«بناء المقالة الفاطميّة في نقض الرّسالة
العُثمانيّة»
ابن
طاوس مجادلاً أباطيل الجاحظ
______
قراءة: كريم زيدان ______
الكتاب: «بناء
المقالة الفاطميّة في نقض الرّسالة العُثمانيّة».
المؤلف: السّيّد
جمال الدّين أبو الفضائل أحمد بن موسى بن طاوس (ت: 673 للهجرة).
تحقيق: السّيّد عليّ
العدنانيّ الغريفيّ.
الناشر: «مؤسّسة آل البيت لإحياء التّراث»، بيروت 1991م.
إذا كان لنا أن نصنّف كتاب «بناء المقالة الفاطميّة في نقض الرّسالة
العثمانيّة» للمحقّق ابن طاوس، لأقمناه في صدارة المطارح المعرفيّة التي عرفتها ثقافة
القرن السّابع الهجريّ. أمّا ما يمنح الكتاب المذكور أهمّيّته المخصوصة، فإنّما
لدواعٍ ثلاثة:
أوّلاً: لطبيعته الجداليّة، وانتسابه الصّميم إلى الموروث الضّخم لعلم
الكلام الإسلاميّ.
وثانياً: لأنّه جاء في سياق الرّدّ على واحد من أشهر مُتكلّمي العالم الإسلاميّ
وأدبائه في زمانه وهو أبو عثمان الجاحظ (المتوفّى سنة ٢٥٥ للهجرة) صاحب كتاب (البخلاء).
أمّا ثالثاً: فيعود إلى المؤلّف نفسه الذي ينتمي إلى أسرةٍ علميّة عريقة في
السّيادة والعلم، فضلاً عن المعارف الإلهيّة بشتّى فنونها وتصنيفاتها. قصدنا بذلك أسرة
آل طاوس، وهي الأسرة التي ظهر فيها أكابر الحكماء والعرفاء والمحقّقين، وفي مقدّمهم
أخوه الأكبر السّيّد رضيّ الدّين أبو القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن طاوس، صاحب
كتاب (الإقبال).
لقد أورد المحقّق نحواً من مائة وأربعة وخمسين إشكالاً روائيّاً
وكلاميّاً في ردّه على الجاحظ ورسالته. وهي كلّها على الجملة تتناول افتراءات صاحب
الرّسالة العثمانيّة على الإمام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام وعهده. أمّا هذه
الإشكاليّات فهي تندرج في سياق التّوظيف السّلطويّ لثقافة الجاحظ ومكانته الأدبيّة
والكلاميّة. وهذا الأمر الذي يبيّنه السّيّد المؤلّف بوضوح في سياق ردوده المنطقيّة
البليغة على تلك الافتراءات؛ بل أكثر من ذلك فإنّه يشكّك بتقواه، وإيمانه حين يشير
إلى أنّ أبا عثمان الجاحظ صنّف كتابه المُسمّى (الرّسالة العثمانيّة) فابتدأه غير
حامد لإله البريّة، ولا معترفٍ له بالرّبّانيّة، ولا شاهدٍ لنبيّه بالرّسالة الجليّة،
ولا لأهله وأصحابه بالمرتبة العليّة. شارداً في بيداء هواه، سامداً [أي متحيّراً] في
ظلماء عماه.. (ص 53).
وإذا كانت أهمّيّة هذا الكتاب كامنة في محتواه الجداليّ الرّفيع،
فإنّه سينال حظّه الوافر من جانب المحقّقين لجهة الشّكل الذي ظهر فيه إلى العلن. وسنرى
كيف اختلفت الآراء حول عنوان الكتاب الذي وصلنا، أهو العنوان الأصليّ الذي وضعه
المؤلف أم أنّه عنوان جرى استبداله بعد وفاته.
في هذا الخصوص، ذكر جماعة من المحقّقين ومنهم تلميذ المصنّف
الحسن بن داود أنّ العنوان الحقيقيّ للكتاب هو «بناء المقالة الفاطميّة في نقض الرّسالة
العثمانيّة». وذكر آخرون ومنهم آغابزرك الطّهرانيّ في (الذّريعة) أنّه «بناء
المقالة العلويّة». ويقول السّيّد محسن الأمين في (أعيان الشيّعة) إنّ العنوان هو «بناء
المقالة العلويّة» وهو نقض لرسالة أبي عثمان... وهناك نسخة في (كرمانشاه) منقولة
عن نسخة بخطّ الحسن بن داود صاحب (الرّجال) تلميذ المُصنّف، وعليها إجازة من المصنّف
له، إلّا أنّ اسمها «بناء المقالة الفاطميّة» بإبدال العلويّة بالفاطميّة.
أمّا مُحقّق الكتاب الذي بين أيدينا، فيقول: لا مجال لتغيير
اسمها بالعلويّة بعد تصريح تلميذ المصنّف وكاتب النّسخة المقروءة على المُصنّف
وعليها إجازة المصنّف. إذ قال ابن داود في آخر النّسخة: كتبت هذا الكتاب المعروف بـ
«كتاب بناء المقالة الفاطميّة في نقض الرّسالة العثمانيّة» لأبي عثمان عمرو بن بحر
الجاحظ.
وإذا فُتح باب
«الأنسب»
و«الأولى» في أسماء الكتب وتغييرها حسب الذّوق وتبديلها بغير ما وضع لها مؤلّفها
من اسم، لجُهِلت كتب معروفة، واختُرعت كتب جديدة غير موجودة بهذا الاسم.
دحض
مقالة الجاحظ
مُهمّة مقالة المحقّق ابن طاوس تتركّز على تفنيد الأطروحات الجداليّة
المتضمّنة في كتاب (الرّسالة العثمانيّة) الذي ألّفه عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ؛
وهذا الكتاب موضوع، كما بات، معلوماً للرّدّ على الشّيعة (الرّوافض على حدّ
تعبيره) وإبطال معتقدهم، وتفنيد آرائهم، والتّشويش على وضوح رؤيتهم، ودفعهم إلى
التّشكيك بطريقتهم المثلى ومذهبهم الحقّ.
فالمعروف أنّ ما انصرف إليه الجاحظ في رسالته هو إنكاره قضايا
ضروريّة وأموراً مسلّمة لدى الطّرفين العامّة والخاصّة، كان أثبتها التّاريخ بشكلٍ
قاطع، ولم يدع مجالاً لتشكيك مشكِّك فضلاً عن إنكار منكر.
ما اكتفى الجاحظ بما لفّق من شبهات وطعون على الشّيعة، حتّى
تعدّاهم إلى إمامهم إمام المتّقين ووصيّ رسول ربّ العالمين عليّ بن أبي طالب عليه
السّلام، فأراد النّيل من مقامه الشّامخ المرموق، وكسر أشعّة أنواره القدسيّة التي
ملأت الدّنيا علماً وضياءً وتقوى.
وإذا كان كتاب (المقالة الفاطميّة) لابن طاوس هو أحد أبرز
المحاجّات الرّفيعة المستوى في الرّدّ على الجاحظ، فقد شهد الفضاء المعرفيّ
الإسلاميّ في تلك الآونة ردوداً شتّى. وحسب المحقّقين إنّ الجاحظ ما أن فرغ من
تأليف كتابه وإعلانه على الملأ، حتّى انهالت الرّدود عليه من الشّيعة ومن غير الشّيعة.
وقد وصل إلينا بعضها وحفظ لنا التّاريخ أسماء قسمٍ آخر كان قد فُقد منها، ناهيك عمّا
لم نعرف عنه شيئاً وبقي في طوامير البيوت خوفاً من طواغيت أعداء آل محمّد عليهم السّلام،
فتلف ولم يبق منه عين ولا أثر. وأمّا الرّدود التي أحصاها المحقِّقون فهي :
١ ـ أوّل من نقض كتاب العثمانيّة هو
الجاحظ نفسه وهو ما يؤكّد نفاقه وتلاعبه بالمذاهب والمعتقدات. وعلى كلّ حال فقد ذكر
ابن النّديم في (فهرسته)، من جملة كتب الجاحظ كتاب «الرّدّ على العثمانيّة».
٢ ـ «نقض العثمانيّة» لأبي جعفر
الإسكافيّ المعتزليّ المتوفّى سنة ٢٤٠، ذكر بعضاً منه ابن أبي الحديد في شرحه على
نهج البلاغة، ثمّ جمع ذلك وطبع مستقلاًّ مع «العثمانيّة» في مصر سنة ١٣٧٤.
٣ ـ «نقض العثمانيّة» لأبي محمّد ثبيت
بن محمّد العسكريّ المُتكلّم صاحب أبي عيسى محمّد بن هارون الورّاق، صاحب كتاب (دلائل
الأئمّة) و(توليدات بني أميّة في الحديث) ذكره الطّهرانيّ في (الذّريعة).
٤ ـ «نقض العثمانيّة» لمظفّر بن محمّد
بن أحمد أبي الجيش البلخيّ المُتكلّم المُتوفّى سنة ٣٦٧، ذكره الطّهرانيّ في (الذّريعة).
٥ ـ «الرّدّ على العثمانيّة» لأبي
الأحوص المصريّ المُتكلّم، ذكره أغابزرك في (الذّريعة) وابن شهراشوب في (معالم العلماء).
٦ ـ «نقض العثمانيّة» للحسن بن موسى النّخعيّ،
ذكره المسعوديّ في (مروج الذّهب).
٧ ـ «نقض العثمانيّة» لأبي الحسن عليّ
بن الحسين بن عليّ المسعوديّ صاحب كتاب (مروج الذّهب) كما ذكر هو بنفسه ذلك.
٨ ـ «نقض العثمانيّة» لأبي الفضل أسد بن
عليّ بن عبد الله الغسّانيّ الحلبيّ المتوفّى سنة ٥٣٤، ذكره في (لسان الميزان).
٩
ـ «بناء
المقالة الفاطميّة في نقض الرّسالة العثمانيّة». وهو هذا الكتاب.
مهما يكن من أمرٍ، فإنّ الإضاءة على كتاب ابن طاوس اليوم ينطوي
على قيمة معرفيّة استثنائيّة خصوصاً وأنّه يكشف عن حيويّة فكريّة تتمثّل بالسّجال
بين فقهاء السلطة وعلماء المدرسة الإماميّة، في لحظةٍ كانت فيها السّلطة في ذروة
طغيانها.