الموقع ما يزال قيد التجربة
يوم الغدير
عيدُ الله الأكبر
|
|
استهلال: من أدعية يوم الغدير |
رواية الشّيخ المفيد قدّس سرُّه |
واقعة الغدير |
الشّيخ محمّد باقر الأنصاري |
مفاد حديث «الغدير» |
الشّيخ عبد الحسين الأميني رحمه الله |
المعاني المحتملة في لفظة «مولى» |
أبو الفتح الكراجكي رحمه الله |
آيات يوم الغدير |
السّيّد علي الحسيني الميلاني |
يومُ التّبسّم، والصّفح عن المذنبين |
تنسيق «شعائر» |
استهلال
من أدعية يوم الغدير
الحَمْدُ للهِ الَّذِي بَصَّرَنا حُرْمَةَ هَذا اليَوم
«..أللّهُمَّ فَكَما جَعَلْتَهُ عِيدَكَ الأكْبَرَ، وَسَمَّيْتَهُ فِي السَّماء يَوْمَ العَهْدِ المَعْهُودِ وَفِي الأَرْضِ يَوْمَ المِيثاقِ المَأخُوذِ وَالجَمْعِ المَسْؤُولِ، صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأقْررْ بِهِ عُيُونَنا، وَاجْمَعْ بِهِ شَمْلَنا، وَلا تُضِلَّنا بَعْدَ إذْ هَدَيْتَنا، وَاجْعَلْنا لأنْعُمِكَ مِنَ الشَّاكِرينَ يا أرْحَمْ الرَّاحِمِينَ.
الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَرَّفَنا فَضْلَ هذا اليَوْمِ وَبَصَّرَنا حُرْمَتَهُ، وَكَرَّمَنا بِهِ وَشَرَّفَنا بِمَعْرِفَتِهِ وَهَدانا بِنُورِهِ.
يا رَسُولَ اللهِ، يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ
عَلَيْكُما وَعَلى عِتْرَتِكُما وَعَلى مُحِبِّيكُما مِنِّي أَفْضَلُ السَّلامِ ما بَقِيَ الليْلُ وَالنَّهارُ، وَبِكُما أتَوَجَّه إِلى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُما فِي نَجاحِ طَلِبَتِي وَقَضاء حَوائِجِي وَتَيْسِيرِ أُمُورِي، أللّهُمَّ إِنِّي أَسأَلُكَ بِحَقِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ أَنْ تُصَلِّيَ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَنْ تَلْعَنَ مَنْ جَحَدَ حَقَّ هذا اليَوْمِ وَأَنْكَرَ حُرْمَتَهُ فَصَدَّ عَنْ سَبِيلِكَ لإطْفاءِ نُورِكَ، فَأَبى اللهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ..».
(الشيخ المفيد، المقنعة: ص 206 – 207)
واقعةُ الغدير
«... ما أبرحُ من هذا المكان حتّى أُبلِّغَ رسالة ربّي»
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشّيخ محمّد باقر الأنصاري* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في السّنة العاشرة للهجرة أعلن النّبيّ الأكرم، صلّى الله عليه وآله، بشكلٍ رسميٍّ لأوّل مرّة النّفير العامّ للحجّ، وأن يحضر جميعُ النّاس في تلك المراسم مهما استطاعوا، وسُمِّي هذا السّفر باسم «حجّة الوداع». وقد تمحوَرت الأهداف في هذه الحجّة المُباركة حول رُكنَين أساسيّين: أحدهمـا الحجّ، والآخر الخلافـة والولاية على الأُمّة من بعده صلّى الله عليه وآله.
النّصّ الآتي يروي وقائع حادثة الغدير بشيءٍ من التّفصيل، اخترناه من بحثٍ روائيّ للسّيّدة ندى الطّويل حول عيد الغدير.
«شعائر»
بَعث النّبيّ صلّى الله عليه وآله رسلَه ومبعوثيه إلى محلّات المدينة وما حولها، وإلى قبائل العرب يُخبرهم بعزمه على السّفر للحجّ، ويأمرهم أن يوافوه إلى مكّة للحجّ معه.
وقد استجاب جمعٌ غفير من المسلمين، وجاؤوا من كلّ المناطق زرافاتٍ ووحداناً؛ منهم إلى المدينة ومنهم إلى مكّة رأساً، لوداع نبيّهم والمشاركة في أداء فريضة الحجّ المقدّسة.
انطلاق موكب حجّة الوداع
تحرَّك الموكب النّبويّ من المدينة يوم السّبت الخامس والعشرين من ذي القعـدة مُتَّجهاً إلى مكّـة. وكان عدد الحجّاج يزداد في الطّريق بين المدينة ومكّة بانضمام وفود القبائل من المناطق القريبة والنّائية من الجزيرة واليمن، ليروا النّبيَّ، صلّى الله عليه وآله، ويحجّوا معه ويودِّعوه قبل رحيله إلى ربِّه.
لقد أعلن النّبيّ صلّى الله عليه وآله مرّات عديدة أنّ هذا العام هو العام الأخير من عمره الشّريف، وهذا بحدّ ذاته يثير الرّغبـة لدى المسلمين للاشتـراك في هذه الرّحلة التّاريخيّة. وقد كان عدد المشاركين في موسم الحجّ في هذه الواقعة ما يقرب من مائة وعشرين ألف حاجّ، وقد حضر من المدينة وما حولها سبعون ألف حاجّ تشرّفوا بصحبة النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، ومشوا في قافلته مُتَّجهيـن إلى مكّة، هاتفين طول الطّريـق بالتّلبية والتّكبيـر.
إحرام الوداع
وقد تحرَّك الموكب النّبويّ من المدينة نحو مسجد الشّجرة ليبدأوا إحرامهم هناك.. وكان أهل بيت النّبوّة جميعاً بصحبة النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، في حجّ هذا العام.
وكان برفقته أهل بيته الأبرار، أصحاب الكساء الأطهار، فاطمة الزّهراء والحسن والحسين وسائر الذّرّيّة الطّاهرة عليهم السّلام، وكذلك نساء النّبيّ ركبنَ المحامل تحملُها الإبل في تلك القافلة الجماهيريّة.
ولم يطل نزولُهم في «مسجد الشّجرة»، حتّى أحرموا للحجّ من هناك وأعلنوا تلبية نداء ربّهم. ثمّ واصلت المسيرةُ انطلاقتَها باتّجاه مكّة في موكبٍ مهيب في مسيرة عشرة أيّام، في قافلة عظيمة تشمل الرّكبان والمشاة.
ساروا طوال اللّيل مُلبِّين ذاكرين الله تعالى إلى فجر يوم الأحد، حيث توقّفوا في الطّريق ومكثوا إلى المساء. وبعد أداء صلاة المغرب والعشاء واصلوا مسيرتهم حتّى وصلوا صباح اليوم التالي إلى «عرق الظّبية». ثمّ واصلوا السّير حتّى توقّفوا فترة قليلة في «الرّوحاء»، وتحرّكوا منها إلى «المنصرف» حيث نزلوا فيها لأداء صلاة العصر. ثمّ نزلوا في «المُتعشّى» فأدَّوا صلاة المغرب وتناولوا طعام العشاء هناك. ثمّ واصلوا السّير إلى «الأثاية» فأدَّوا صلاة الصّبح. وفي صباح يوم الثّلاثاء وصلوا إلى منطقة «العرج»، وفي يوم الأربعاء وصلوا إلى «السّقيا».
وفي يوم الخميس وصلت القافلة النّبويّة إلى «الأبواء»، وهو المكان الّذي توفيت فيه «السّيّدة آمنة» أمّ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، فقام بزيارة مرقدها الطّاهر.
وفي يوم الجمعة واصلوا سيرهم فمرّوا على منطقة «غدير خمّ» و«الجُحفة». بعدها ساروا إلى منطقة «القُديد»، فنزلوا هناك واستراحوا إلى يوم السّبت. ثمّ رحلوا منها ووصلوا إلى «عُسفان» يوم الأحد، ثمّ يوم الاثنين إلى «مرّ الظّهـران» وبقوا هناك إلى اللّيـل.
وتوجَّهوا ليلاً فوصلوا إلى «سَرِف» آخر منزل قرب مكّة المكرّمة. ثمّ ساروا حتّى دخلوا مكّة يوم الثّلاثاء الخامس من ذي الحجّة. فقطعوا تلك المسافة في عشرة أيّام، وأناخ أوّل موكب مهيب للحجّ بمكّة، تحفُّ به آياتُ الجلال والعظَمة، بما لم يسبق له مثيل، وبما يقصرُ الوصفُ عن بيانه.
وفي مكّة خطبَ النّبيّ صلّى الله عليه وآله خطبتَه الأولى من الخُطب النّبويّة السّتّ في حجّة الوداع.
أداء المناسك
في اليوم الثّامن من ذي الحجّة بدأ النّبيّ صلّى الله عليه وآله بمناسك الحجّ، فأحرم وتوجَّه إلى عرفات، وبات في طريقه إليها في مِنى.
وفي اليوم التّاسع خطب في عرفات خطبته الثّانية، وأكَّد على الأمّة التّمسّـك بالثّقليْـن: القرآن والعترة، وبشَّرهم بالأئمّة الاثنَي عشر من عترته. وبعد غروب عرفة توجَّه إلى المشعر، فصلّى وبات ليلته.
وفي اليوم العاشر توجَّه إلى منى لأداء مناسك يوم الأضحى من تقديم الأضحية ورَمْي الجمرات. ثمّ واصل إلى مكّة للطّواف والسّعي بين الصّفا والمروة.
وفي جميع هذه المراحل كان، صلّى الله عليه وآله، يُبيِّن للمسلمين مناسك الحجّ من واجبات ومستحبّات، حتّى تمَّت أعمال الحجّ في اليوم الثّاني عشر من ذي الحجّة.
الولاية، السّرّ المستودع في حجّة الوداع
كان جبرئيل، عليه السّلام، في حجّة الوداع وظروفها المصيريّة ينزل على النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، بأوامر ربِّه، وقد يكون رافقه طوال موسم الحجّ، وأملى عليه عبارات خطبه.
وكان ممّا قال له في المدينة: «يا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِؤُكَ السَّلامَ، وَيَقولُ لَكَ: إِنَّهُ قَدْ دَنا أَجَلُكَ، وَإِنّي مُسْتَقْدِمُكَ عَلَيَّ؛ وَيَأْمُرُكَ أَنْ تَدُلَّ أُمَّتَكَ عَلى حَجِّهِمْ، كَما دَلَلْتَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ وَزَكاتِهِمْ وَصِيامِهِمْ؛ وَتَدُلَّهُمْ عَلَى إِمامِهِمْ بَعْدَكَ، وَتَنْصِبَ لَهُمْ عَلِيّاً وَصِيّاً وَخَليفَةً بَعْدَكَ».
وفي عيد الأضحى، اليوم العاشر من ذي الحجّة، خطب النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، خطبته الثّالثة في مِنى، فبيَّن فيها مقام أهل بيته من بعده، وأنّ الله حرَّم عليهم الصّدقات وفرضَ لهم الخُمس.
وفي اليوم الحادي عشر خطب خطبةً أخرى أيضاً في مِنى، وأوصى فيها الأُمّة أيضاً بإطاعة أهل بيته من بعده.
وفي اليوم الثّاني عشر خطب النّبيّ صلّى الله عليه وآله الخطبة العظيمة في مسجد الخَيف، وقد فصَّل فيها مقامَ أهلِ بيته، وفريضة التّمسّك بهم وطاعتهم.
وهذه الخُطب الخمسُ كلُّها شواهدُ نبويّة على وصيّته لعليٍّ عليه السّلام.
التّمهيد للبلاغ المُبين
وفي آخر أيّام الحجّ، نزل جبرئيل على النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنْ «.. قَدِّمْ وَصيّتَك وَاعمَد إلى ما عندَك من العلم وميراثِ علومِ الأنبياء من قبلِك، والسّلاحِ والتّابوتِ وجميعِ ما عندَك من آياتِ الأنبياء، فَسَلِّمها إلى وصيِّك وخليفتِك من بعدِك، حجّتي البالغة على خَلقي عليِّ بن أبي طالب، فَأَقِمْه للنّاسِ عَلَماً، وجَدِّد عهدَه وميثاقَه وبيعتَه..».
وقد كان من المتوقّع للنّبيّ صلّى الله عليه وآله في سفره الوحيد للحجّ أن يبقى مدّةً في مكّة، ولكنّه بعد الانتهاء من مناسك الحجّ مباشرةً أمر بلالاً أن ينادي بالنّاس: «لا يَبْقَى غَداً أَحَدٌ إِلّا عَليلٌ، إِلّا خَرَجَ..». وهكذا فقد أخبرهم صلّى الله عليه وآله عن مراسـم خاصّة اقتضـت الحكمة أن يكـونَ إجراؤها في غدير خمّ، وانضـمّ إلى القافلة الرّاجعـة من الحجّ كثيرٌ ممّن لم تكن بلدانُهم على ذلك المسير.
الوحي يوقفُ القافلة النّبويّة عند الغدير
تحرَّكت القافلة العظيمة يوم الخميس الخامس عشر من ذي الحجّة، فبَعد الخروج من مكّة وصلوا إلى «سَرِف»، ومن هناك إلى «مرّ الظّهران»، ثمّ إلى «عسفان»، ومنها إلى «قُدَيْد»، حيث وصلوا «كُراعَ الغَميم» على مقربة من الجُحفة، الّذي يقع «غدير خمّ» في أحدِ جوانبِها.
وقبيل الظّهر من يوم الاثنين، في الثّامن عشر من ذي الحجّة، ولدى وصولهم إلى منطقة «غدير خمّ»، جاءه جبرئيل لخمس ساعاتٍ مضتْ من النّهار، وقال له: «يا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِؤُكَ السَّلامَ وَيَقولُ لَكَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ المائدة:67».
وكأنّ الوحي قد جمّدَ الزّمن، فوقفَ النّبيّ صلّى الله عليه وآله في مكانه وأصدر أمره إلى المسلمين بالتّوقّف، وغيَّر مسيره إلى جهة اليمين وتوجَّه نحو الغدير، وقال: «أيُّها النّاسُ، أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ، أَنا رَسولُ اللهِ». ثمّ قال: «أَنيخوا ناقَتي، فَوَاللهِ ما أَبْرَحُ مِنْ هَذا المَكانِ حَتّى أُبَلِّغَ رِسالَةَ رَبِّي»، وأمرهم أن يردُّوا مَن تقدَّم من المسلمين، ويوقفوا من تأخَّر منهم حين يصلون إليه.
وبعد أن صدر الأمرُ النّبويّ المذكور توقَّفت القافلةُ كلّها، ورجعَ منهم مَن تقدّم، ونزل النّاس في منطقة الغدير، وأخذ كلُّ فردٍ يتدبَّر أمر إقامتَه هناك حيث نصبوا خيامَهم، وسكن الضّجيج تدريجيّاً.
وشهدت الصّحراء لأوّل مرّة ذلك الاجتماع العظيم من النّاس، وقد زاد من عظَمته حضور الأنوار الخمسة المقدّسة: النّبيّ الأكرم وأمير المؤمنين وفاطمة الزّهراء والحسن والحسين عليهم السّلام؛ وقد اشترك في ذلك التّجمّع الجماهيريّ الرّجالُ والنّساء من مختلف الأقوام والقبائل والمناطق، وبدرجات متفاوتة من الإيمان، انتظاراً لخطبة النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله.
وكانت حرارة الصّحراء ووهج الشّمس من القوّة والشّدّة بحيث أنّ النّاس - ومنهم النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله - وضعوا قسماً من ردائهم على رؤوسهم والقسم الآخر تحت أقدامهم، وقد بلغ الأمر لدى البعض أن لفُّوا عباءتهم حول أقدامهم من شدّة حرارة أرض الصّحراء!
الإعداد لمنبر «الغدير»
دعا رسولُ الله صلّى الله عليه وآله أربعةً من خواصّ أصحابه، وهم: المقداد وسلمان وأبو ذرّ وعمّار، وأمرهم أن يُهيِّئوا المنبرَ تحت الأشجار القائمة على امتدادٍ واحد. فقاموا بكَسح الأشواك تحت تلك الأشجار، ورفْع الأحجار، وقطْع الأغصان المُتدلِّية إلى الأرض، ونظَّفوا المكان ورشُّوه بالماء، ومدُّوا ثياباً بين شجرتَيْن لتكميل الظّلال، فصار المكان مناسباً.
ثمّ بنوا المنبر في وسط الظّلال، فجعلوا قاعدته من الأحجار ووضعوا عليها بعض أقتاب الإبل، حتّى صار بارتفاع قامة ليكونَ مُشْرفاً على الجميع، يَرون النّبيّ صلّى الله عليه وآله ويسمعون صوته، وفرشوا عليه بعضَ الثّياب.
ونظراً إلى كثرة النّاس فقد اختاروا «ربيعة الجمحيّ» الّذي كان جَهْوَريّ الصّوت لإيصـال كلام النّبـيّ صلّى الله عليه وآله جملةً جملةً إلى مَن لا يصلُ إليه من جمهور المسلمين.
النّبيّ صلّى الله عليه وآله، وأمير المؤمنين عليه السّلام على المنبر
حان الوقت الموعود، ونادى منادي الرّسول صلّى الله عليه وآله، فخرج المسلمون من الخيام واصطفّوا للصّلاة، وخرج النّبيّ صلّى الله عليه وآله من خيمته، وصلّى بهم صلاة الظّهر.
ورقى النّبيُّ صلّى الله عليه وآله المنبر ووقف على مِرقاته الأخيرة، ثمّ دعا بأمير المؤمنين عليه السّلام وأمَرَه أن يصعدَ المنبر ويقفَ إلى يمينه. فجاء أميرُ المؤمنين عليه السّلام ووقف على المنبر أدنى من موقف النّبيّ صلّى الله عليه وآله بمِرقاة، بحيث وضع النّبيُّ صلّى الله عليه وآله يده على كَتِفه.
ثمّ ألقى النّبيّ صلّى الله عليه وآله ببَصره الشّريف يميناً وشمالاً، يتفحّصُ ذلك الحشدَ الكبير من النّاس، وانتظر هنيئةً كيما يُصغي النّاسُ بأَسْرهم. وكانت النّساءُ في جانبٍ من ذلك المكان يَسمعن النّبيّ صلّى الله عليه وآله ويُشاهِدنَه.
خطبة الوداع، وإعلان الولاية
وشرع النّبيّ صلّى الله عليه وآله في خطبته التّاريخيّة، آخر خطبة رسميّة له إلى العالم أجمع، الّتي لم يذكر التّاريخ خطبةً لنبيٍّ من الأنبياء عبر التّاريخ مثلها، في مثل هذا الحشد المهيب.
وبدأ النّبيّ صلّى الله عليه وآله باسم الله تعالى، وحَمْدِ الله تعالى والثّناء عليه... وأَشْهَدَ اللهَ والنّاسَ على عبوديّته المطلقة لربِّه العظيم.
ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، لا يُؤْمَنُ مَكْرُهُ وَلا يُخافُ جَوْرُهُ. أُقِرُّ لَهُ عَلى نَفْسي بِالعُبودِيَّةِ وَأَشْهَدُ لَهُ بِالرُّبوبِيَّةِ، وَأُؤَدّي ما أَوْحى إِلَيَّ، حَذَراً مِنْ أَنْ لا أَفْعَلَ فَتَحُلَّ بي مِنْهُ قارِعَةٌ لا يَدْفَعُها عَنّي أَحَدٌ، وَإِنْ عَظُمَتْ حيلَتُهُ. أيُّها النّاسُ، إِنّي أُوشِكَ أَنْ أُدْعى فَأُجيبَ، فَما أَنْتُمْ قائِلونَ؟
فقالوا: نشهد أنّك قد بلّغتَ ونصحتَ.
فقال صلّى الله عليه وآله: أَلَيْسَ تَشْهَدونَ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسولُ اللهِ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَأَنَّ النّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ البَعْثَ حَقٌّ؟
قالوا: يا رسول الله، بلى.
فَأَومأَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إلى صدِره وقال: وَأَنا مَعَكُمْ.
ثمّ قال صلّى الله عليه وآله: أَنا لَكُمْ فَرَطٌ [أي سابق]، وَأَنْتُمْ وارِدونَ عَلَيَّ الحَوْضَ، (عرضُهُ) ما بَيْنَ صَنْعَاءَ إِلى بُصْرى، فيهِ عَدَدُ الكَواكِبِ قُدْحانَ، ماؤُهُ أَشَدُّ بَياضاً مِنَ الفِضَّةِ... فَانْظُروا كَيْفَ تَخْلُفوني في الثَّقَلَيْنِ.
فقام رجلٌ فقال: يا رسولَ الله، وَما الثَّقَلانِ؟
قال صلّى الله عليه وآله: الأَكْبَرُ مِنهُما كِتابُ اللهِ، طَرَفُهُ بِيَدِ اللهِ وَسَبَبُ طَرَفِهِ بِأَيْديكُمْ، فَاسْتَمْسِكوا بِهِ وَلا تَزِلُّوا وَلا تَضِلُّوا. وَالأَصْغَرُ عِتْرتي أَهْلُ بَيْتِي. أُذَكِّرُكُمَ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمَ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي، أُذَكِّرُكُمَ اللهَ في أَهْلِ بَيْتي. وَإِنَّهُما لَنْ يَفْتَرِقا حَتّى يَرِدا عَلَيَّ الحَوْضَ. سَأَلْتُ رَبِّي ذَلِكَ لَهُما، فَلا تَقَدَّموهُمْ [أي فلا تتقدّموا عليهم] فَتَهْلَكوا، وَلا تَتَخَلَّفوا عَنْهُم فَتَضِلّوا، وَلا تُعَلِّموهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. أَيُّها النّاسُ، أَلَسْتُمْ تَعْلَمونَ أَنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ مَوْلاي، وَأَنا مَوْلَى المَؤْمِنينَ، وَأَنّي أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال صلّى الله عليه وآله: قُمْ يا عَلِيُّ. فقامَ عليٌّ عليه السّلام، وأقامَه النّبيُّ صلّى الله عليه وآله عن يمينِه وأخذَ بيدِه ورفعَها حتّى بانَ بياضُ إبطَيهما، وقال:
مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، أللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، وَأَدِرِ الحَقَّ مَعَهُ حَيْثُ دارَ. فَاعْلَمُوا، مَعاشِرَ النّاسِ، أَنَّ اللهَ قَدْ نَصَبَهُ لَكُمْ وَلِيّاً وَإِماماً مُفْتَرِضاً طاعَتَهُ عَلى المُهاجِرينَ وَالأَنْصارِ، وَعَلى التّابِعينَ لَهُمْ بِإِحْسانٍ، وَعَلى البادي وَالحاضِرِ، وَعَلى الأَعْجَمِيِّ وَالعَرَبِيِّ، وَالحُرِّ وَالمَمْلوكِ، وَالصَّغيرِ وَالكَبيرِ.
فقام أحدُهم فسأله وقال: يا رسولَ الله، ولاؤه كَماذا؟
فقال صلّى الله عليه وآله: وَلاؤُهُ كَوَلائِي، مَنْ كُنْتُ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيٌّ أَوْلى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ!
وأفاضَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله في بيان مكانةِ عليٍّ عليه السّلام، والعترة الطّاهرة، والأئمّة الاثنَي عشر من بعده: عليّ والحسن والحسين وتسعة من ذرّيّة الحسين عليهم السّلام، واحداً بعد واحد، الّذين هم مع القرآن والقرآنُ معَهم، لا يفارقونه ولا يفارقهم، حتّى يَرِدوا عليه الحوضَ يوم القيامة.
ثمّ أشهدَ المسلمين مرّاتٍ أنّه قد بلّغ عن ربِّه... فشهدوا له. وأمرَهم أن يبلِّغ الشّاهدُ الغائبَ... فوعدوه وقالوا: نعم. وقام إليه آخرون فسألوه... فأجابهم...
وما أن أتمّ خطبته حتّى نزل جبرئيلُ بقوله تعالى: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..﴾ المائدة:3، فكبَّر رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وقال: «اللهُ أَكْبَرُ عَلى إِكْمالِ الدّينِ، وَإِتْمامِ النِّعْمَةِ، وَرِضى الرَّبِّ بِرِسالَتي، وَوِلايَةِ عَلِيٍّ بَعْدِي».
وبعد فراغ النّبيّ صلّى الله عليه وآله من خطبته ضجّ النّاسُ قائلين: «نعم، سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا لِأَمْرِ اللهِ وَرسولِه بقلوبِنا وأنفُسِنا وَأَلسِنَتِنا وأيدينا».
ثمّ إنّهم ازدحموا على النّبيّ وأمير المؤمنين عليهما السّلام، وتَسابقوا لإعطاء البيعةِ لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام، وهنا قال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: «الحَمْدُ للهِ الّذي فَضَّلَنا عَلَى جَميعِ العَالَمِينَ».
وقد قال كلٌّ من الشّيخين لأمير المؤمنين عليه السّلام في ذلك اليوم بعد بيعتِهما له: «بَخٍ بَخٍ لكَ يا عليّ! هنيئاً لكَ يا أبا الحسن! فقد أصبحتَ مولايَ ومولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة».
وأمرَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله مناديه أن يمشي بين النّاس ويُكرِّر عليهم جوهرَ بيعةِ الغدير بهذه العبارة : «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، أللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ».
واستمرّت المراسم ثلاثةَ أيّامٍ حتّى شارك جميعُ المسلمين في البيعة. ومن جملة الأشخاص الذين بايعوا أمير المؤمنين عليه السّلام في يوم الغدير، أولئك الذين سارعوا إلى نقضِ بيعتِه بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله، وانقلبوا على أعقابهم كما أخبر اللهُ تعالى.
وقد أمر النّبيّ صلّى الله عليه وآله النّساء أيضاً بالبيعة لعَليٍّ عليه السّلام بإمرة المؤمنين وتَهنئتِه، وقد أكَّد ذلك بصورة خاصّة على زوجاته وأَمَرَهُنّ أن يذهبنَ إلى خيمتِه ويُبايِعنَه.. ففعلنَ ذلك.
* النّص مختصر عن كتابه (بيعة الغدير)
شهادةُ الأجيال، وأئمّة العلم واللّغة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ العلّامة الشّيخ عبد الحسين الأميني رحمه الله ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن الزّمخشريّ في (ربيع الأبرار)، أنّ معاوية سأل الدّارميّة الحجونيّة، وهي امرأةٌ من كنانة، عن سبب حبّها لأمير المؤمنين، عليه السّلام، وبُغضها له، فاحتجّت عليه بأشياء، منها: أنّ رسول الله عقد له الولاية بمشهدٍ منه يوم غدير خمّ، وعلّلت بغضَها لمعاوية بأنّه قاتَلَ مَن هو أولى بالأمر منه، وطلبَ ما ليس له، ولم يُنكِر عليها معاوية احتجاجَها بنصّ الغدير.
ما يلي، نصّ مقتطف بتصرّف من موسوعة (الغدير) للعلّامة الأمينيّ حول دلالة لفظة «المولى» الواردة في حديث الغدير.
مهما شكَكنا في شيءٍ فلا نشكّ في أنّ لفظة «المولى» سواء كانت نصّاً في المعنى الّذي نحاوله بالوضع اللّغويّ، أو مجملةً في مفادها لاشتراكها بين معانٍ جمّة، وسواء كانت عريّةً خاليةً عن القرائن لإثبات ما ندّعيه من معنى الإمامة أو محتفّةً بها، فإنّها في المقام لا تدلّ إلّا على ذلك، لِفَهم مَن وعاه من الحضور في ذلك المحتَشَد العظيم، ومَن بلغه النّبأُ بعد حينٍ ممّن يُحتجّ بقوله في اللّغة من غير نكيرٍ بينهم، وتتابَعَ هذا الفهم فيمَن بعدهم من الشّعراء ورجالات الأدب حتّى عصرنا الحاضر، وذلك حجّة قاطعة في المعنى المراد. وفي الطّليعة من هؤلاء:
* مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام، حيث كتب إلى معاوية في جواب كتاب له من أبياتٍ ما نصّه:
وَأَوْجَبَ لي وِلايَتَهُ عَلَيْكُمْ |
رَسولُ اللهِ يَوْمَ غَديرِ خُمِّ |
* ومنهم: حسّان بن ثابت الحاضرُ مشهدَ الغدير، وقد استأذن رسولَ الله، صلّى الله عليه وآله، أن ينظم الحديث في أبيات، منها قوله:
فَقالَ لَهُ: قُمْ يا عَلِيُّ! فَإِنَّني |
رَضِيتُكَ مِنْ بَعْدي إِماماً وَهَادِيا |
* ومن أولئك: الصّحابيّ العظيم قيس بن سعد بن عبادة الأنصاريّ، الّذي يقول:
وَعَلِيٌّ إِمامُنا وَإِمامٌ |
لِسِوانا، أَتى بِهِ التَّنْزيلُ |
يَوْمَ قالَ النَّبِيُّ: مَنْ كُنْتُ مَوْلا |
هُ، فَهَذا مَوْلاهُ، خَطْبٌ جَليلُ |
* ومن القوم: محمّد بن عبد الله الحِميَريّ القائل:
تَناسَوْا نَصْبَهُ في يَوْمِ خُمٍّ |
مِنَ الباري وَمِنْ خَيْرِ الأَنامِ |
* ومنهم: عمرو بن العاصي (العاص) الصّحابيّ القائل [قبل أن يصيرَ إلى معاوية]:
وَكَمْ قَدْ سَمِعْنا مِنَ المُصْطَفى |
وَصايا مُخَصَّصَةً في عَلِي |
وَفي يَوْمِ خُمٍّ رَقَى مِنْبَراً |
وَبَلَّغَ وَالصَّحْبُ لَمْ تَرْحَلِ |
فَأَمْنَحهُ إِمْرَةَ المُؤْمِنينَ |
مِنَ اللهِ مُسْتَخْلَفُ المنحلِ |
وَفي كَفِّهِ كَفُّهُ مُعْلِناً |
يُنادِي بِأَمْرِ العَزِيزِ العَلِي |
وَقالَ: فَمَنْ كُنْتُ مَوْلًى لَهُ |
عَلِيٌّ لَهُ اليَوْمَ نِعْمَ الوَلِي |
* ومن أولئك: كُمَيت بن زيد الأسديّ الشّهيد سنة 126، حيث يقول:
وَيَوْمَ الدَّوْحِ دَوْحِ غَدِيرِ خُمٍّ |
أَبَانَ لَهُ الوِلايَةَ لَوْ أُطِيعَا |
ولَكِنَّ الرِّجَالَ تَبَايَعُوهَا |
فَلَمْ أَرَ مِثْلَها خَطَراً مَبِيعا |
* ومنهم: السّيّد إسماعيل الحِميَريّ المتوفّى سنة 179 في شعره الكثير، ومنه:
لِذَلِكَ ما [لمّا] اخْتارَهُ رَبُّه |
لِخَيْرِ الأَنَامِ وَصِيّاً ظَهِيرا |
فَقَامَ بِخُمٍّ بِحَيْثُ الغَديرُ |
وَحَطَّ الرِّحالَ وَعَافَ المَسِيرا |
وَقُمَّ* لَهُ الدَّوْحُ ثُمَّ ارْتَقَى |
عَلى مِنْبَرٍ كانَ رَحْلاً وَكُورا |
وَنَادى ضُحًى بِاجْتِماعِ الحَجِيجِ |
فَجَاؤوا إلَيْهِ صَغيراً كَبِيرا |
فَقالَ وَفي كَفِّهِ حَيْدَرٌ |
يَليحُ إِلَيْهِ مُبيناً مُشيرا: |
أَلا إِنَّ مَنْ أنَا مَوْلًى لَهُ |
فَمَوْلاهُ هَذا قَضَاً لَنْ يَجُورا |
فَهَلْ أنا بَلَّغْتُ؟ قالوا: نَعَمْ |
فَقَالَ: اشْهَدوا غُيَّباً أوْ حُضُورا |
يُبَلِّغُ حَاضِرُكُمْ غائِباً |
وَأُشْهِدُ رَبِّي السَّميعَ البَصيرا |
فَقُومُوا بِأَمْرِ مَلِيكِ السَّما |
يُبَايِعْهُ كُلٌّ عَليْهِ أَمِيرا |
فَقَامُوا لِبَيْعَتِهِ صَافِقِينَ |
أَكُفّاً فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ نَكِيرا |
فَقالَ: إِلَهي! والِ الوَلِيَّ |
وَعادِ العَدُوَّ لَهُ وَالكَفُورا |
وَكُنْ خَاذِلاً للأُولى يَخْذُلونَ |
وَكُنْ للأُولى يَنْصُرونَ نَصيرا |
فَكَيْفَ تَرى دَعْوَةَ المُصْطفى |
مُجاباً بِها أَمْ هَباءً نَثيرا؟ |
أُحِبُّكَ يا ثاني المُصْطَفى |
وَمَنْ أُشْهِدَ النّاسُ فيهِ الغَديرا |
* [قمّ الشّيء قمّاً: كَنَسَه]
* ومنهم: العبديّ الكوفيّ من شعراء القرن الثّاني في بائيّته الكبيرة بقوله:
وَكانَ عَنْها لَهُمْ في «خُمّ» مُزْدَجَرٌ |
لَمّا رَقَى أَحْمَدُ الهادي عَلى قَتَبِ |
وَقالَ وَالنّاسُ مِن دانٍ إِلَيْهِ وَمِنْ |
ثاوٍ لَدَيْهِ وَمِنْ مُصْغٍ وَمُرْتَقِبِ: |
قُمْ يا عَلِيُّ! فَإِنّي قَدْ أُمِرْتُ بِأَنْ |
أُبَلِّغَ النّاسَ وَالتَّبْليغُ أَجْدَرُ بي |
إِنّي نَصَبْتُ عَلِيّاً هادِياً عَلَماً |
بَعْدي وَإِنَّ عَلِيّاً خَيْرُ مُنْتَصَبِ |
فَبايَعوكَ وَكُلٌّ باسِطٌ يَدَهُ |
إِلَيْكَ مِنْ فَوْقِ قَلْبٍ عَنْكَ مُنْقَلِبِ |
* ومنهم شيخ العربيّة والأدب أبو تمّام المتوفّى سنة 231 هجريّة في رائيّته بقوله:
وَيَوْمَ «الغَديرِ» اسْتَوْضَحَ الحَقُّ أَهْلَهُ |
بِضَحْياءَ لا فيها حِجابٌ وَلا سِتْرُ |
أَقام رَسولُ اللهِ يَدْعوهُمْ بِها |
ليَقْرَبَهُمْ عُرْفٌ وَيَنآهُمْ نُكْرُ |
يَمُدُّ بِضَبْعَيْهِ وَيُعْلِمُ: أَنَّهُ |
وَلِيٌّ وَمَوْلاكُمْ، فَهَلْ لَكُمْ خُبْرُ؟ |
يَروحُ وَيَغْدو بِالبَيانِ لِمَعْشَرٍ |
يَرُوحُ بِهِمْ غَمْرٌ وَيَغْدو بِهِمْ غَمْرُ* |
فكانَ لَهُم جَهْرٌ بِإِثْباتِ حَقِّهِ |
وَكانَ لَهُمْ في بَزِّهِمْ حَقَّهُ جَهْرُ |
* [في بعض المصادر: يَروحُ بِهِمْ بَكْرٌ وَيَغْدو بِهِمْ عَمْرُو]
وتبع هؤلاء جماعةٌ من بواقع أئمّة العلم والعربيّة الّذين لا يعْدُون مواقع اللّغة، ولا يجهلون وضع الألفاظ، ولا يتحرَّون إلّا الصّحّةَ في تراكيبهم وشعرهم، كَدعبل الخزاعيّ، والحمانيّ الكوفيّ، والأمير أبي فراس، وعَلَم الهدى المرتضى، والسّيّد الشّريف الرّضيّ، والحسين بن الحجّاج، وابن الرّوميّ، وكُشَاجِم، والصّنوبريّ، والمفجع، والصّاحب بن عبّاد، والنّاشىء الصّغير، والتّنّوخيّ، والزّاهي، وأبي العلا السّرويّ، والجوهريّ، وابن علويّة، وابن حمّاد، وابن طباطبا، وأبي الفرج، والمهيار، والصّولي النّيليّ، والفَنجكرديّ، إلى غيرهم من أساطين الأدب وأعلام اللّغة، ولم يزل أثرهم مقتصّاً في القرون المتتابعة إلى يومنا هذا، وليس في وسع الباحث أن يحكم بخطأ هؤلاء جميعاً وهم مصادره في اللّغة ومراجع الأمّة في الأدب.
وهنالك زرافاتٌ من النّاس - في كلّ جيل - فهموا من اللّفظ هذا المعنى وإن لم يُعربوا عنه بقريض، لكنّهم أبدوه في صريح كلماتهم، أو أنّه ظهر من لوائح خطابهم، ومن أولئك الشّيخان وقد أتيا أمير المؤمنين عليه السّلام مهنّئَيْن ومبايِعَيْن وهما يقولان: أَمسيتَ يا ابنَ أبي طالب مولى كلّ مؤمنٍ ومؤمنة.
فلَيتَ شعري أيّ معنًى من معاني «المولى» الممكنة تطبيقُه على مولانا لم يكن قبل ذلك اليوم حتّى تجدّد به، فأَتيا يُهنّئانه لأجله ويُصارحانه بأنّه أصبحَ متلفّعاً به يوم ذاك؟ أهو معنى النّصرة أو المحبّة اللّتَين لم يزل أمير المؤمنين عليه السّلام متّصفاً بهما منذ رضع ثدي الإيمان مع صِنوه المصطفى صلّى الله عليه وآله؟ أم غيرهما ممّا لا يُمكن أن يُراد في خصوص المقام؟ لاها الله، لا ذلك ولا هذا، وإنّما أرادا معنًى فهمَه كلُّ الحضور من أنّه أَوْلى بهما وبالمسلمين أجمع من أنفسهم، وعلى ذلك بايعاه وهنّآه.
ومن أولئك: الحارث بن النّعمان الفهريّ (أو: جابر) المنتقَم منه بعاجل العقوبة يوم جاء رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وهو يقول: يا محمّد؟ أَمرتَنا بالشّهادتَيْن والصّلاة والزّكاة والحجّ، ثمّ لم ترضَ بهذا حتّى رفعتَ بِضَبعَي ابن عمِّك ففضَّلته علينا، وقلت: «مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ».
فهل المعنى الملازم للتّفضيل الّذي استعظمه هذا الكافر الحاسد، وطفقَ يُشكِّك أنّه من الله أم أنّه محاباة من الرّسول، يُمكن أن يراد به أحد ذَينك المعنيَين أو غيرهما؟
أحسبُ أنّ ضميركَ الحرّ لا يَستبيحُ لك ذلك، ويقول لك بكلّ صراحة: إنّه هو تلك الولاية المطلقة الّتي لم يؤمن بها طواغيتُ قريش في رسول الله صلّى الله عليه وآله إلّا بعد قهرٍ من آياتٍ باهرة، وبراهينَ دامغة، وحروب طاحنة، حتّى ﴿..جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا﴾. فكانت هي في أمير المؤمنين أثقلَ عليهم وأعظم، وقد جاهر بما أضمرَه غيره الحارثُ بن النّعمان فأخذه اللهُ أخذَ عزيزٍ مقتدر. [هو المقصود بقوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ﴾ المعارج:1-2]
* ومن أولئك: النّفر الّذين وافوا أميرَ المؤمنين عليه السّلام في رَحْبَةِ الكوفة قائلين: السّلام عليك يا مولانا. فاستوضحَ الإمامُ عليه السّلام الحالةَ لإيقاف السّامعين على المعنى الصّحيح، وقال: «كَيْفَ أَكونُ مَوْلاكُمْ وَأَنْتُمْ رَهْطٌ مِنَ العَرَبِ؟».
فأجابوه: إنّا سمعنا رسولَ الله صلّى الله عليه وآله يقولُ يومَ غدير خمّ: «مَنْ كُنْتُ مَولاه فَعَلِيٌّ مولاه».
إنّ المولويّة المستعظَمة عند العرب، الّذين لم يكونوا يتنازلون بالخضوع لكلِّ أحدٍ، ليست هي المحبّة والنّصرة، ولا شيء من معاني الكلمة، وإنّما هي الرّياسة الكبرى الّتي كانوا يستصعبون حملَ نِيرها إلّا بمُوجبٍ يُخضِعُهم لها، وهي الّتي استوضحَها أمير المؤمنين عليه السّلام للملإ باستفهامٍ، فكان من جواب القوم: أنّهم فهموها من نَصّ رسول الله، صلّى الله عليه وآله، وهذا المعنى غير خافٍ حتّى على المخدَّرات في الحجال.
عن الزّمخشريّ في (ربيع الأبرار): عن الدّارميّة الحجونيّة الّتي سألها معاوية عن سبب حبِّها لأمير المؤمنين عليه السّلام وبُغضها له، فاحتجّت عليه بأشياء منها: إنَّ رسول الله عقدَ له الولاية بمشهدٍ منه يوم غدير خمّ، وأسند بغضَها له إلى أنَّه قاتلَ مَن هو أَوْلى بالأمر منه وطلب ما ليس له. ولم يُنكره عليها معاوية.
وقبل هذه كلّها مناشدةُ أمير المؤمنين عليه السّلام واحتجاجُه به يوم الرّحبة، وكان ذلك لمّا نُوزِع في خلافته وبلغَه اتّهامُ النّاس له فيما كان يرويه من تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وآله له وتقديمه إيّاه على غيره. قال برهان الدّين الحلبيّ في (سيرته) «احتجّ به بعد أنْ آلَت إليه الخلافة ردّاً على مَن نازَعَه فيها».
أَفَتَرى والحالة هذه معنًى معقولاً للمولى غير ما نَرْتَئيهِ، وفهمَه هو عليه السّلام، ومَن شهدَ له من الصّحابة، ومَن كتم الشّهادة إخفاءً لفضله حتّى رُمِيَ بفاضحٍ من البلاء، ومَن نازعه حتّى أُفحم بتلك الشّهادة؟ وإلّا فأيّ شاهدٍ له في المنازعة بالخلافة في معنى الحبّ والنّصرة وهما يعمّان سائر المسلمين؟
والواقفُ على موارد الحِجاج، بين أفراد الأمّة وفي مجتمعاتها وفي تضاعيف الكُتب منذ ذلك العهد المتقادم إلى عصورنا هذه، جِدُّ عليمٌ بأن القوم لم يفهموا من الحديث إلّا المعنى الّذي يحتجّ به للإمامة المطلقة؛ وهو الأولويّة من كلِّ أحدٍ بنفسه وماله في دِينه ودنياه، الثّابت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وآله وللخلفاء المنصوصِ عليهم من بعده.
«مَن كنتُ مَولاه، فَهذا عَلِيٌّ مولاه...»
المعاني المحتمَلَة في لفظة «مولى»
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أبو الفتح الكراجكيّ رحمه الله ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
«الحجّة على أنّ لفظة (مَوْلى) تحتمل (أَوْلى) وأنّها أحد أقسامها، ليس يطالبُ بها منصفٌ كان له أدنى الاطّلاع في اللّغة، وبعضُ الاختلاط بأهلها، لأنّ ذلك مستفيضٌ بينهم، غيرُ مختلفٍ عندهم، وجميعهم يُطلقون القول فيمَن كان أوْلى بشيء أنّه مَوْلاه. وأنا أُوضح لك أقسام (مَوْلَى) في اللّسان لتعلمَها على بيان».
بهذه العبارات ابتدأ أبو الفتح الكراجكي (ت: 449 للهجرة) كلامه على المعاني العشرة المحتملة للفظة «مَوْلى» الواردة في نَصّ الغدير، اخترناه من رسالةٍ له سمّاها (دليل النّصّ بخبر الغدير)، وردت في كتابه القيّم (كنز الفوائد).
يُشار إلى أنّ الشّيخ الجليل أبي الفتح من تلامذة الشّيخ المفيد، ومن أصحاب الشّريف المرتضى، وهو من كبار فقهاء طرابلس الشّام، وقال بعض المؤرّخين إنّه توفّي ودُفن بمدينة صور من جبل عامل.
اعلم أنَّ لفظة «مَوْلى» في اللّغة تحتمل عشرة أقسام:
أوّلها: «أَوْلى»، وهو الأصلُ الّذي ترجع إليه جميع الأقسام، قال الله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ الحديد:15. يريد سبحانه: هي أَوْلى بكم: على ما جاء في التّفسير وذكره أهل اللّغة.
وقد فسّره على هذا الوجه أبو عُبيدة معمّر بن المثنّى (فقيه لغويّ معاند، عاصر الأصمعيّ) في كتابه المعروف بالمجاز في القرآن (ج 2، ص 254)، ومنزلته في العلم بالعربيّة معروفة، وقد استشهد على صحّة تأويله ببيتٍ (من مُعَلَّقَة) لبيد (بن ربيعة):
فَغَدَتْ، كِلَا الفَرْجَيْنِ تَحْسَبُ أَنَّهُ |
مَوْلَى المَخَافَةِ خَلْفُهَا وَأَمَامُهَا |
يريد أَوْلى المخافة، ولم يُنكر على أبي عبيدة أحدٌ من أهل اللّغة.
وثانيها: مالكُ الرّقّ، قال الله سبحانه: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ..﴾ النّحل:75-76. يريد مالكَه، واشتهار هذا القسم يُغني عن الإطالة فيه.
وثالثها: المعتِق.
ورابعها: المعتَق، وذلك أيضاً مشهور معلوم.
وخامسها: ابن العمّ. قال الشّاعر:
مَهلاً بَني عَمِّنا، مَهْلاً مَوالينا |
لا تَنشْروا بَيْنَنا ما كانَ مَدْفونا |
وسادسها: النّاصر، قال الله عزَّ وجلَّ ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ﴾ محمّد:11. يريد لا ناصرَ لهم.
وسابعها: المتولّي لضمان الجريرة ومَن يحوز الميراث. قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾ النّساء:33.
وقد أجمع المفسّرون على أنّ المراد بالمَوالي ها هنا مَن كان أملكَ بالميراث، وأَولى بحيازته.
قال الأخطل [يمدح أحد ملوك الأمويّين]:
فَأَصْبَحْتَ مَوْلاها مِنَ النّاسِ بَعْدَهُ |
وَأَحْرى قُرَيْشٍ أَنْ تُهابَ وَتُحْمَدا |
وثامنها: الحليف.
وتاسعها: الجار. وهذان القسمان أيضاً معروفان.
وعاشرها: الإمامُ السّيّدُ المُطَاع: فإنّا نجدُ أهل اللّغة لا يصفون بهذه اللّفظة إلّا مَن كان يملكُ تدبيرَ ما وُصف بأنّه أَولى به، وتصريفَه، وينفذ فيه أمرُه ونَهيُه. ألا تراهم يقولون: إنّ السّلطان أَولى بإقامة الحدود من الرّعيّة، والمَوْلَى أَوْلَى بعبده، والزّوج أولى بامرأته، ووَلدُ الميت أَولى بميراثه من جميع أقاربه، وقصْدُهم بذلك ما ذكرناه دون غيره. وقد أجمع المفسِّرون على أنّ المراد بقوله سبحانه: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ..﴾ الأحزاب:6، أنّه أَولى بتدبيرهم والقيام بأمورهم، من حيث وجبتْ طاعتُه عليهم.
وليس يشكّ أحدٌ من العقلاء في أنّ مَن كان أولى بتدبير الخلق وأمْرِهم ونَهيهم من كلّ أحدٍ منهم، فهو إمامُهم المفترض الطّاعة عليهم.
ووجهٌ آخر: وممّا يوضح أنّ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، أراد أن يوجبَ لأمير المؤمنين، عليه السّلام، بذلك منزلة الرّئاسة والإمامة والتّقدّم على الكافّة فيما يقتضيه فرض الطّاعة، أنّه قرَّرهم بلفظة «أَوْلى» على أمر يستحقّه عليهم من معناها، ويستوجبه من مقتضاها، وقد ثبت أنّه يستحقّ - في كونه أَولى بالخلق من أنفسهم - أنّه الرّئيس عليهم، والنّافذُ الأمر فيهم، والّذي طاعتُه مفترضةٌ على جميعِهم، فوجبَ أن يستحقّ أميرُ المؤمنين عليه السّلام مثلَ ذلك بعينه، لأنّه جعلَ له منه مثل ما هو واجبٌ له، فكأنّه قد قال: مَن كنتُ أوْلى به من نفسِه في كذا وكذا، فعَليٌّ أولى به من نفسه فيه.
ووجهٌ آخر: وهو أنّا إذا اعتبرنا ما تحتمله لفظة «مَوْلى» من الأقسام، لم نرَ فيها ما يصحّ أن يكون مرادَ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، إلّا ما اقتضاه الإمامة والرّئاسة على الأنام، وذلك أنّ أمير المؤمنين، عليه السّلام، لم يكن مالكاً لرقّ كلّ مَن ملكَ رسول الله صلّى الله عليه وآله رقّه، ولا معتِقاً لكلّ مَن أعتقه، فيصحّ أن يكون أحد هذَين القسمَين المراد. [وعلى هذا فَقِس سائر المعاني، كالنّاصر، وابن العمّ، وغيرهما[ ".."
فإذا بطل أن يكون مراده عليه السّلام شيئاً من هذه الأقسام، لم يبقَ إلّا أن يكون قصدَ ما كان حاصلاً له من تدبير الأنام، وفرْض الطّاعة على الخاصّ والعامّ، وهذه هي رتبة الإمام.
***
فقد اتّضح لك بهذا البيان ما تحتمله لفظة «مَوْلى» من الأقسام، وأنّ «أَولى» أحد محتملاتها في معاني الكلام، بل هي الأصل وإليها يرجع معنى كلّ قسم، وأنت إذا تأمّلت كلّ واحدةً من هذه الأقسام وجدتها جاريةً هذا المجرى، وعائدةً بمعناها إلى «الأَوْلى»، وهذا يشهد بفساد قول مَن زعم أنّه متى أريد بمَوْلى «أَوْلى» كان ذلك مجازاً، وكيف يكون مجازاً وكلّ قسم من أقسام «مَوْلى» عائد إلى معنى «الأَوْلى»؟! وقد قال الفرّاء في كتاب (معاني القرآن) إنّ «الوَلِيَّ وَالمَوْلى في كَلامِ العَرَبِ واحِدٌ».
آياتُ يوم الغدير
«..عَلى وِلايَتي ولايةُ الله، وَعَلى عَدَاوَتي عَدَاوةُ اللهِ»
ـــــــــــــــــــــــــ السّيّد علي الحسيني الميلاني ـــــــــــــــــــــــــ
قراءة موجزة في الآيات القرآنيّة الّتي نزلت على رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم غدير خمّ، في الثّامن عشر من ذي الحجّة سنة عشرة للهجرة، اخترناها من كتاب (مقالتان في الغدير) لسماحة المحقّق السّيّد عليّ الحسيني الميلاني.
نزلت في يوم الغدير عدّة آياتٍ من القرآن الكريم:
* الآية الأولى: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ..﴾. المائدة:67.
نزلت هذه الآية قبل خطبة النّبيّ، صلّى الله عليه وآله، جاء ذلك في رواية أهل البيت عليهم السّلام:
روى الشّيخ محمّد بن يعقوب الكلينيّ - المتوفّى سنة 328 - بإسناده عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام، قال:
«أَمَرَ اللهُ رَسولَهُ بِوِلايَةِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ﴾ المائدة:55، وَفَرَضَ وِلايَةَ أُولي الأَمْرِ، فَلَمْ يَدْروا ما هِيَ.
فَأَمَرَ اللهُ مُحَمَّداً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يُفَسِّرَ لَهُمُ الوِلايَةَ كَما فَسَّرَ لَهُمُ الصَّلاةَ وَالزَّكاةَ وَالصَّوْمَ وَالحَجَّ.
فَلَمّا أَتاهُ ذَلِكَ عَنِ اللهِ، ضاقَ بِذَلِكَ صَدْرُ رَسولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَخافَ أَنْ يَرْتَدّوا عَنْ دينِهِمْ وَأَنْ يُكَذِّبوهُ، فَضاقَ صَدْرُهُ وَراجَعَ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَوْحى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ...﴾ المائدة:67.
فَصَدَعَ بِأَمْرِ اللهِ تَعالى ذِكْرُهُ، فَقامَ بِوِلايَةِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلامُ، يَوْمَ غَديرِ خُمّ؛ فَنادى: الصَّلاة جامِعَة، وَأَمَرَ النّاسَ أَنْ يُبَلِّغَ الشّاهِدُ الغائِبَ..».
وروى نزول الآية في الغدير من كبار حفّاظ أهل السنّة وعلمائهم الأعلام: ابنُ أبي حاتم، وابن مردويه، والثّعلبي، وأبو نعيم الأصفهاني، والواحدي، والحسكاني، وابن عساكر، والفخر الرّازي، والنّيسابوري، والعيني، والسّيوطي...
* الآية الثانية: ﴿.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ اْلإِسْلامَ دينًا..﴾ المائدة:3.
نزلت هذه الآية بعد أن فرغ النّبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلّم، من الخطبة وبايع الحاضرون أميرَ المؤمنين عليه السّلام.
روى الشّيخ محمّد بن يعقوب الكليني بسنده عن الإمام محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام، في حديث خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام، وهي خطبة الوسيلة، وهي طويلة، يقول فيها عليه السّلام:
«.. ثُمَّ صارَ إِلى غَديرِ خُمٍّ، فَأَمَرَ فَأُصْلِحَ لَهُ مِثْلُ المِنْبَرِ، ثُمَّ عَلاهُ وَأَخَذَ بِعَضُدي حَتّى رُئِيَ بَياضَ إِبْطَيْهِ، رافِعاً صَوْتَهُ، قائِلاً في مَحْفَلِهِ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، أللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ.
وَكانَتْ عَلى وِلايَتي وِلايَةُ اللهِ، وَعَلى عَداوَتي عَداوَةُ اللهِ. وَأَنْزَلَ اللهُ: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ اْلإِسْلامَ دينًا..﴾، فَكانَتْ وِلايَتي كَمالَ الدّينِ وَرِضا الرَّبِّ جَلَّ ذِكْرُهُ».
وروى نزول الآية في الغدير من كبار حفّاظ أهل السّنّة وأعلام علمائهم: ابن مردويه، وأبو نعيم، وابن المغازلي، والموفّق المكّيّ، وأبو حامد الصّالحاني، والحمويني...
* الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذاب واقِع * لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ * مِنَ الله ذِي الْمَعارِجِ﴾ المعارج:1-3.
نزلت هذه الآية في قضيّة الحارث بن النّعمان الفهريّ بعد أنْ تمّت البيعةُ لأمير المؤمنين عليه السّلام.
رُوي عن الإمام الباقر عليه السّلام ما خلاصتُه: أنّ الفهريّ قال لرسول الله صلّى الله عليه وآله: يا محمّد! إنّك دعوتنا أنْ نقول: لا إله إلاّ الله. فقلنا. ثمّ دعوتنا أن نقول: إنّك رسولُ الله. فقلنا وفي القلب ما فيه! ثمّ قلت: فَصَلّوا. فَصَلّينا. ثمّ قلت: فَصوموا. فَصمنا. ثمّ قلت: فحجّوا فحَجَجنا ".." ثمّ إنّك أقمتَ ابن عمّك، فجعلتَه عَلَماً وقلت: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَهَذا عَلِيٌّ مَوْلاهُ، أللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ، وَعادِ مَنْ عاداهُ، وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ، أَفَعَنْكَ أَمْ عَنِ اللهِ؟
قال صلّى الله عليه وآله: «بَلْ عَنِ اللهِ»، (قالها ثلاثاً).
فنهض الفهريّ وإنّه لمُغضَبٌ، وإنّه لَيَقول: أللّهمّ إنْ كان ما قال محمّدٌ حقّاً فأمطِر علينا حجارةً من السّماء تكون نقمةً في أوّلنا وآيةً في آخرنا. وإنْ كان ما قال محمّد كَذِباً فأنزل به نقمتك!
ثمّ أثار ناقتَه فحلّ عِقالَها ثمّ استوى عليها. فلمّا خرج من الأبطح رماه اللهُ تعالى بحَجرٍ من السّماء، فأصابَ رأسَه وسقط ميّتاً، فأنزل الله فيه: ﴿سَأَلَ سائِلٌ بِعَذاب واقِع * لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ * مِنَ الله ذِي الْمَعارِجِ﴾.
وروى نزول الآية في هذه القضيّة من كبار علماء أهل السّنّة ومُحدّثيهم: الثّعلبي، وسِبط ابن الجوزيّ، والزّرندي، والسّمهودي، وابن الصبّاغ، والمناوي...
* الآية الرابعة: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزيلُ رَبِّ الْعالَمينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ اْلأَمينُ * عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرينَ﴾ الشّعراء:192-194.
روى الشّيخ عليّ بن إبراهيم القمّيّ - من أعلام القرن الثالث – في (تفسيره) بإسناده عن الإمام الصّادق عليه السّلام، قال: «نَزَلَتْ لِأَميرِ المُؤْمِنينَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، يَوْمَ الغَديرِ».
الفرقُ بين الإكمال والإتمام
هناك فرقٌ بين «الإكمال» و«الإتمام»، بدليل استعمال القرآن الكريم لفظ الإكمال للدّين، ولفظ الإتمام للنّعمة.
جاء في (الفروق اللّغويّة) لأبي هلال العسكريّ، عند تفريقه بين اللّفظَين، أنّ:
«كمال»: اسمٌ لاجتماع أبعاض الموصوف به، و«تمام» اسمٌ للجزء الّذي يتمّ به الموصوف، ويوصف من ثمَّ بأنّه تامّ.
والظّاهر أنّ مادّة (كمل) تستعمَل للمركّب الّذي لا يحصل الغرضُ منه إلّا بكلّ أجزائه، فهو يكملُ بها جميعاً، وإن نقصَ شيء منها يكون وجوده ناقصاً أو مثلوماً!
فقوله تعالى: ﴿أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ﴾ معناه إكمالُه بتنزيل جزئه المكمّل لمركّبه، وبدونه يبقى الإسلام ناقصاً مثلوماً، بمنزلة غير الموجود.
أمّا قوله تعالى: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي﴾ فهو يعني النّعمة بتنزيل الإسلام وشروط تحقيق أغراضه وأهدافه في الأرض، فبإكمال مركّب الدّين بالإمامة يكون تعالى قد أتمّ النّعمة على المسلمين، وبها ضمن تحقيق هدف الدّين في الأرض، إنْ هم أطاعوا الإمام الّذي نصبه لهم.
وبذلك يتّضح أنّ الإمامة جزءٌ لا يتجزّأ من الإسلام، فلا وجودَ حقيقيّاً له من دونها، كما أنّ تبليغ النّبيّ للإمامة تتميمٌ للنّعمة الإلهيّة على هذه الأُمّة، فالنّعمة موجودةٌ بدون تبليغها، لكنّها لا تكون تامّة إلّا بها!
ويشير الرّاغب الأصفهانيّ في (المفردات) إلى لفتة لطيفة في المقام، فيقول: «قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ..﴾ الأنعام:115، إشارةٌ إلى نحو قوله: ﴿.. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ..﴾ الآية، ونبّه بذلك أنّه لا تنسَخ الشّريعة بعد هذا».
وهذا إنّ دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّ النّسخَ كان مفتوحاً في القرآن والسّنّة حتّى نزلت الإمامة، فانتهى النّسخُ وكمل الدّين بصيغته الخالدة، وتمّت به النّعمة.
(الشّيخ علي الكوراني، آيات الغدير)
«الغَدير» في روايات المعصومين عليهم السّلام
يَوْمُ التَّبَسُّمِ وَالصَّفْحِ عَنِ المُذْنِبينَ
____تنسيق: «شعائر»____
هنا مجموعة منتقاة من الأحاديث الشّريفة ترتبط بعيد الغدير الأغرّ، اختارت «شعائر» معظمها من بحث روائيّ للباحثة الإسلاميّة الحاجّة ندى الطّويل، على أمل أن تُساهم هذه الكلمات النّورانيّة في تَمتين علاقة المؤمن الموالي بأعظم الوقائع وأجَلِّها بعد المبعث النّبويّ الشّريف.
أَفْضَلُ أَعْيادِ الأُمَّةِ
عن الرّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله: «يَوْمُ غَديرِ خُمٍّ أَفْضَلُ أَعْيادِ أُمَّتي، وَهُوَ اليَوْمُ الّذي أَمَرَني اللهُ، تَعالى ذِكْرُهُ، فيهِ بِنَصْبِ أَخي عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ عَلَماً لِأُمَّتي، يَهْتَدونَ بِهِ مِنْ بَعْدي، وَهُوَ اليَوْمُ الذي أَكْمَلَ اللهُ فيهِ الدّينَ، وَأَتَمَّ عَلى أُمَّتي فيهِ النِّعْمَةَ، وَرَضِيَ لَهُمُ الإِسْلامَ ديناً..».
مُصافَحَةُ المَلائِكَةِ
عن الإمام الرّضا عليه السّلام، من ضمن حديثٍ طويل: «لَوْ عَرَفَ النّاسُ فَضْلَ هَذا اليَوْمِ بِحَقيقَتِهِ لَصافَحَتْهُمُ المَلائِكَةُ في كُلِّ يَوْمٍ عَشْرَ مَرّاتٍ».
عشرة آلاف شاهد
في (تفسير العيّاشي) عن عمر بن يزيد، قال: قال أبو عبد الله الصّادق عليه السّلام ابتداءً منه:
«العَجَبُ يا أَبا حَفْصٍ لِما لَقِيَ عَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ! إِنَّهُ كانَ لَهُ عَشَرَةُ آلافِ شاهِدٍ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِ، وَالرَّجُلُ يَأْخُذُ حَقَّهُ بِشاهِدَيْنِ؛ إِنَّ رَسولَ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، خَرَجَ مِنَ المَدينَةِ حاجّاً وَتَبِعَهُ خَمْسَةُ آلافٍ، وَرَجَعَ مِنْ مَكَّةَ وَقَدْ شَيَّعَهُ خَمْسَةُ آلافٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَلَمّا انْتَهى إِلى الجُحْفَةِ نَزَلَ جَبْرَئيلُ بِوِلايَةِ عَلِيٍّ، عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقَدْ كانَتْ نَزَلَتْ وِلايَتُهُ بِمِنًى، وَامْتَنَعَ رَسولُ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، مِنَ القِيامِ بِها لِمَكانِ النّاسِ.
فقال: ﴿يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ...﴾، ممّا كرهتَ بِمِنَى.
فَأَمَرَ رَسولُ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فَقُمَّتِ السَّمُرات [جمع السَّمُرَة: صنفٌ من النّبات]، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ النّاسِ: أَما وَاللهِ لَيَأْتِيَنَّكُمْ بِداهِيَةٍ»!
فَقُلْتُ لِعُمَرَ [أي لعُمر بن يزيد راوي الحديث، والضّمير للرّاوي عنه]: مَنِ الرَّجُلُ؟ فَقالَ: [فلان].
يوم الجمل
عن الإمام الصّادق عليه السّلام: «لَمّا صُرِعَ زَيْدُ بْنُ صَوْحانَ، رَحِمَهُ اللهُ، يَوْمَ الجَمَلِ، جاءَ أَميرُ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ حَتّى جَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقالَ: رَحِمَكَ اللهُ يا زَيْدُ! لَقَدْ كُنْتَ خَفيفَ المَؤونَةِ عَظيمَ المَعونَةِ.
قالَ: فَرَفَعَ زَيْدٌ رَأْسَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ قالَ: وَأَنْتَ فَجَزاكَ اللهُ خَيْراً يا أَميرَ المُؤْمِنينَ! فَوَاللهِ ما عَلِمْتُكَ إِلّا بِاللهِ عَليماً وَفي أُمِّ الكِتابِ عَلِيّاً حَكيماً، وَإِنَّ اللهَ في صَدْرِكَ لَعَظيمٌ، وَاللهِ، ما قاتَلْتُ مَعَكَ عَلَى جَهالَةٍ، وَلَكِنّي سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، تَقولُ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ، صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: مَنْ كُنْتُ مَوْلاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاهُ، اللَّهُمَّ والِ مَنْ والاهُ وَعادِ مَنْ عاداهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ. فَكَرِهْتُ- وَاللهِ- أَنْ أَخْذُلَكَ فَيَخْذُلَني اللهُ».
سُنَّةُ الأَنْبِياءِ
قَالَ الْحَسَنُ بْنُ رَاشِدٍ: قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ الله الصّادق عليه السّلام: جُعِلْتُ فِدَاكَ، لِلْمُسْلِمِينَ عِيدٌ غَيْرُ الْعِيدَيْنِ؟ [أي غير الأضحى والفطر]
قَالَ: نَعَمْ يَا حَسَنُ، أَعْظَمُهُمَا وأَشْرَفُهُمَا.
قُلْتُ: وأَيُّ يَوْمٍ هُوَ؟
قَالَ: هُوَ يَوْمٌ نُصِبَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، صَلَوَاتُ الله وسَلَامُهُ عَلَيْه، فِيه عَلَماً لِلنَّاسِ.
قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، ومَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَصْنَعَ فِيه؟
قَالَ: تَصُومُه يَا حَسَنُ، وتُكْثِرُ الصَّلَاةَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَتَبْرَأُ إِلَى اللهِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ؛ فَإِنَّ الأَنْبِياءَ، صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ، كَانَتْ تَأْمُرُ الأَوْصِياءَ بِالْيَوْمِ الَّذِي كَانَ يُقَامُ فِيه الْوَصِيُّ أَنْ يُتَّخَذَ عِيداً...».
في السَّماءِ أَشْهَرُ مِنْهُ في الأَرْضِ
عن محمّد بن أبي نصر، قال: كنّا عند الرّضا عليه السّلام والمجلسُ غاصٌّ بأهله، فتَذاكروا يومَ الغدير وأنكرَه بعضُ النّاس. فقال الرّضا عليه السّلام: «حَدَّثَني أَبي عَنْ أَبيهِ قالَ: إِنَّ يَوْمَ الغَديرِ في السَّماءِ أَشْهَرُ مِنْهُ في الأَرْضِ». ".."
ثمّ قال عليه السّلام: «يا ابْنَ أَبي نَصْرٍ، أَيْنَما كُنْتَ فَاحْضُرْ يَوْمَ الغَديرِ عِنْدَ أَميرِ المُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَإِنَّ اللهَ تَعالى يَغْفِرُ (فيه) لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ وَمُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ ذُنوبَ سِتّينَ سَنَةٍ، وَيَعْتِقُ مِنَ النّارِ ضِعْفَ ما أَعْتَقَ في شَهْرِ رَمَضانَ وَلَيْلَةِ القَدْرِ وَلَيْلَةِ الفِطْرِ، وَالدِّرْهَمُ فيهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِإِخْوانِكَ العارِفينَ، فَأَفْضِلْ عَلى إِخْوانِكَ في هَذا اليَوْمِ، وَسُرَّ فيهِ كُلَّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ».
«الغَديرُ»، يَوْمُ الإِكْثارِ مِنَ الصَّلَواتِ
عن الإمام الرّضا عليه السّلام:
«.. وَإِنَّ يَوْمَ الغَديرِ بَيْنَ الأَضْحى وَالفِطْرِ وَالجُمُعَةِ كَالقَمَرِ بَيْنَ الكَواكِبِ. ".."
* وَهُوَ اليَوْمُ الّذي يَزيدُ اللهُ في حالِ مَنْ عَبَدَ فيهِ وَوَسَّعَ عَلى عِيالِهِ وَنَفْسِهِ وَإِخْوانِهِ، وَيَعْتِقُهُ اللهُ مِنَ النّارِ.
* وَهُوَ اليَوْمُ الّذي يَجْعَلُ اللهُ فيهِ سَعْيَ الشّيعَةِ مَشْكوراً، وَذَنْبَهُمْ مَغْفوراً، وَعَمَلَهُمْ مَقْبولاً.
* وَهُوَ يَوْمُ تَنْفيسِ الكَرْبِ، وَيَوْمُ تَحْطيطِ الوِزْرِ، وَيَوْمُ الحِباءِ وَالعَطِيَّةِ، وَيَوْمُ نَشْرِ العِلْمِ، وَيَوْمُ البِشارَةِ وَالعيدِ الأَكْبَرِ.
* وَيَوْمُ يُسْتَجابُ فيهِ الدُّعاءُ، وَيَوْمُ المَوْقِفِ العَظيمِ، وَيَوْمُ لُبْسِ الثِّيابِ وَنَزْعِ السَّوادِ، وَيَوْمُ الشَّرْطِ المَشْروطِ، وَيَوْمُ نَفْيِ الهُمومِ، وَيَوْمُ الصَّفْحِ عَنْ مُذْنِبي شيعَةِ أَميرِ المُؤْمِنينَ.
* وَهُوَ يَوْمُ السُّبْقَةِ، وَيَوْمُ إِكْثارُ الصَّلاةِ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ.
* وَيَوْمُ الرّضا، وَيَوْمُ عيدِ أَهْلِ بَيْتِ مُحَمَّدٍ، وَيَوْمُ قَبولِ الأَعْمالِ، وَيَوْمُ طَلَبِ الزِّيادَةِ، وَيَوْمُ اسْتِراحَةِ المُؤْمِنينَ. ".."
* وَيَوْمُ تَرْكِ الكَبائِرِ وَالذُّنوبِ، وَيَوْمُ العِبادَةِ، وَيَوْمُ تَفْطيرِ الصّائِمينَ "..".
* وَهُوَ يَوْمُ التَّهْنِئَةِ، يُهَنِّىءُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، فَإِذا لَقِيَ المُؤْمِنُ أَخاهُ يَقولُ: الحَمْدُ للهِ الّذي جَعَلَنا مِنَ المُتَمَسِّكينَ بِوِلايَةِ أَميرِ المُؤْمِنينَ وَالأَئِمَّةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ.
* وَهُوَ يَوْمُ التَّبَسُّمِ في وَجوهِ النّاسِ مِنْ أَهْلِ الإيمانِ؛ فَمَنْ تَبَسَّمَ في وَجْهِ أَخيهِ يَوْمَ الغَديرِ نَظَرَ اللهُ إِلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ بِالرَّحْمَةِ وَقَضى لَهُ أَلْفَ حاجَةٍ. ".."
* وَهُوَ يَوْمُ الزّينَةِ، فَمَنْ تَزَيَّنَ لِيَوْمِ الغَديرِ غَفَرَ اللهُ لَهُ كُلَّ خَطيئَةٍ عَمِلَها، صَغَيرةً [كانت] أَوْ كَبيرَةً، وَبَعَثَ اللهُ إِلَيْهِ مَلائِكَةً يَكْتُبونَ لَهُ الحَسَناتِ وَيَرْفَعونَ لَهُ الدَّرَجاتِ إِلى قابِلِ مِثْلِ ذَلِكَ اليَوْمِ، فَإِنْ ماتَ ماتَ شَهيداً، وَإنْ عاشَ عاشَ سَعيداً. وَمَنْ أَطْعَمَ مُؤْمِناً كانَ كَمَنْ أَطْعَمَ جَميعَ الأَنْبِياءِ وَالصِّدّيقينَ. وَمَنْ زارَ فيهِ مُؤْمِناً أَدْخَلَ اللهُ قبْرَهُ سَبْعينَ نوراً، وَوَسَّعَ في قَبْرِهِ، وَيزورُ قَبْرَهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعونَ أَلْفِ مَلَكٍ، وَيُبَشِّرونَهُ بِالجَنَّةِ...
(إقبال الأعمال، السّيّد ابن طاوس)
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.