(كتاب الغَيبة) للشيخ الطوسي
توثيقٌ مرجعيّ لحياة إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه
ـــــــــــــــــــــ قراءة: محمود إبراهيم ـــــــــــــــــــــ
الكتاب: (كتابُ الغَيبة)
المؤلف: شيخ الطائفة، أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (385 -
460 للهجرة)
الناشر: «مؤسسة المعارف الإسلامية»، قم المقدّسة 1411 للهجرة
مع (كتاب الغَيبة)
لأبي جعفر محمّد بن الحسن المشهور بالشيخ الطوسي (المتوفّى سنة 460 للهجرة) لسنا أمام مؤلّف اعتياديّ
أخرجنا ممّا يختزنه الذات الفكري الإسلامي على امتداد عشرة قرون مضت. مردّ هذا
الانطباع الإجمالي المكانةُ الاستثنائية التي يحتلّها الكتاب بين المؤلّفات الكبرى
التي أسسّت للفكر الإمامي ولعقيدة العدل المنتظر التي تشمل الإنسانية كلّها
بعنايتها ورحمانيّتها وتدبيرها.
و(كتاب الغَيبة) للشيخ
الطوسي هو من الكتب القديمة الذي يمتاز عن غيره، فإنّه قد تضمّن أقوى الحُجج
والبراهين العقلية والنقلية على وجود الإمام الثاني عشر محمّد بن الحسن صاحب
الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وعلى غَيبته في هذا العصر، ثمّ ظهوره في آخر
الزمان ليملأ الأرض قِسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً؛ ويدفع الكتاب شُبهات
المخالفين والمعاندين الذين ينكرون وجوده أو ظهوره بحيث يزول معها الريب وتنحسم
بها الشبهات.
وسنجد في هذا الكتاب
المرجعي تحقيقاً لسيرة الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وتأصيلاً
عقائدياً وكلامياً لحضوره الشريف، ما جعله مستنداً رئيساً للإمامية الاثني عشرية؛
حيث يبيّن وقائع الغَيبتين الصغرى والكبرى، والظروف التي رافقتها والأدلة النقلية
والعقلية عليهما.
ونستطيع القول إنّ ما قدّمه
الشيخ الطوسي في الكتاب هو بمنزلة سفرٍ معرفيّ في رحاب الإمام عليه السلام، مبطلاً
كلّ الأقاويل المشكّكة، ومثبتاً الحقائق الإلهية والتاريخية لإمامته في غَيبتيه
(الصغرى والكبرى)، ثم ظهوره المقدّس آخر الزمان مخلّصاً البشريّة من جاهليتها
ومظلوميّتها، ناشراً العدل واللطف في أرجائها.
موضوعات الكتاب ومضامينه
استناداً إلى ما مرّ معنا
لجهة الأهمّيّة العلمية لما ذهب إليه الشيخ الطوسي في هذا الكتاب، فإنّ الموضوعات
التي تطرّق إليها في ترتيبها ومقاصدها تشكّل هندسة معرفية عقائدية يفترض بكلّ دارس
أن يأخذ بها للتعرّف إلى سيرة
الإمام، وظروف ولادته الشريفة، ثم في الغَيبتين، وصولاً إلى الوعد الإلهي بظهوره
المقدّس.
في الفهرس سنقرأ سلسلة
متناسقة من الأدلّة على أصالة عقيدة الإمامة والمجادلات الكلامية في شأنها. ومنها
على سبيل المثال لا الحصر: (فصل الكلام في الغَيبة) وفيه يثبتُ الشيخُ الطوسي،
بالدليل العقلي وجوبَ الرئاسة والعصمة وأنّ الحقّ لا يخرج عن الأُمّة. وفي مقابل
ذلك، سنجده يجادل بأسلوب علمي، في غاية الدقّة والنباهة، معظم الفرق الإسلامية
المشكّكة، مثل الكيسانية والناووسية والواقفة وإلى سواهم من الفرق الكلامية المتأثّرة
بثقافة السلطتين الأموية والعبّاسية في ذلك الوقت.
كذلك تضمّن الكتاب، في
الفصول التي تلت، روايات أئمّة أهل البيت، عليهم السلام، والتي تبيّن للأُمّة
الوعد الإلهي المحتوم بظهور قائم آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا سيّما
ما يتعلّق بإخبارهم عليهم السلام عن غَيبته، وصفة غَيبته، وزمان غَيبته، وقيامه.
إلى ذلك فقد احتوى الكتاب
سلسلةً من الردود لا تزال تشكّل الطريق الأصوب لمجادلة المشكّكين بولادته ومعجزته
وظهوره الشريف. ولعلّ من الأهمّيّة بمكان الإشارة إلى الأسلوب الجدالي الذي اعتمده
الشيخ الطوسي منهجاً في كتابه هذا، عنينا بذلك منهج القول والردّ عليه بقول موازٍ
يدحض آراء المفترين وأوهامهم. وهو ما يفيد كلّ قارئ أو باحث بعدّة منطقية صارمة
مهما تعدّدت أو تنوّعت ظروف الزمان والمكان. وهو الأمر الذي يمكِّن الباحث المعاصر
من استخدام منهج علمي ناجز في مجمل البحوث والدراسات المعاصرة المتعلّقة بعقيدة
الإمامة وغَيبة الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وظهوره الموعود في
نهاية التاريخ.
من الكتاب إلى صاحبه
لم يكن لهذا الكتاب أن
يتبوّأ هذه المنزلة لولا أنّ صاحبه يُعدّ أحد أبرز أكابر علماء الإمامية ومحدّثيها.
فنسبه، إلى جانب علمه الوافر ومرجعيته الدينية، ناهيك عن الظرف التاريخي الذي عاش
فيه، كلّ ذلك سيبيّن لنا العروة الوثقى بين الكتاب وكاتبه.
في السيرة الذاتية التي
ذكرها المحقّقون في نسبه: إنّه الشيخ
أبو جعفر محمّد بن
الحسن بن عليّ بن الحسن الطوسي. وذلك نسبة إلى طوس
من مدن خراسان التي هي من أقدم بلاد فارس وأشهرها، وكانت طوس أو مدينة مشهد كما التسمية المعاصرة - ولا تزال حتى اليوم - من
مراكز العلم المهمّة، ومعاهد الثقافة الإسلامية، وذلك لأنّ فيها مقام الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام،
ثامن أئمّة الشيعة الاثني عشرية، وهي لذلك مهوى
أفئدتهم، يقصدونها من الأماكن الشاسعة، والبلدان النائية، ويتقاطرون إليها من كلّ حدب
وصوب للتبرّك بالعتبة المقدّسة، وهي تعدّ من أجلّ المعاهد العلمية للشيعة.
ولد الشيخ الطوسيّ في (طوس)، في شهر رمضان سنة 385
للهجرة، وهاجر إلى العراق
فنزل بغداد سنة 408 للهجرة. وهو في الثالثة
والعشرين من عمره، وكانت الزعامة للمذهب الجعفريّ يومذاك لشيخ الأمّة وعلَم الشيعة
محمّد بن محمّد بن النعمان العكبري البغدادي المعروف بالشيخ المفيد، رحمه الله، فلازمه
وتتلمذ عليه، كما أنّه أدرك شيخه الحسين بن عُبيدالله الغضائريّ المتوفّى سنة 411
للهجرة، وشارك أبا العبّاس أحمد بن علي النجاشي (صاحب كتاب الرجال المطبوع) والمتوفّى سنة 450 للهجرة، في جملة
من مشايخه، وبقي على اتصاله بشيخه المفيد حتّى توفّي شيخه ببغداد ليلة الثالث
من شهر رمضان سنة 413 للهجرة، وكان مولده في
اليوم الحادي عشر من شهر ذي القعدة سنة 336 للهجرة
.
ولما توفّي أستاذه المفيد، رحمه الله، انتقلت زعامة الدين ورئاسة المذهب
إلى أعلم تلامذته علم الهدى السيّد المرتضى أبي القاسم
علي بن الحسين الموسوي أخي الشريف الرضيّ، فانحاز الشيخ الطوسي إليه ولازمه،
وارتوى من منهله العلمي العذب، وعُني به أستاذه السيّد المرتضى، وبالغ في توجيهه أكثر من سائر تلامذته، لما شاهد
فيه من اللياقة التامّة في العلم، وعيّن له في
كلّ شهر اثني عشر ديناراً، كما ذكر ذلك السيّد
علي خان في (الدرجات الرفيعة)، وغيره من أرباب المعاجم، وبقي ملازماً له طيلة ثلاث
وعشرين سنة، حتّى توفّي أستاذه المذكور لخمس بقين من شهر ربيع الأوّل سنة 436 للهجرة. وكان
مولده في رجب سنة 355 للهجرة، وعمره ثمانون سنة
وثمانية أشهر وأيّام، وترجم له تلميذه الشيخ
الطوسيّ، رحمه الله، في (فهرست) رجاله، كما ترجم له في (كتاب رجاله).
ولما توفّي أستاذه السيّد المرتضى، رحمه الله، استقلّ الشيخ الطوسي، رحمه الله،
بالزعامة الدينية، وأصبح عَلَماً من أعلام الشيعة وزعيماً لهم. وكانت داره في كرخ
بغداد مأوى الأُمّة ومقصد الوفّاد، يأمّونها
لحلّ مشاكلهم وإيضاح مسائلهم؛ وقد قصده العلماء وأولو الفضل من كلّ حدب وصوب
للتلمذة عليه والحضور تحت منبره والارتواء من منهله العذب الفيّاض، حتّى بلغ عدد
تلامذته أكثر من ثلاثمائة من مجتهدي الشيعة، ومن
أهل السُّنّة ما لا يُحصى كثرةً، وبلغ به الأمر
من العظمة والشخصية العلمية الفذّة أنْ جعل له حاكم زمانه، القائم بأمر
الله عبدالله بن القادر بالله أحمد العبّاسي، كرسيَّ الكلام والإِفادة، وكان لهذا
الكرسيّ يومذاك عظمة وقدر فوق ما يوصف، إذ لم يسمح به إلّا لمن بلغ في العلم
المرتبة السامية، وفاق أقرانه، ولم يكن في بغداد يومذاك من يفوقه قدراً ويفضّل
عليه علماً، فإِذاً كان هو المتعيّن لهذا الشرف ولهذا الكرسيّ العلميّ.
وبعد
هجرة الشيخ الطوسي، رحمه الله، إلى النجف الأشرف انتظم الوضع الدراسي فيها، وتشكّلت
الحلقات، كما يظهر للقارئ الكريم عند مراجعته (أمالي) الشيخ الطوسي الذي كان يمليه
على تلامذته، واستمرّت (الحلقات) حتّى عصر الشيخ الجليل علي بن حمزة بن محمّد بن
شهريار خازن الحرم المطهّر وكان ذلك سنة 572 للهجرة.
مؤلَّفاته العلمية
إلى (كتاب الغَيبة) الذي يُعدُّ
من عيون مؤلّفاته، ألّف الشيخ الطوسي نحواً من سبعة وأربعين مؤلّفاً ممّا وصلت إليه
يد المحققين، وذكر ابن شهراشوب في(معالم العلماء) مؤلّفات أخرى له، وهذه المؤلّفات
منها مخطوط ومنها مطبوع، وبعضها مفقود لم تصل إليه اليد حيث إنّ كُتبه أُحرقت في
الفتنة التي وقعت في كرخ بغداد، ولعلّ بعضها فُقد لأسباب أخرى لا نعرفها.
ومن مؤلّفاته المطبوعة (كتاب
الغَيبة) وهو هذا الكتاب موضوع التعريف، وقد كتب في غَيبة الإمام الثاني عشر عليه
السلام كثر من أعلام الخاصّة والعامّة، من المتقدّمين والمتأخّرين؛ منها مخطوط ومنها
مطبوع، وقد ذكر العلّامة الكبير الشيخ آغا بزرك الطهراني الكثير من أسماء الكتب في
مؤلّفه المعروف بكتاب (الذريعة). ومن المتقدّمين الصدوق بن بابويه الذي ألّف كتاب (إكمال الدين وإتمام النعمة) (مطبوع)،
ومنهم النعمانيّ، وهو الكتاب المعروف بـ(غَيبة النعماني) (مطبوع)، والجزء الثالث
عشر من (البحار) للمجلسي، رحمه الله، وغيرها، هذا مضافاً إلى ما ذكر ضمن الكتب
المؤلّفة في الإمامة.
مهما يكن من أمر (كتاب الغَيبة)
وما قيل فيه وحوله من إطراءات أو نقود، فإنه يبقى حاضراً بموضوعه وأسلوبه ومقاصده
في أزمنتنا المعاصرة، لما لعقيدة الانتظار والخلاص المهدويّ من أهمّيّة عظمى في
اللحظة الحالية من تاريخ البشرية.