من وصايا الشهيد الأوّل:
الحياءُ من الله تعالى في
الخَلَوات
وصيّتان للشهيد الأول الشيخ شمس الدين محمّد بن مكّي الجزّيني العاملي (استُشهد
786 للهجرة):
الأولى نقلاً عن (مجموعة) الشيخ محمّد بن علي الجباعي الحارثي الهمداني،
وهو الجدّ الأعلي للشيخ بهاء الدين العاملي، قال قبلَها: «وصيّة حَسَنة للإخوان بخطّ
الشيخ شمس الدين بن مكّي..»، ويظهر من ذيل الوصيّة أنّ الشهيد الأوّل كتبها لجماعة
من المؤمنين في مدينة دمشق.
والوصيّة الثانية عدّها الميرزا الأفندي في (رياض العلماء) في جملة تأليفات
الشهيد، فقال: «وله أيضاً رسالة مختصرة في الوصيّة بأربع وعشرين خصلة..».
يُشار إلى أنّ متن الوصيّتين نقلناه عن كتاب (وصايا العرفاء في السير
والسلوك إلى الله) لمعدّه السيد حسين نجيب محمد.
بسم
الله الرّحمن الرّحيم
..
[وأُوصي إخواني] ببذل المجهود في الجمع بين القلب واللّسان في التّلاوة، وسائر
الأذكار في الرّكوع والسّجود، وسائر الهيئات، لا يقنع أحدهم أن يَحضُر عند الله
تعالى بقالبه دون قلبه، وعلى قدر ضبط الجوارح عن الفضول بين كلّ فريضتين يجد قلبه
في الصّلاة.
وأوصيهم
بذكر الله عزَّ وجلَّ باللّسان والقلب، فأمّا القلب ففي كلّ مجلسٍ ومحفلٍ وكلِّ
طريقٍ يسلكونه، وعند الأكل والوضوء خاصّة، فإنَّ الذّاكر على طعامه ووقتَ وضوئه
يَقِلُّ طروق الشّيطان على قلبه، وتقلّ وسوسته في صلاته.
وأوصي
الإخوان بالدّوام على الطّهارة، ينبغي للعبد أن لا يحدث إلّا ويجدّد الوضوء، فإنّه
سلاح المؤمن.
ومهما
قَدَر أن لا يقعد إلّا مستقبلَ القبلة، وكلُّ مجلسٍ لا يكون فيه مستقبل القبلة
يَعتقد أن قد فاتته فضيلةٌ، ويتصوّر في كلّ مجلسٍ كأنّ رسول الله صلّى الله عليه
وآله حاضرٌ حتّى يتأدّب في قوله وفعله، ولا ينام إلّا على طهارةٍ مُستقبل القبلة.
ومن
أنفع الوصايا القيامُ باللّيل، فإنّه دَأبُ الصّالحين، فإنّهم لا يَدَعُ أحدهم أن
ينقضيَ ليلته ولم تكن له فيها نافلة، إمّا في أوّلها أو أوسطها أو آخرها.
".."
ومن
العَون الحَسَن على حقائق العبوديّة ذِكرُ الموت، وقد قيل: «يا رسول الله، هل
يُحشَر مع الشّهداء؟ قال: نَعَمْ، مَنْ يَذْكُرُ المَوْتَ بَيْنَ اليَومِ وَاللَّيلَةِ
عِشْرينَ مَرّةً»، فذِكرُ الموت يُقصِّر الأملَ ويُحسِّن العمل.
وممّا
انتفعتُ به في زماني وأوصي به إخواني، البُكور إلى الجُمعة: يجتهد أحدُهم أن يصلّي
فريضة الصّبح في الجامع، ويَشغل وقتَه بالصّلاة والتّلاوة وأنواع الذِّكر، إلى أن
يؤدّي الفريضة، فيومُ الجمعة يومُ الآخِرة لا يُشغَل بشيءٍ من أمور الدّنيا.
".."
وأحبُّ
من الإخوان أن لا يدَعوا يوماً بلا صَدَقةٍ، ولا يدَعوا أسبوعاً كاملاً بلا صومٍ، فيصوم
أحدُهم الأثانين [أيام الاثنين] والأخمسة [أيام الخميس] والجُمَع، وإلّا فيومين
منها.
وأُوصيهم
أنْ لا يذكروا أحداً من المسلمين إلّا بخيرٍ على ما يعتقدُ فيه من بدعةٍ أو شبهةٍ،
ولا يفتحوا على أنفسهم باب التّأويل للوقيعة في المسلمين. ".."
هذا
ما حضرني في الوقت، وكتبتُه للإخوان بمدينة دمشق حماها الله، ووفّقهم وإيّاي لما
يحبُّ ويرضى بحَوله وكرمِه، والحمد لله وحده، وصلواته على سيّدنا محمّدٍ وآله.
الوصيّة بأربعٍ
وعشرين خصلة
هذه
وصيّة العبد الضّعيف، كاتب الأحرف، محمّد بن مكّي، تاب الله عليه توبةً نصوحاً،
وكان عن هفواته وزلّاته صفوحاً، إلى إخوانه في الله وأحبّائه لله، بدءاً بنفسه ثمّ
بهم، وهي مشتملة على أمور:
أوّلها: تقوى الله فيما تأتون وتذرون، ومراقبته ومخافته والحياء
منه في الخلوات.
وثانيها: ذكره بالقلب على كلّ حال "..".
وثالثها: التّوكّل عليه وتفويض الأمور إليه، والإلجاء عند كلّ
مهمٍّ إليه.
ورابعها: التّمسّك بشرائع الدّين، فلا يخرج عنها شعرة لئلّا تحصل
الضّلالة.
وخامسها: المباشرة على الفرائض من الأفعال والتّروك بحسب ما جاءت
به الشّريعة المطهّرة.
وسادسها: الاستكثار من النّوافل بحسب الجهد والطّاقة، والفراغ
والصّحّة، وخصوصاً الصّلوات المندوبة فإنّها خيرُ موضوع، وما يقرّب العبد إلى الله
تعالى بعد المعرفة بأفضل منها، وخصوصاً الليليّة منها.
وسابعها: كفّ اللسان عن الهذر والغيبة والتّهمة واللّغو، وكفّ
السّمع عن اللّغو وعن سماع كلّ ما لا فائدة فيه دينيّة أو دنيويّة، وكفّ الأعضاء
عن جميع ما يكره الله تعالى منه.
وثامنها: الزّهد في الدّنيا بالمرّة، والاقتصار في البُلغة منها،
والقوتُ من حلِّه.. ومهما أمكن الاستغناء عن النّاس فليفعل، فإنّ الحاجة إليهم
الذلُّ الحاضر.
وتاسعها: دوام ذكر الموت والاستعداد لنزوله، وليكن من كلّ يوم
عشرين مرّة حين [حتّى] يصير نصبَ العين.
وعاشرها: محاسبة النّفس عند الصّباح والمساء على ما سلفَ منها،
فإنْ كان خيراً استكثِر منه، وإنْ كان شرّاً ارجع عنه.
وحادي عشرها: دوام الاستغفار بالقلب واللّسان، وصورته: (اللّهُمّ اغْفِرْ، فَإنِّي أَسْتَغْفِرُكَ
وَأَتُوبُ إِلَيْكَ)، ومن وصيّة لقمان لابنه أن يكثِر من: (اللّهُمّ اغْفِرْ لِي)،
فإنّ لله أوقاتاً لا يردّ فيها سائلاً.
وثاني عشرها: الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر مهما استطاع على ما هو
مرتَّبٌ شرعاً.
وثالث عشرها: مساعدة الإخوان والتّعرّض لحوائجهم بحسب الحاجة، وخصوصاً
الذرّيّة العلويّة والسّلالة الفاطميّة.
ورابع عشرها: التّعظيم لأمر الله تعالى والتّعظيم لعلماء الدّين وأهل
التّقوى من المؤمنين.
وخامس عشرها: الرّضا بالواقع، وأن لا يتمنّى ما لا يدري أهو خيرٌ خيرُه
أو لا، ودوام الشّكر على كلّ حال.
وسادس عشرها: الصّبر في المواطن، فإنّه رأس الإيمان.
وسابع عشرها: دوام الدّعاء بتعجيل الفرج فإنّه من مهمّات الدّين.
وثامن عشرها: دوام دراسة العلم مطالعةً وقراءةً وتدريساً ".."
ولا تأخذه فيه لومةُ لائم.
وتاسع عشرها: الإخلاص في الأعمال، فإنّه لا يُقبل إلّا ما كان خالصاً
صافياً من الرّياء في العبادة، نعوذ بالله منه.
وعشرونها: صِلة الأرحام، ولو بالسّلام إن لم يكن غيره.
وحادي عشرينها: زيارة الإخوان في الله تعالى، ومذاكرتهم في أمور الآخرة.
وثاني عشرينها: أن لا تدع وقتاً يمضي بغير فائدة دينيّة أو دنيويّة.
وثالث عشرينها: ... أن لا يُكثروا التّشديد على أنفسهم في التّكليف، بل يكون
بين ذلك قواماً.
ورابع عشرينها: معاشرةُ النّاس بما يعرفون، والإعراض عمّا يُنكرون، وحُسن
الخُلق وكَظْمُ الغيظ، والتّواضع لهم، وسؤال الله تعالى أن يصلحَهم ويصلحَ لهم.
وملاك
هذه الأمور كلّها تقوى الله ودوام مراقبته، والسّلام عليكم جميعاً، والحمد لله
وحده، وصلّى الله على محمّدٍ وآله أجمعين.