(أنوار الملكوت في شرح الياقوت) للعلّامة الحلّيّ
مطارحات نادرة في
علم الكلام الإلهيّ
ـــــــــــــــــــــــــ قراءة: محمود ابراهيم
ـــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: أنوار الملكوت في شرح الياقوت
المؤلّف: العلّامة الحلّيّ، جمال الدين، أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهّر الأسديّ (648 – 726
للهجرة)
تحقيق: علي أكبر ضيائي
يُعدُّ
كتاب (أنوار الملكوت في شرح الياقوت) للعلّامة جمال الدين الحسن بن يوسف بن عليّ
بن المطهّر الحلّيّ، أحد أبرز العناوين التي شهدتها إبداعات المدرسة الإماميّة في
خلال القرن السابع الهجريّ. وإذا كانت هذه هي منزلة الكتاب، فمنزلة مؤلّفه كواحدٍ من أبرز فقهاء ومتكلّمي الشيعة في عصره، تفترض للحديث
عنها منفسحاً معرفيّاً مخصوصاً. ذلك بأنّ المكانة التي تبوّأها في المعارف الإلهيّة
وعلوم الفقه والأصول والمنطق والفلسفة جعلته مرجعاً مُؤسّساً لتلك المعارف والعلوم
من دون منازع. إلى هذا فقد كانت له مزاياه
المفردة في المنهج الذي كان يقارب فيه قضاياه. ففي علم الفقه كان منهجه معتمداً
على أسلوب التتبّع والاستقراء والمقارنة. وفي الفلسفة اعتمد المنهج العقليّ الصارم
على قاعدة فهم الأشياء كما هي في الواقع، مُعتمداً على الأدلّة والبراهين العقليّة.
أمّا في علم المنطق، فقد فعل الشيء نفسه حيث كان منطقيّاً في مقاربة علم المنطق،
وهو الأمر الذي مكّنه من اجتياز أكثر المسائل استعصاءً على الفهم والإدراك.
كتب
العلّامة الحلّيّ ما يصعب حصره من المؤلّفات. غير أنّ ما وصل إلينا منها، وهو المُتداول
في المكتبة الإسلاميّة، يقارب الخمسين سِفْرَاً بين كتاب ورسالة. لكنّ أكثر ما
عرفه جمهور القرّاء منها، هو حصراً ما يتعلّق بالفقه وعلوم أصول الدين. أما ما اتّصل
بعلم الكلام والفلسفة فغالباً ما اقتصرت معرفته على نُخب محدودة من كبار العلماء،
وخصوصاً ممّن كان لهم بالعلّامة روابط تلمذة أو صداقة.
مردّ
الاهتمام بعلوم الفقه والأصول في المدرسة الإماميّة لم يكن من قبيل إهمال علوم إنسانيّة
كعلوم الحكمة والفلسفة والعرفان، بقدر ما يدلّ على تقدير الأولويّات. وهذا أمر
تشهد عليه مؤلّفات أكابر العلماء المؤسّسين لمعارف الإماميّة، كالطوسيّ والمفيد
والمجلسيّ والكلينيّ وابن طاووس وسواهم، إلى أمثالهم من العلماء والفقهاء العارفين
المتأخّرين على امتداد القرون الهجريّة المتعاقبة. وهي مؤلّفات ركّزت على العقائد
والفقه في مواجهة أزمنة شهدت الإعراض عن مكارم الأخلاق وثقافة الوحي على امتداد
العصرين الأمويّ والعبّاسيّ.
أنوار الشرح
تجدر
الإشارة، إلى السِّمَة التخصصيّة لهذا العمل الذي أشرقت فيه شمس المعرفة على قلب
العلّامة الحلّيّ في ميدان الكلام والإلهيّات. و(أنوار الملكوت في شرح الياقوت)، هو
في الواقع شرح لكتاب (الياقوت في علم الكلام) لأبي إسحاق إبراهيم بن نوبخت. وهذا
الكتاب على ما نعلم من أقدم الكتب الكلاميّة في خزائن المدرسة الإماميّة، وقد طبع
سنة 1413 للهجرة في قمّ المقدّسة، كما طبع فيما بعد كتاب (إشراق اللاهوت في نقد
شرح الياقوت) - وهو شرح كتاب أنوار الملكوت – أيضاً سنة 1423 للهجرة.
وحسب
السيّد عميد الدين ابن أخت العلّامة وشارح (أنوار الملكوت)، فإنّ هناك شروحاً أُخَرَ
كتبت على كتاب (أنوار الملكوت) ولم تصل إلينا، إلّا أنّه استفاد منها في شرحه كتابَ
(أنوار الملكوت) الذي وضعه تحت عنوان (إشراق اللاهوت في نقد شرح الياقوت). ونفهم
من بعض عباراته أنّ كتاب (أنوار الملكوت) كان متداولاً بين أيدي طلّاب العلم آنذاك،
وكان يُدرّس في حوزات الشيعة الإماميّة؛ كان عميد الدين يقول: قال الشارح، دام ظلّه،
يعني خاله العلّامة.
قال
السيّد عميد الدين في شرحه لكتاب (أنوار الملكوت): «أمّا بعد، فإنّ جماعة من إخوان
الصفا وأرباب التقى والوفاء الذين نهلوا من الفضائل العلميّة بالقدح المعلّى.. لمّا
طالعوا كتاب (أنوار الملكوت في شرح الياقوت في علم الكلام) للإمام العلّامة.. أبي
منصور الحسن بن المطهّر أدام الله فضائله وأيّامه، وأسبغ نواله وأنعامه.. وجدوه قد
اشتمل على جمل من المباحث الدقيقة، والنكت العميقة، والسؤالات الحسنة اللطيفة،
والأجوبة المُتقنة الشريفة، زيادةً على شرح ما اشتمل عليه الكتاب المذكور، وبيان
ما هو فيه مسطور، لأنّه قد مال في عبارته إلى طريق الإيجاز والاختصار، وعدّل في ألفاظه
إلى نهج المبالغة في الحذف والإضمار، بحيث صار فهم تلك المباحث من تلك العبارة مُتعذّراً،
والعلم بتلك النكات من تلك الألفاظ مُتعسّراً، سألوا مني أن أشرح ما اشتمل عليه من
المباحث والنكات..».
لا
ريب في أن القارئ سوف يفهم من هذه العبارات أنّ كتاب (أنوار الملكوت) كان متداولاً
بين الخواصّ والعوامّ في عصر العلّامة، لأنّ السيّد عميد الدين شرحه في حياة خاله
العلّامة.
نصّ مرجعيّ
ويتّضح
لنا ممّا هو مُتداول في كتب القدماء مدى أهميّة ما سطّره العلّامة الحلّيّ في
ميدان الحكم وعلم الكلام وسائر علوم وفنون الثقافة الإماميّة في عصره. ولعلّ هذا
الكتاب (أنوار الملكوت) الذي بين أيدينا كان الأكثر حضوراً واهتماماً من أكابر المُتكلّمين
والفُقهاء المسلمين. ذلك لأنّه تناول أبرز إشكاليّات علم الكلام التي تضمّنها كتاب
الياقوت للنوبختيّ. وهو ما صرّح به العلّامة الحلّيّ حين قدَّم تعليقاته عليه.
يقول
العلّامة: «وقد صنَّف شيخُنا الأقدم وأستاذنا الأعظم أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت،
قدّس الله روحه الزكيّة ونفسه العليّة، مختصراً سمّاه الياقوت، وقد احتوى من
المسائل على أشرفها وأعلاها، ومن المباحث على أجلّها وأسناها، إلّا أنّه صغير
الحجم، كثير العلم مستصعَبٌ على الفهم، في غاية الإيجاز والاختصار بحيث يعجز عن
علمه أولو الأنظار، فأحببنا أن نصنع هذا الكتاب». وبما أنّ أبا إسحاق ذَكَرَ
الآراءَ والأقوالَ دون أن يشير إلى قائليها، رفع العلّامة هذا النقص وعيّن
قائليها.
خمسة عشر مقصداً كلاميّاً
يتضمّن
(شرح الياقوت) وهو الكتاب الذي بين أيدينا، نحواً من خمس عشرة مطارحة جامعة بين
الكلام والفلسفة، فضلاً عن المقاربات الفقهيّة المستندة إلى القرآن الكريم،
والحديث الشريف، والروايات المنقولة عن أهل بيت العصمة الأطهار عليهم السلام.
أمّا
هذه المطارحات فجاء ترتيبها، حسب المؤلّف، في إطار خمسة عشر مقصداً على النحو
التالي:
المقصد
الأوّل: في النظر وما يتّصل
به.
المقصد
الثاني: في تعريف الجوهر
والعَرَض والجسم.
المقصد
الثالث: في أحكام الجواهر
والأعراض.
المقصد
الرابع: في الموجودات.
المقصد
الخامس: في إثبات الصانع
وتوحيده وأحكام صفاته.
المقصد
السادس: في استناد صفاته إلى
وجوبه تعالى.
المقصد
السابع: في العدل.
المقصد
الثامن: في الآلام والأمراض.
المقصد
التاسع: في أفعال القلوب
ونظائرها.
المقصد
العاشر: في التكليف.
المقصد
الحادي عشر: في الألطاف.
المقصد
الثاني عشر: في اعتراضات
الخصوم في التوحيد والعدل والجواب عنها.
المقصد
الثالث عشر: في الوعد
والوعيد.
المقصد
الرابع عشر: في النبوّات.
المقصد
الخامس عشر: في الإمامة.
مهما
يكن من شيء، فإنّ هذه المقاصد، وإنْ كانت أخذت مداها في مساجلات المتكلّمين
المسلمين الأوائل ومجادلاتهم، فهي تكتسبُ خصوصيّتها لدى العلّامة الحلّيّ. ذلك
بأنّها تأتي في سياق منظومته المعرفيّة الشاملة حيث تتكامل علومُ العقيدة مع
العلوم العقليّة والمنطقيّة، فضلاً عن المعارف المتّصلة بالسير والسلوك.