهيا، ومخيم جباليا.
إلّا أنّ الفلسطينيّين قد وعوا الدّرس جيّداً،
واتّعظوا من التّجربة القديمة، فما عاد أحدٌ يصدّق «الإسرائيليّين» أو يؤمّن لهم،
فلا يسمع أحد نداءهم، ولا يستجيب إلى تعليماتهم، ولا يخاف من تهديداتهم، فقد
أقسموا ألّا يهاجروا من جديد، مهما كان حجم المعاناة وعدد الجرحى والشّهداء،
فتراهم يقولون بصدقٍ وإيمانٍ، إنّهم لن يتركوا بيوتهم ولو نُسِفت، وإنّهم سيبقون
يعمّرون ما دمّره العدوّ منها، ولو دمّرها ألف مرّةٍ فإنّهم سيعيدون بناءها، فهو يدمّر
ونحن نعمّر، بل إنّ بعضهم يهدّد «الإسرائيليّين» بالعودة إلى القرى والبلدات
الفلسطينيّة الّتي هُجِّرُوا منها في العام 1948، وسيبنون في أرضهم الأصليّة
بيوتهم، وسيعمّرون منازلهم، وستعود إليهم قراهم وبلداتهم الّتي دمّرها وخرّبها «الإسرائيليّون».
لا وجه للمقارنة بين المجازر الّتي ارتكبها
العدوّ الصّهيونيّ بحقّ أهلنا الفلسطينيّين في الأعوام 1948، 1956، 1967، لا لجهة
حجم الخراب والدّمار، ولا لجهة عدد الشّهداء والجرحى، ولا من ناحية الأسلحة
المستخدمة في القصف والعدوان، فقد أصاب منطقة الشّجاعيّة زلزالٌ مدمّرٌ، أتى على
بنيانها من القواعد، ودمَّر بيوتها ومدارسها ومساجدها والجوامع، وهاجم أسواقها
وتجمّعات السّكّان فيها والمدارس، ولكنّ سكّانها عند أوّلِ هدنةٍ عادوا إليها،
فتفقّدوا بيوتهم، وشاهدوا ما حلّ فيها وما نزل بها، فتعالت أصوات النّساء بالوعد،
إنّا ها هنا باقون، سنبقى في بيوتنا ولو أنّها مدمّرة، وسنعيد بناءها وإعمارها من
جديد.
إرادة الانتصار
هي الحال نفسها تتكرّر مع كلّ سكّان قطاع غزّة،
الّذين آلوا على أنفسهم أن يكونوا جزءاً من المقاومة، وسنداً لها، ودرعاً يحميها،
وحصناً يقيها، فلا يضعفوا أمامها، ولا يصرخوا لإضعافها، ولا يدفعوها للتّنازل والتّسليم،
استجابةً لهم، وحرصاً عليهم، وخوفاً على حياتهم.
فما أصاب الغزّيّين في خزاعة لهو أكبر من
التّصوّر، وأبلغ من الخيال، وأعظم ممّا كان يتوقّعه أحد، ولكنّ سكّان بلدات خان يونس
قد عادوا إليها، بينما بقي سكّان خزاعة والمناطق الحدوديّة الشّرقيّة، يقفون أمام
الدّبّابات «الإسرائيليّة»، وفي مواجهة آلة القتل الصّهيونيّة، يحاولون الدّخول
إلى بلداتهم، والعودة إلى بيوتهم، ولا يردعهم عن العودة ما يتناقله العائدون من
كثرة عدد الشّهداء، وأنّ الكثير منهم ما زال تحت الرّكام وبين الأنقاض، وأنّ العدوّ
يقتل كلّ مَن يحاول العودة إلى بيته، وفعلاً قتل بعض العائدين، وقنَص مَن نجح في
الوصول إلى بيوتهم، ولكنّ زُحوف العائدين، المتمسّكين بالبقاء في بيوتهم،
والحالمين بالعودة إلى بلداتهم، تؤكّد للعدوّ «الإسرائيليّ» أنّ ما يقوم به لتهجير
السّكّان، وتفريغ الأرض، ليست إلّا أضغاث أحلام، وأماني مهووس، وتطلّعات مجنون.
وكذا كان حال سكّان بيت حانون شمالاً، وإلى
جوارها بيت لاهيا وجباليا، ورفح التي اجتاحها العدوّ جنوباً، فقد هال السّكّان ما
رأوا وشاهدوا، إذ ضلّوا الطّريق وتاهوا عن بيوتهم، فقد تغيّرت المعالم وتبدّلت
الملامح، واستوت البيوت بالأرض، واحترق الشّجر وغاب الزّرع، وقتلت البهائم والدّوابّ،
فلم يعد أحدٌ يعرف بيته، وإن كان يعرف بعض حدوده، إلّا أنّهم وعلى الرّغم من هول
ما لاقوا، وفظاعة ما خلّفه العدوّ وراءه، إلّا أنهم، نساؤهم قبل رجالهم، يعلنون
بصوتٍ عالٍ صاعقٍ واضح، أنّنا سنبقى في أرضنا، ولن نكرّر مأساتنا، ولن نبرح
مناطقنا، ولن نفرِّح عدوّنا، ولن نحقّق له ما تصبو إليه نفسه، وما تتطلّع إليه
قيادته.
الأرض في عُرفنا باتت عقيدة، لا نفرّط فيها
ولا نتخلّى عنها، وسلاحنا بين أيدينا يحميها ويحفظها، ورجالنا يذودون عنها
بالأرواح والمُهَج، ويضحُّون في سبيل البقاء فيها بما يملكون، فلا يحلم العدوّ أنّ
مجازره ستُجبرنا على الرّحيل، أو أنّ مذابحَه ستدفعنا للبكاء والعويل، فما كان
قديماً لن يتكرّر، وما سيرونه منّا سيكون جديداً وذا عجب، وليعلموا أنّنا هنا، ههنا
باقون، وعلى أرضنا ثابتون، كبقاء الزّيت والزّيتون، والتّين والزّعتر واللّيمون.