الشهيد
الثاني مُتحدّثاً عن رحَلاته الشخصيّة والعلميّة
برزتْ إليَّ الإشاراتُ الربّانيّة بالسفر إلى
جهة الروم
_____ إعداد: أسرة التحرير _____
من يقرأ السيرة العلميّة
والذاتيّة للعالم الربّانيّ الكبير الشيخ زين الدين بن عليّ الجبعيّ العامليّ
المعروف بالشّهيد الثّاني (911-965 للهجرة) يأخذه
فضول التعرّف أكثر إلى هذه الشخصيّة الفذّة التي أَثْرَتْ علوم الإسلام ومعارف
الإماميّة بما قدّمته في حياتها الشّريفة.
تستهلّ «شعائر» في هذا
العدد تقديم سيرته الذّاتيّة التي دوّنها، رضون الله عليه، على شكل رسائل
ومذكّرات، على صورة حوار افتراضيّ مع جناب الشّيخ قدّس سرّه.
س: هلّا
تكرّمتم علينا بلمحة عن سيرتكم العلميّة، التي بدأت على ما نعلم من صِلتكم بكتاب
الله العزيز حيث خَتمتموه ولكم من العمر تسع سنين؟
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة على أشرف المرسلين، وآله الطاهرين وأصحابه
المنتجبين.
هذه جملة من أحوالي
وتصرّف الزمان بي في عمري وتاريخ بعض المُهمّات التي اتّفقت لي.
كان مولدي في يوم الثلاثاء
ثالث عشر شهر شوّال، سنة إحدى عشرة وتسعمائة من الهجرة النبويّة.
ولا أحفظ مبدأ اشتغالي
بالتعلُّم؛ لكن كان خَتْمي كتابَ الله العزيز سنة عشرين وتسعمائة من الهجرة
النبويّة، وسنّي إذ ذاك تسع سنين، واشتغلتُ بعده بقِراءة الفنون العربيّة والفقه
على الوالد قدّس الله سرّه، إلى أنْ تُوفّيَ في العشر الأواسط من شهر رجب، يوم الخميس
سنةَ خمسٍ وعشرين وتسعمائة.
وكان من جملة ما قرأتُه
عليه من كتب: (الفقه النافع)، (مختصر الشرائع)، و(اللُّمعة الدمشقيّة).
ثمّ ارتحلتُ في تلك
السنة مهاجراً في طلب العلم إلى مَيْس [قرية في جنوب لبنان]،
وكان ابتداء الانتقال في شهر شوّال من السنة المذكورة، واشتغلتُ على شيخنا الجليل
الشيخ عليّ بن عبد العالي، قدّس الله سرّه، من تلك السنة إلى أواخر سنةِ ثلاث
وثلاثين وتسعمائة، وكان من جملة ما قرأتُه عليه (شرائع الإسلام)، و(الإرشاد)،
وأكثر (القواعد).
ثمّ ارتحلتُ في شهر ذي
الحجّة إلى كركِ نوح عليه السّلام [قرية قرب بعلبكّ]،
وقرأتُ بها على المرحوم المقدّس السيّد حسن ابن السيّد جعفر [جملةً] من الفنون، وكان ممّا قرأتُه عليه (قواعد) ميثم
البحرانيّ في الكلام، و(التهذيب في أُصول الفقه)، و(العمدة الجليّة في الأُصول
الفقهيّة) من مصنّفات السيّد المذكور، و(الكافية) في النحو، وسمعتُ جملةً من الفقه
وغيره من الفنون.
ثمّ انتقلتُ إلى جُبَع
وطني الأوّل زمنَ الوالد في شهر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين، وأقمتُ بها
مشتغلاً بمطالعة العلم والمذاكرة إلى سنة 937.
س: كانت
رحلتكم إلى دمشق الشام وإقامتكم في ربوعها محطّة مُهمّة على ما تذكرون في أكثر من
مناسبة، كيف تُحدّثنا عن هذه المحطّة؟
ارتحلتُ إلى دِمَشق
واشتغلتُ بها على الشّيخ الفاضل المحقّق الفيلسوف شمس الدين محمّد بن مكّيّ [غير الشهيد الأوّل]،
فقرأتُ عليه من كتب الطبّ (شرح الموجز النفيسيّ)، و(غايةُ القَصد في معرفة الفَصد)
من مصنّفات الشيخ المبرور المذكور، و(فصول) الفرغانيّ في الهيئة، وبعض (حكمة
الإشراق) للسهرورديّ، وقرأتُ في تلك المدّة بها على المرحوم الشيخ أحمد بن جابر (الشاطبيّة)
في علم القراءات، وقرأتُ عليه القرآنَ بقراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وعاصم.
ثمّ رجعتُ إلى جُبَع سنة
938، وبها تُوفّي شيخنا الشيخ شمس الدين المذكور، وشيخنا المتقدّم الأعلى الشيخ
عليّ في شهرٍ واحد، وهو شهر جمادى الأُولى، وكانت وفاة شيخنا السيّد حسن، رحمه
الله، سادس شهر رمضان سنة 933، وأقمتُ بالبلدة المذكورة إلى تمام سنة 941.
س: من
دمشق الشام كانت رحلتكم التالية إلى مصر. ما الذي تُفيدونا به لو سمحتم حول هذه
الرحلة؟
رحلتُ إلى مصر في أوّل
سنة 942 لتحصيل ما أمكنَ من العلوم، واجتمعتُ في تلك الرّحلة بجماعةٍ كثيرةٍ من
الأفاضل، فأوّل اجتماعي بالشيخ شمس الدين ابن طولون الدمشقيّ الحنفيّ، وقرأتُ عليه
جملةً من الصحيحَيْن، وأجازني روايتَهما مع ما يجوز له روايته، في شهر ربيع الأوّل
من السنة المذكورة.
وكان وصولي إلى مصر يوم
الجمعة منتصف شهر ربيع الآخر من السنة المتقدّمة، واشتغلتُ بها على جماعةٍ :
منهم: الشيخ شهاب الدين
أحمد الرمليّ الشافعيّ، قرأتُ عليه (منهاج النوويّ) في الفقه وأكثر (مختصر الأُصول)
لابن الحاجب، و(شرح العَضُديّ) مع مطالعة حواشيه، منها: السعديّة والشريفيّة.
وسمعتُ عليه كتباً كثيرةً في الفنون العربيّة والعقليّة.
وسمعت بالبلد المذكور،
أي مصر، من جملة متكثّرة من المشايخ يطول الخطبُ بتفصيلهم؛ منهم: الشيخ عُمَيْرة، والشيخ شهاب الدّين
بن عبد الحقّ، والشيخ شهاب الدين البلقينيّ، والشيخ شمس الدين الديروطيّ وغيرهم.
ثمّ ارتحلتُ من مصر إلى الحجاز الشريف سابعَ عَشَرَ من شهر شوّال سنة 943.
ورجعتُ إلى وطني الأوّل
بعد قضاء الواجب من الحجّ والعُمرة والتمتّع بزيارة النبيّ وآله وأصحابه صلوات
الله عليهم. ووصلتُ رابعَ عشر من شهر صفر سنة 944، وأَقمتُ بها إلى سنة ستّ
وأربعين.
س: ماذا
أيضاً عن سفركم إلى العراق وإسطنبول، لقد قيل الكثير عمّا شهدتموه من أحداث وما
وقفتم عليه من معارف في هذين البلدَين؟
سافرت إلى العراق لزيارة
الأئمّة عليهم السلام، وكان خروجي سابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 946، ورجوعي
خامسَ عَشَرَ من شهر شعبان منها. وسافرتُ لزيارة بيت المقدس منتصف ذي الحجّة سنة
948، واجتمعتُ في تلك الرحلة بالشيخ شمس الدين بن أبي اللطف المقدسيّ، وقرأتُ عليه
بعضَ (صحيح البخاريّ)، وبعض (صحيح مسلم)، وأجازني إجازةً عامّةً.
ثمّ رجعتُ إلى الوطن
الأوّل المُتقدّم وأَقمتُ به إلى أواخر سنة إحدى وخمسين مُشتَغِلاً بمطالعة العلم
ومذاكرته مستفرغاً وُسْعِي في ذلك.
ثمّ بَرَزَتْ إِليّ
الأوامرُ الإلهيّة والإشاراتُ الربّانيّة بالسفر إلى جهة الروم، والاجتماع بمَن
فيها من أهل الفضائل والعلوم، والتعلُّق بسلطان الوقت والزمان السلطان سليمان بن
عثمان، وكان ذلك على خلاف مقتضى الطبع ومَساق الفهم، لكن ما قُدّرَ لا تصل إليه
الفكرةُ الكَليلة والمعرفةُ القليلة من أسرار الحقائق وأحوال العواقب، والكَيّسُ
الماهر هو المُستَسْلِمُ في قبضة العالم الخبير القاهر، الممتثلُ لأوامره الشريفة،
المنقادُ إلى طاعته المنيفة.
كيف لا؟ وإنّما يأمر
بمصلحةٍ تعود على المأمور مع اطّلاعه على دقائق عواقب الأُمور، وهو الجواد المطلق
والرحيم المحقّق، والحمد لله على إنعامه وإحسانه وامتنانه، والحمد لله الذي لا
يَنْسى مَن ذَكَرَه، ولا يُهْمِلُ مَن غفل عنه، ولا يُؤاخِذُ مَن صَدَف عن طاعته،
بل يَقُوده إلى مصلحته ويُوصِلُه إلى بُغْيَته.
وكان الخروج إلى السفر
المذكور بعد بوادر الأوامر به والنواهي عن تركه، والتخلُّف عنه وتأخيره إلى آخر
ثاني عشر من شهر ذي الحجّة الحرام سنة 951، وأقمتُ بمدينة دمشق بقيّة الشهر، ثمّ
ارتحلتُ إلى حَلَب، ووصلت إليها يوم الأحد سادس عشر من شهر المحرّم سنة 952،
وأقمتُ بها إلى السابع من شهر صفر من السنة المذكورة.
ومن غريب ما اتّفق لنا
بحلب أنّا أزْمَعْنا عند الدخول إليها على تخفيف الإقامة بها بكلّ ما أمكن ولم
نَنْوِ الإقامة، فخرجت قافلة إلى الروم على الطريق المعهود المارّ بمدينة أَذَنَة،
فاستخرنا الله على مرافقتها فلم يُخِرْ لنا، فكان قد تهيّأ بعض طلبة العلم من أهل
الروم إلى السفر على طريق طوقات، وهو طريق غير مسلوك غالباً لقاصد قسطنطنيّة،
وذكروا أنّه قد تهيّأتْ قافلة للسفر على الطريق المذكور، فاستخرنا الله تعالى على
السفر معهم فأخار به، فتأخّر سفرهم وساءنا ذلك، فتفأَّلْتُ بكتاب الله تعالى على
الصبر وانتظارهم، فظهر قوله تعالى: ﴿واصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ والْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَه ولا تَعْدُ عَيْناكَ
عَنْهُمْ..﴾ الكهف:28،
فاطمأنّتِ النفسُ لذلك.
وخرجت قافلة أُخرى من
طريق أذنة، وأشار الأصحاب برفقتهم، لما يظهر من مناسبتهم، فاستخرتُ الله تعالى على
صُحبتهم، فلم يظهر خيرة، وتفأَّلْتُ بكتاب الله تعالى على انتظار الرُّفْقة
الأُولى وإنْ تأخّروا كثيراً، فظهر قوله تعالى: ﴿ومَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَه..﴾ إلى قوله تعالى: ﴿..فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ الله..﴾ الأنفال:16.
ثمّ خرجت قافلة أُخرى
على طريق أَذنة، فاستخرتُ الله تعالى على الخروج معها فلم يظهر خيرة، فَضِقتُ لذلك
ذَرْعاً، وسَئِمْتُ الإقامةَ وتفأَّلتُ بكتاب الله تعالى في ذلك، فظهر قوله تعالى:
﴿واتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ واصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ الله وهُوَ خَيْرُ
الْحاكِمِينَ﴾ يونس:109.
ثمّ خرجت قافلة رابعة
على الطريق المذكور، فاستخرت الله تعالى على رفقتها فلم يظهر خيرة، وكانت القافلة
التي أُمِرنا بالسفر معها تُسَوّفنا بالسفر يوماً وتكذب كثيراً في إخبارنا، ففتحتُ
المصحف صبيحة يوم السبت وتفأَّلتُ به، فظهر قوله تعالى ﴿..وتَتَلَقَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾ الأنبياء:103،
فتعجّبنا من ذلك غايةَ العجب، وقلنا: إن كانت القافلة تسافر في هذا اليوم، فهو من
أعجب الأُمور وأغربها وأتمّ البشائر بالخير والتوفيق، فأرسلنا بعض أصحابنا يستعلم
الخبر، فقالوا له: اذهب إلى أصحابك وحَمّلوا ففي هذا اليوم نخرج، فحمدنا الله
تعالى على هذه النِّعَمِ العظيمة والمِنَن الجسيمة التي لا نَقْدِرُ على شكرها.
ثمّ بعد ذلك ظهرت
لإقامتنا بحلب تلك المدّة فوائدُ وأسرار لا يمكن حصرها، وظهرتْ لسفرنا على الطريق
المذكور أيضاً فوائدُ وأسرار وخيرات لا تُحصى، وأقلّها أنّه بعد ذلك بَلَغَنا ممّن
سافر على تلك الطريق التي نُهِينا عنها أنّ عليقَ الدوابّ [أي علف الدوابّ]
وزادَ الناس كان في غاية القلَّة والصعوبة، والغلاء العظيم، حتّى أنّهم كانوا
يشترون العليقة الواحدة بعشرة دراهم عثمانيّة، واحتاجوا مع ذلك إلى حمل الزاد
أيّام؛ لعدم وجوده في الطريق لا للدوابّ ولا للإنسان، فلو نسافر في تلك الطريق
لاتّجَه علينا ضررٌ عظيمٌ لا يُوصَف، بل لا يَفِي جميع ما كان بيدنا من المال
بالصرف في الطريق، خاصّة لكثرة ما معنا من الدوابّ والأتباع، وكانت العليقة في
طريقنا أكثر الأوقات بدرهم واحد عثمانيّ، وأقلّ، إلى أن وَصَلْنا، ولم نفتقر إلى
حمل شيء، بل جميع طريقنا تمرّ على البلاد العامرة والخيرات الوافرة، فالحمد لله
على نِعَمه الغامرة.