سيرةُ
الشهيد الثاني بقلمه
زيارتُه إلى العتبات المقدّسة، وإقامتُه في
اسطنبول
ــــــــــــــــــــــــ
إعداد: «شعائر» ــــــــــــــــــــــــ
هذا
هو القسم الثاني والأخير من سيرة الشهيد الثاني زين الدين بن علي الجُبَعي العاملي
بقلمه الشريف؛ ننشره بصيغة حوار افتراضي تتمةً لما كان نُشر في العدد 65.
وفي
ما تقدّم من سيرة الشيخ الشهيد قدّس سرّه قرأنا خبر مولده، ودراسته، وأسفاره
العلمية إلى الشام ومصر والعراق، ثمّ خروجه من جبل عامل إلى «بلاد الروم امتثالاً
للأوامر الإلهية»، وانتهينا إلى وصوله إلى مدينة حلب، ومن ثمّ مغادرتها قاصداً
القسطنطينة (اسطنبول)، عن طريق مدينة طوقات.
تجدر
الإشارة إلى أنّ الشهيد الثاني دوّن هذه الترجمة بعد العام 960 للهجرة، كما يلوح
من بعض فقراتها، وأنّ ما وصلنا منها ناقص كما يُفهم من كلام تلميذه ابن العودي، ففي
آخر فقرة منها حديثه رضوان الله عليه عن اشتغاله بالتدريس والتصنيف في بلدته جباع
سنة 955 للهجرة، أي قبل عشر سنوات من شهادته قدّس سرّه.
س: ما هي
الحواضر التي مررتم بها في طريقكم من حلب إلى القسطنطينة؟
مررنا بمدينة طوقات، وكان
وصولنا إليها صبيحة يوم الجمعة (12 صفر)،
ونزلنا بعمارة السلطان بايزيد، وهي مدينة كثيرةُ الخيرات، عامرة آهِلَة، يُجلبُ
إليها ومنها أكثرُ الأمتعة والأرزاق، كثيرة المياه، والجبالُ محيطة بها من كلّ
جانب، ويليها إلى الشمال وادٍ طويل متّسِع فيه نهر كبير جدّاً، يشتمل هذا الوادي
على ما قيل على نحو أربعمائة قرية، شاهَدْنا كثيراً منها ومرَرْنا فيه يومين بعد
خروجنا من طوقات.
وكان خروجنا من طوقات
يوم الأحد عند الظهر، ووصلنا يوم الأربعاء إلى مدينة أماسية [مدينة
تركية تقع شمال شرقي أنْقَرة]،
وبها أيضاً عمارة السلطان بايزيد، في بقعة متّسعة جدّاً حسنة تشتمل على مطابخ
عظيمة وصدقات وافرة لكلّ وارد، وفيها مدرسة عظيمة حسنة. وحاكم المدينة مع باقي تلك
الجهات يومئذٍ السلطانُ مصطفى ابن السلطان سليمان.
وهذا السلطان مصطفى قتله
أبوه؛ خوفاً على المُلك في سنة ستّين وتسعمائة، وهي السنة التي خرج فيها إلى حرب
الفرس وكان قتلَه، وفيها كان موت ولده آخر الزمان [جهانكير]
بحلب. وقيل: إنّ أباه قتله أيضاً.
وأقمنا بهذه المدينة
ستّة عشر يوماً، ثمّ توجّهنا منها نحو قسطنطينة.
س: متى
وصلتم إلى قسطنطينة، وما أبرز الوقائع التي جرت لكم فيها؟
كان وصولنا إلى مدينة قسطنطينة
يوم الاثنين سابعَ عَشَرَ شهر ربيع الأوّل من السنة السابقة - وهي سنة 952 - ووفّق
الله تعالى لنا منزلاً حسناً رَفَقاً من أحسن مساكن البلد، قريباً إلى جميع
أغراضنا.
وبقيتُ بعد وصولي
ثمانيةَ عشر يوماً لا أجتمع بأحد من الأعيان، ثمّ اقتضى الحال أن كتبتُ في هذه
الأيّام رسالة جيّدة تشتمل على عَشَرَةِ مباحثَ جليلة، كلّ بحث في فنٍ من الفنون
العقليّة والفقهيّة والتفسير وغيرها، وأوصلتُها إلى قاضي العسكر، وهو محمّد بن قطب
الدين بن محمّد بن محمَّد بن قاضي زاده الرومي، وهو رجل فاضل أديب عاقل لبيب، من
أحسن الناس خُلُقاً وتهذيباً وأَدباً، فوقعتْ منه موقعاً حسناً وحصل لي بسبب ذلك
منه حظٌّ عظيم، وأَكْثَرَ من تعريفي والثناء عَلَيّ للأفاضل، واتّفق في خلال
المدّة بيني وبينه مباحثة في مسائل كثيرة من الحقائق.
وفي اليوم الثاني عشر من
اجتماعي به أرسل إليّ الدفترَ المشتمل على الوظائف والمدارس، وبذلَ لي ما اختاره
وأكَّدَ في كون ذلك في الشام أو حلب، فاقتضى الحالُ أن اخترتُ منه «المدرسة
النورية» ببعلبك؛ لمصالحَ وجدتُها، ولظهور أمر الله تعالى بها على الخصوص، فأعرضَ
لي بها إلى السلطان سليمان [أي كتب لي عرضاً، وهو الطلب
الذي يكتب إلى السلطان والأمير]، وكتب لي بها براءة،
وجعل لي لكلّ شهرٍ ما شرطَه واقِفُها السلطان نور الدين الشهيد.
ومن غريب ما اتفق لي من
نِعم الله تعالى وفضله وكرمه وجوده زمانَ إقامتي بمدينة قسطنطينة أنْ خرجتُ يوماً
مع الأصحاب، وكان ذلك اليوم في شهر جمادى الأُولى، لزيارة مشهد شريف هناك يسمّونه
أبا أيّوب الأنصاريّ الصحابيّ، قد بنى عليه السلطان محمّد مشهداً خارج البلد،
فلمّا كنتُ في المشهد فخلوتُ وقرأتُ جزءاً من القرآن، وأخذتُ المصحفَ وتفأَّلْتُ
به أنْ يَكْشِفَ لي عن حالِ حَمْلٍ كنتُ قد فارقتُه بالزوجة قبل سفري، وميعادُ
ولادته أوائل شهر جمادى المذكور، فظهر لي في أوّل الفاتحة ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ
حَلِيمٍ﴾، فسجدتُ لله شكراً ورجوتُ من الله تعالى أنْ يُحَقّقَ لي ذلك، وأنْ يكونَ
قد رزقني ولداً ذكراً مباركاً ميموناً حميدَ العاقبة، فكتبتُ صورة الفأل والتاريخ
في تلك الساعة في رقعة، واستمرّ الحال إلى أن خرجتُ من المدينة المذكورة إلى مدينة
أُسْكُدار [أُسكدار أو شقودر: أقدم وأوسع أحياء اسطنبول]
وهي قريبة منها، بينها وبينها قطعة يسيرة من البحر مسيرها نحو ميل، فجاءني وأنا
مقيمٌ بها في يوم الثلاثاء تاسع عشر شهر رجب من السنة المذكورة كُتُب من أصحابنا
بالبلاد، في بعضها بشارة بولدٍ ذَكَرٍ وُلِدَ في المدّة المذكورة.
س: ما
مدّة إقامتكم في القسطنطينة، وإلى أين غادرتموها؟
كانت مدّة إقامتي بمدينة
قسطنطينية ثلاثة أشهر ونصفاً. وخرجتُ منها يوم السبت، حادي عشر شهر رجب في السنة
المذكورة، وعبرتُ البحر إلى مدينة أُسْكُدار، وهي مدينة حسنة جيدة صحيحة الهواء
عذبة الماء مُحكَمة البناء، يتّصل بكلّ دار منها بستان حسن، يشتمل على الفواكه
الجيّدة العَطرة على شاطئ البحر، مقابِلة لمدينة قسطنطينية، بينهما البحر خاصّة.
وأَقمتُ بها أنْتظر وصول
صاحبنا الشيخ حسين بن عبد الصمد [هو والد الشيخ البهائي،
ومن أَجَلّ تلامذة الشهيد، أجازه الشهيد بإجازة كبيرة وأطراه كثيراً]؛
لأنّه احتاج إلى التأخّر عن تلك الليلة.
ومن غريب ما اتّفق لي
بها حين نزلتُ بها أنّي اجتمعت برجلٍ هنديّ، له فضل ومعرفة بفنون كثيرة منها الرمل
والنجوم، فجرى بيني وبينه كلام، فقلت له: إنّ قاضي العسكر أشارَ عَلَيّ بأن أُسافر
يوم الاثنين وخالفتُه، وجئت في هذا اليوم وهو يوم السبت؛ حذراً من نحس يوم
الاثنين، بسبب كونه ثالثَ عَشَرَ الشهر، وكان قد ذكر لي قاضي العسكر المذكور أنّ
يوم الاثنين يوم جيّد للسّفر لا يكاد يتّفق مثله بالنسبة إلى أحكام النجوم، وإنّ
سَعْدَه يَغْلِبُ نَحسه؛ بسبب كونه ثالثَ عَشَرَ.
فقال لي ذلك الرجل
الهنديّ على البديهة: صدق القاضي فيما قال، وأمّا يومُ السبْت الذي خرجتَ فيه
فإنّه يوم صالح، لكن يقتضي أنّك تُقيم في هذه البلدة أيّاماً كثيرة.
واتّفق الأمر كما قال؛
فإنّ الشيخ حسين بعد مفارقتي بَحثَ عن أمر المدرسة التي كان قد أعطاه إيّاها
القاضي ببغداد، فوجد أوقافَها قليلةً فاحتاج إلى إبدالها بغيرها، فتوقّف لأجل ذلك
إحدى وعشرين يوماً، وظهر صدقُ ذلك الفاضل الهنديّ فيما أخبر به على البديهة.
ثمّ اتّفق لي أنْ رقمتُ
له شَكْلاً رَمْليّاً وطلبتُ البحثَ عنه، ففكَّر فيه ساعة، ثمّ أظهر لي منه
أُموراً عجيبةً كلّها رأيتُها موافِقةً للواقع بحسب حالي.
وكان ممّا أخرجه من بيت
العاقبة أنّها في غاية الجَوْدة والخير والتوفيق، فالحمد لله على ذلك.
ومن بيت السفر أنّ هذه
سفرة صالِحة حميدة جدّاً، والعَوْدَ فيها سعيدٌ صالح، لكن فيه طولٌ خارجٌ عن
المعتاد بالنسبة إلى العود إلى الوطن. وكان الأمر في الباطن على ما ذكر؛ لأنّي
كنتُ قد عَزَمْتُ على التوجّه إلى العراق لتقبيل العتبات الشريفة في طريق العود
ثمّ أرجع منها إلى الوطن، وذلك بعد تأكَّد الأمر الإلهي لنا بذلك ونُهينا عن تركه [يريد
الاستخارة].
وكان خروجنا من
أُسْكُدار متوجّهينَ إلى العراق يوم السبت لليلتَين خَلَتا من شهر شعبان، ووصلنا
إلى مدينة سِيواس يوم الاثنين لخمسٍ بَقِين من شعبان، وخرجنا منها يوم الأحد ثاني
شهر رمضان متوجّهين إلى العراق... وخرجنا في حال نزول الثلج، وبِتْنا ليلةَ
الاثنين أيضاً على الثلج وكانت ليلةً عظيمةَ البرد.
في رحاب العتبات المقدّسة
وانتهينا بعد أربعة
أيّام من اليوم المذكور [الثاني من شهر رمضان] إلى
مدينة مَلَطْيَة [بلدة تركيّة تتاخم سوريا]،
وهي مدينة لطيفة كثيرة الفواكه، تقربُ من أصل منبع الفرات، ومررنا بعد ذلك بمدينة
لطيفة تسمّى أزغين، وهي قريبة من منبع دجلة.
وكان وصولنا إلى المشهد
المقدّس المبرور المشرّف بالعسكريّين بمدينة سامرّاء يوم الأربعاء رابع شهر شوّال،
وأَقَمنا به ليلة الخميس ويومَه، وليلةَ الجمعة.
ثمّ توجّهنا إلى بغداد
ووصلنا إلى المشهد المقدّس الكاظمي يوم الأحد ثامن الشهر، وأَقمنا به إلى يوم
الجمعة، وتوجّهنا ذلك اليوم لزيارة وليّ الله تعالى سلمان الفارسيّ وحذيفة بن
اليمان رضي الله عنهما [في المدائن].
س: متى
انتقلتم إلى كربلاء المقدّسة وزيارة مولانا سيّد الشهداء عليه السلام؟
رَحَلْنا من [المدائن]
إلى مشهد الحسين عليه السلام، ووَصلْنا يومَ الأحد مُنْتَصف الشهر المذكور،
وأَقمْنا به إلى يوم الجمعة.
وتوجّهنا منه إلى الحلَّة
وأقمنا بها إلى يوم الجمعة، وتوجّهنا منها إلى زيارة القاسم [أحد
أبناء الإمام الكاظم عليه السلام، مزاره قريب من الحلّة]
ثمّ إلى الكوفة، ومنها إلى المشهد المقدّس الغَرَويّ، ووصلنا إليه يوم الأربعاء
ثالثَ شهر ذي القعدة الحرام وأقمنا به بقية الشهر.
واتّفق لنا من فضل الله
تعالى وكرمه ورأفته وعنايته من التوفيقات الإلهيّة والخيرات الربّانية والتأييدات
السبحانية والنعمة الشاملة والرحمة الواصلة ما لا يقتضي الحال ذكره، ومُفيضُه
سبحانه أعلمُ به.
ونسأل من فضله العميم
وكرمه الجسيم أنْ يُمِدّنا بفضله، ويجودَ علينا بستره وكفايته كما عَوّدنا ذلك
فيما سلف، وأنْ يَعْصِمَنا فيما بقي من كلّ ما يخالف رضاه ويُبْعِدُ عن جواره،
ويَحْرسَنا بعين عنايته.
وقد أظهر الله سبحانه
لجماعة من الصالحين بالمشهدَيْنِ وغيرهما آياتٍ باهرة ومناماتٍ صالحةً وأسراراً
خَفِيّة أَوجبت كمال الإقبال وبلوغ الآمال، فله الحمد والمنّة على كلّ حال.
وممّا اتّفق لي أنّي
كنتُ جالساً عند رأس الضريح المقدّس ليلةَ الجمعة، وقرأتُ شيئاً من القرآن
وتوجّهتُ ودعوتُ الله أنْ يُخْرِجَ لي ما أخْتَبِرُ به عاقبةَ أمري بعد هذه السفرة
مع الأعداء والحسّاد وغيرهم، فظهر في أوّل الصفحة اليمنى: ﴿فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا
خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ فسجدتُ
لله شكراً على هذه النِّعمة والتفضّلِ بهذه البشارة السنِيّة.
وكان خروجنا من المشاهد
الشريفة بعد أنْ أَدْرَكْنا زيارة عَرَفةَ بالمشهد الحائريّ، والغديرَ بالمشهد
الغَرويّ، والمباهلة بالمشهد الكاظميّ.... ولم يتّفقْ لنا الإقامةُ لإدراك زيارة
عاشوراء مع قرب المدّة؛ لعوارضَ وقواطعَ مَنَعَتْ من ذلك، والحمد لله على كلّ حال.
واتّفَق وصولُنا إلى
البلاد [جبل عامل]
مُنْتَصفَ شهرِ صفر سنة 953، ووافَقه من الحروف بحساب الجُمّلِ حروفُ «خَيْرٌ
مَعَجّل»، وهو مطابق للواقع. (أحسنَ الله خاتمتَنا بخيرٍ، كما جَعَلَ بِدايتَنا
إلى خيرٍ بمنّه وكرمه).
ثمّ أقمنا ببعلبك
ودَرّسْنا فيها مدّةً في المذاهب الخمسة وكثيرٍ من الفنون، وصاحَبْنا أهلَها على
اختلاف آرائهم أحسنَ صُحبةً، وعاشَرْناهم أحسنَ عِشْرة، وكانت أيّاماً ميمونةً
وأوقاتاً بَهِجةً، ما رأى أصحابُنا في الأعصار مثلَها.
ثمّ انتقلْنا عنهم إلى
بلدنا بنيّة المفارقة؛ امتثالاً لأمرٍ إلهيّ سابقاً في المشاهد الشريفة، ولاحِقاً
في المشهد الشريف مشهدِ شيث، وأقَمْنا في بلادنا إلى سنة خمسٍ وخمسين مشتغلين
بالدرس والتصنيف.
(مختصَر)
***
إلى
هنا تنتهي سيرة الشهيد الثاني، كما دوّنها هو رضوان الله عليه، أو ما وصلنا ممّا
دوّنه، وهو – كما تقدّم – ينتهي إلى عشرة أعوامٍ بقين من حياته الشريفة. النصّ
التالي يروي خبر شهادته قدّس سرّه
كما ورد في (مستدرك وسائل الشيعة) للمحدّث الطبرسي.
الشهادة
«.. ثمّ لمّا كان في سنة
خمس وستّين بعد تسعمائة (965)،
وهو رضوان الله عليه [أي الشهيد الثاني]
في سنّ أربعٍ وخمسين، ترافع إليه رجلان؛ فحكم لأحدهما على الآخر.
فذهب المحكوم عليه إلى قاضي
صيدا واسمه (معروف)، وكان الشيخ مشغولاً بتأليف (شرح اللّمعة)، فأرسل القاضي إلى (جُبَع)
من يطلبه، وكان مقيماً في كرمٍ له مدّةً منفرداً عن البلد، متفرّغاً للتأليف، فقال
بعضُ أهل البلد: (قد سافر عنّا منذ مدّة).
فخطر ببال الشيخ أن يسافر
الحجّ، وكان قد حجّ مراراً، لكنه قصد الاختفاء، فسافر في مَحمَلٍ مغطّى.
وكتب القاضي [معروف]
إلى السلطان [العثماني]
أنّه قد وُجد ببلاد الشام رجلٌ مبتدِع خارجٌ عن المذاهب الأربعة، فأرسل السلطان سليمان
(رستم باشا) في طلب الشيخ، وقال له: (ايتني به حيّاً حتّى أجمعَ بينه وبين علماء بلادي
فيبحثوا معه ويطّلعوا على مذهبه ويُخبروني فأحكم عليه بما يقتضيه مذهبي). فجاء الرجل
[رستم باشا] فأُخبر أن الشيخ
توجّه إلى مكّة المشرّفة، فذهب في طلبه فاجتمع به في طريق مكّة.
فقال له [الشهيد]:
(تكون معي حتّى نحجّ بيتَ الله، ثم افعل ما تريد). فرضيَ [رستم
باشا] بذلك. فلمّا فرغَ من الحجّ سافر معه إلى بلاد
الروم [تركيا]،
فلمّا وصل إليها رآه رجلٌ فسأله [أي سأل رستم باشا] عن
الشيخ، فقال: (هذا رجلٌ من علماء الشيعة، أريدُ أن أوصلَه إلى السلطان). فقال: (أَوَما
تخافُ أن يُخبر السلطان بأنّك قد قصّرتَ في خدمته وآذيتَه، وله هناك أصحابٌ يُساعدونه
فيكون سبباً لهلاكك؟ بل الرأي أن تقتله وتأخذ برأسه إلى السلطان)! فقتله في مكانٍ من
ساحل البحر، وكان هناك جماعة من التركمان، فرأوا في تلك الليلة أنواراً تنزل من السماء
وتصعد، فدفنوه هناك وبنوا عليه قبّة. وأخذ الرجل رأسه إلى السلطان، فأنكر عليه وقال:
(إني أمرتُك أن تأتيني به حيّاً فقتلتَه؟). وسعى السيد عبد الرحيم العبّاسي في قتل
ذلك الرجل فقتلَه السلطان.
وفي رواية أن القبض عليه
كان في المسجد الحرام بعد فراغه من صلاة العصر، وأخرجوه إلى بعض دُور مكّة، وبقيَ هناك
محبوساً شهراً وعشرة أيّام، ثمّ ساروا به على طريق البحر إلى قسطنطينة وقتلوه بها في
تلك السنة، وبقيَ مطروحاً ثلاثةَ أيام، ثم ألقوا جسده الشريف في البحر.
وحدّث الشيخ البهائي قال:
أخبرني والدي قدّس سرّه
أنه دخلَ في صبيحة بعض الأيّام على شيخنا الشهيد المعظّم فوجده متفكّراً، فسأله عن
سبب تفكّره. فقال: (يا أخي! أظنّ أنّ أكون ثانيَ الشهيدَين - وفي رواية: ثاني شيخنا
الشهيد في الشهادة – لأنّي رأيتُ البارحة في المنام أنّ السيّد المرتضى علم الهدى عمل
ضيافة جمعَ فيها العلماء الإماميّة بأجمعهم في بيت، فلمّا دخلتُ عليهم قام السيد المرتضى
ورحّب بي، وقال لي: (يا فلان، اجلس بجنب الشيخ الشهيد)، فجلستُ بجنبه، فلمّا استوى
بنا المجلس انتبهتُ. ومنامي هذا دليلٌ ظاهرٌ على أنّي أكون تالياً له في الشهادة».