الملف

الملف

06/04/2016

علم الإمام الكاظم عليه السلام وعبادته


علم الإمام الكاظم عليه السلام وعبادته

_____ إعداد: «أسرة التحرير» _____

تشكّل مظاهر عبادة الإمام الكاظم عليه السلام لوحةً محتشدةً بصور الخضوع لله تعالى، والخشوع بين يديه عزّ وجلّ، والصلاة الدائمة، والذِّكر الكثير، لدرجة جعلت قلوب القساة من سجّانيه ترقّ له وتمتلئ من هيبته، سلام الله تعالى عليه.

كما رُويت عنه وقائع كثيرة من مناظرات ومواقف أظهرت جانباً من علمه اللّدُنّي، حتّى لقّبه والده الإمام الصادق عليه السلام بـ«مودَع الأسرار».

يسلّط هذا المقال الضوء على نماذج من عبادة الإمام عليه السلام، والمعالم العامّة للمعارف والعلوم التي عمل صلوات الله عليه، لنشرها في أوساط المسلمين.

 

فيما كان العالم الإسلامي منشغلاً بصراعات سياسية بين الأمويّين والعباسيّين، آلت فيما بعد إلى زوال حكم البيت الأمويّ وقيام الدولة العباسية، عمد الإمام الصادق عليه السلام إلى بناء صرح جامعة علميّة كبرى خرّجت أربعة آلاف من الرواة، كلٌّ يقول: «حدّثني جعفر بن محمّد». وكانت هذه الحاضنة العلمية، بحقّ وباعتراف المؤرّخين، الصرح الفكريّ الذي أحيا تعاليم القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومن أقطاب مَن تتلمذ فيها بعضٌ من أئمّة المذاهب الأربعة السائدة إلى يومنا هذا.

ولم تقتصر الدروس فيها على العلوم الشرعية من فقه وتفسير وحديث فحسب، بل تجاوزتها إلى علوم طبيعية نسمّيها اليوم الكيمياء، والفيزياء، والأحياء، وغيرها. واصل الإمام الصادق عليه السلام قيادة مدرسته حتّى نهاية حياته الشريفة، ثمّ آلت القيادة إلى ولده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، فتابع إلقاء الدروس ونشر الفكر النبويّ على تلامذته، وقد عدّ الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه (حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام) أكثر من ثلاثمائة طالب أخذ عنه العلم.

وقد شهد الإمام الصادق عليه السلام بوفرة عِلم ولده الكاظم عليه السلام، فقد قال لأحد أصحابه: «إِنَّ ابْنِي هَذا - وأشار إلى الإمام الكاظم - لَوْ سَأَلْتَهُ عَمَّا بَيْنَ دَفَّتَي المُصْحَفِ لَأَجَابَكَ فِيهِ بِعِلْمٍ».

وقال في فضله: «وَعِنْدهُ عِلْمُ الحِكْمَةِ، وَالفَهْمُ، والسَّخَاءُ، والمَعْرِفَةُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِم..».

ولمّا أجاب الكاظم عليه السلام عن بعض أسئلة أبي حنيفة، ضمّه الإمام الصادق عليه السلام إلى صدره، وقال: «بِأَبي أنتَ وأُمِّي يا مُودَعَ الأَسرار».

وقال الشيخ المفيد في (الإرشاد): «وقد روى الناس عن أبي الحسن فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه..».

وروى في (مهج الدعوات) عن بعض أهل العلم، أنّه قال: «كان جماعةٌ من خاصّة أبي الحسن عليه السلام، من أهل بيته وشيعته، يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال [جمع ميل: وهو القلم]، فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك».

وكان العصر العباسيّ الذي عاش فيه الإمام الكاظم عليه السلام، عصر اختلاط الثقافات والأمم؛ إذ أتى كلّ قومٍ بعاداتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، وكانت كلّها بحاجة إلى تنقية ما شابها من أضاليل وانحرافات، فعمد الإمام الكاظم عليه السلام إلى التركيز على أهميّة العقل؛ ومن ذلك وصيّته المعروفة لهشام بن الحكم (توفّي نحو 190 للهجرة) حول منزلة العقل في القرآن الكريم.

ورويت عنه عليه السلام مناظرات عديدة مع الفقهاء، والمتكلّمين، وروؤساء الأديان، وحكّام عصره، لا سيما مع هارون العباسي، تُظهر جميعها علمه الربانيّ والنبويّ. وكان بعض فقهاء السلطة كأبي يوسف ومحمد بن الحسن يزورونه في السجن يستفتونه، فضلاً عن إجاباته عليه السلام على أسئلة كانت ترد إليه خفاءً وهو في السجن، كأسئلة محمّد بن أبي عمير، وعليّ بن سويد.

 

حليف السجدة الطويلة

كان الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أعبدَ أهل زمانه، وأفقهَهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً. وروي أنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصِلُها بصلاة الصبح، ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من السجود والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ المَوْتِ، وَالعَفْوَ عِنْدَ الحِسَابِ»، ويكرّر ذلك.

وكان أحفظَ أهل زمانه لكتاب الله عزّ وجلّ، وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأه يحزن ويبكي السامعون بتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زينَ المجتهدين، وكان يقول: «إِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةَ آلَاف مَرَّة».

وروى الصدوق أنّه كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام - بضع عشرة سنة - كلّ يوم سجدةٌ بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال، قال: فكان هارون ربّما صعد سطحاً يُشرف منه على الحبس الذي حَبس فيه أبا الحسن عليه السلام، فكان يرى أبا الحسن عليه السلام ساجداً، فقال للربيع [حاجب هارون]: يا ربيع، ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟!

قال: ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر، له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال. قال الربيع: فقال لي هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم.

قلت: فما لك فقد ضيّقتَ عليه في الحبس؟!

قال: هيهات لا بدّ من ذلك!

وفي حديثٍ طويل عن المأمون يصف فيه الإمام الكاظم عليه السلام، ويذكر وروده على أبيه هارون بالمدينة، يقول: إذ دخل شيخٌ مُسَخَّد [مصفرّ الوجه] قد أنهكته العبادة، قد كلَم السجود وجهه وأنفه.

وبالجملة كان عليه السلام حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة. وحُكي إنّه توفّي صلوات الله عليه في حال السجود لله تعالى.

وروي أنّ هارون أنفذ إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، جارية حصيفة لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدة لربّها لا ترفع رأسها، تقول: «قُدُّوسٌ قُدُّوس، سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ»، فأتى بها وهي ترعد شاخصةً إلى السماء بصرَها، وأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك، قالت: ««هكذا رأيت العبدَ الصالح». فما زالت كذلك حتّى ماتت.

ولقد اقتدى به عليه السلام في عبادته جماعةٌ ممّن لقيه ورآه، منهم: محمّد بن أبي عمير، الثقة الجليل الأوّاه. وأجمع الرواة على أنّ الإمام الكاظم عليه السلام، كان أعظمَ الناس طاعةً لله، وأكثرهم عبادة له تعالى، دأْبُه في ذلك دأْبُ جدّه الإمام السجّاد صلوات الله عليهم أجمعين.

 

 

 

اخبار مرتبطة

  دوريات

دوريات

07/04/2016

دوريات

نفحات