الفقيه المُبدع السيّد
محمّد كاظم اليزدي قدّس سرّه
صاحب كتاب (العروة الوثقى) في الفقه
___________ إعداد: سليمان بيضون __________
* فقيهٌ متبحّر،
أصوليّ، من أكابر مراجع التقليد للإمامية ومشاهير العلماء في عصره.
* انتقل من يزد
إلى مشهد، ثم أصفهان للدراسة على علمائها، ثم حطّ رحاله في النجف الأشرف زعيماً
نوعياً للحوزة العلمية.
* رسالته
العملية تحفة في دقّة التبويب، وتفريع المسائل الشرعية.
* قال عنه
الإمام الخامنئي دام ظلّه: «إنّ فيه... ميزات قلّما تجتمع في عالمٍ غيره».
* أُعدّت هذه الترجمة استناداً إلى ما ورد في
مقدّمة كتاب (العروة الوثقى)، وكلمة الإمام السيّد علي الخامنئي دام ظلّه التي
ألقاها في لقاء «هيئة
تكريم العلّامة السيّد محمّد كاظم الطباطبائي اليزدي» في شهر آذار من العام 2013م، وكتاب الأستاذ كامل الجبوري في سيرة
السيّد اليزدي ووقائع عصره.
السيّد
محمّد كاظم بن عبد العظيم الطباطبائي، ولد في قرية (كسنويّة) من قرى يزد في إيران حوالي
سنة 1247 هجرية. كان والده أحد ملّاكي الأراضي ويعمل بالزراعة.
ظهرت أمارات الذكاء
والنبوغ عليه منذ الصغر، فرغب والده بأن يتوجّه ابنه لطلب العلوم الدينية، لكنّه
توفّي وابنه محمّد كاظم في الحادية عشرة من العمر، ولم يكن له أخوة، وكانت له سبع أخوات،
فوقعت عليه مسؤولية رعايتهنّ على صغر سنّه، ولمّا لم تكن واردات الزراعة تكفي لنفقات
العائلة، فقد عمل السيّد كاظم في مدرسة قريبة من قريتهم، وفيها أيضاً صار يتعلّم
القراءة والكتابة، ولمّا رأى القائمون على المدرسة علائمَ النبوغ باديةً عليه،
دعوه للانخراط في الدراسة وترك العمل.
وبعد فترة من الدراسة،
صار لديه توجّهٌ لدراسة العلوم الدينية، فانتقل إلى مدينة يزد، وهناك قرأ مقدّمات
العلوم العربية، ثم سطوح الفقه والأصول.
بعد ذلك سافر السيّد محمّد
كاظم إلى مدينة مشهد لزيارة الإمام الرضا، عليه السلام، وللأخذ عن علمائها، فقرأ فيها
علوم الهيئة والرياضيات.
ثمّ قرّر متابعة رحلة
طلب العلم وبلوغ الاجتهاد، فتوجّه إلى أصفهان، والتحق مباشرة بدرس الشيخ محمّد
باقر الأصفهاني، وكان زميلاه في الحلقة نجلَ أستاذه الأصفهاني، الشيخ محمّد تقي
المعروف بآغا نجفي، والشيخ حسين الشيرواني.
وفي خلال حضوره إحدى
جلسات الدرس، جرى حوار بينه وبين الأستاذ حول أحد مطالب البحث، كشف عن تميّز خاص
للسيّد كاظم، فوقع في نفس أستاذه موقعاً عظيماً، وصار يهتمّ به اهتماماً خاصّاً
بحيث طلب منه أن يحضر في مجلس استفتائه الذي يُعقد في داره، وأن يجعل بحثاً علمياً
بينه وبين ابنه الشيخ محمّد تقي.
كما استفاد السيّد
اليزدي في أصفهان من درس السيّد محمّد باقر الموسوي الخونساري، صاحب موسوعة (روضات
الجنات)، وأخيه السيّد محمّد هاشم مؤلّف (مباني الأصول).
ثم شرع في مرحلة
التدريس؛ فصار يدرّس سطوح (المكاسب) للشيخ مرتضى الأنصاري، وكان يجتمع في حلقة
درسه العدد الكبير من الطلاب، وبعد ذلك حصل على الإجازة في الاجتهاد من أستاذه
الأصفهاني.
الهجرة إلى النجف
قرّر السيّد كاظم اليزدي
الهجرة إلى بلد الفقاهة والعلم النجف الأشرف، فسافر إليها في السنة التي توفّي
فيها الشيخ المرتضى الأنصاري (1281 هجرية)، وقيل إنّه أدركه في أواخر أيامه. وفي
حوزة النجف حضر بحوث الآيات العظام: الميرزا محمّد حسن الشيرازي، والشيخ راضي
الجعفري، والشيخ مهدي الجعفري، والشيخ مهدي آل كاشف الغطاء.
ولما انتقل الميرزا
الشيرازي من النجف إلى سامراء، أسّس السيّد اليزدي في النجف حلقة دراسية، سرعان ما
صارت حوزة مشحونة بالفُضَلاء وأهل التحقيق من طلبة العلوم، وكان عدد الحضور في
تزايد مستمر.
قال صاحب (أحسن
الوديعة في تراجم علماء الشيعة) السيّد مهدي الخونساري في وصف حوزة السيّد اليزدي:
«وكانت حوزته الباهرة في هذه الأواخر أجمع، وأوسع، وأسدّ، وأنفع من أكثر مدارس
فقهاء عصره وفضلاء مصره..».
تلامذته والراوون عنه
تتلمذ على السيّد
اليزدي وروى عنه جمهرة من العلماء والأفاضل، وكان يحضر بحثه نحو 200 تلميذ، منهم:
السيّد محمود التبريزي المرعشي (والد السيّد شهاب الدين المرعشي)، والسيّد حسن بن محمود
الأمين العاملي، والعلامة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء.
مؤلفاته
ألّف السيّد اليزدي
كتباً ورسائل أكثرها في الفقه والأصول، منها:
1) حاشية على كتاب (المكاسب)
للشيخ مرتضى الأنصاري، قال عنها الإمام الخامنئي: «حاشية السيّد اليزدي على كتاب (المكاسب) هي إجمالاً من
أفضل الحواشي على هذا الكتاب، مع أنّ لبعض الحواشي الأخرى - كحاشية المرحوم
الآخوند الخراساني وآخرين - ميّزاتها الخاصّة. أمّا لو نظرنا فيها جميعاً، من
ناحية متانة الاستدلال، والجامعيّة، والنضج الفقهي، والإحاطة بالأبواب المتنوّعة،
والاستفادة منها في تنقيح المسألة، فإنصافاً، إنّ حاشية السيّد لا نظير لها».
2) (العروة الوثقى)،
الرسالة العملية المعروفة.
3) (السؤال والجواب)
في الفقه.
4) (الكلِم الجامعة والحكم
النافعة)، من إنشاء السيّد وإملائه، جمعها وشرحها الشيخ محمّد حسن الجواهري.
حول (العروة الوثقى)
قال الإمام الخامنئي: «منذ ظهور كتاب (العروة الوثقى)، قلّما رأينا فقهاءنا
ومراجعنا - الذين كانوا يكتبون التعليقات على الكتب الفقهيّة أمثال (نجاة العباد)،
وبقيّة الكتب الأخرى - يكتبون التعليقات عليها [بمعنى أنهم انصرفوا للتعليق على العروة]، أي إنّ جامعيّة (العروة الوثقى)، والذوق الرفيع للسيّد
في تنظيمه، والمميّزات الكبيرة التي يتحلّى بها، على الرغم من عدم اكتمال أبوابه
الفقهيّة، مع ذلك، انصبّت كلّ الاهتمامات على هذا الكتاب، وهذا يدلّ على أهميّة
هذا الكتاب وصاحبه».
ووصفها العلّامة الشيخ
آغا بزرك الطهراني في (الذريعة) بقوله: «رسالة فتوائية خرج منها أكثر أبواب الفقه،
ومسائل الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والخمس والحجّ والنكاح ، تشتمل على ثلاثة آلاف
ومائتين وستّين مسألة».
وقد كُتبت تعاليق كثيرة
على هذا السِّفر القيّم، أُولاها تعليقة لتلميذه الشيخ كاشف الغطاء. وأوّل شرح مطبوع
لها كان باسم (الفقه الأرقى في شرح العروة الوثقى)، لتلميذه الآخر الشيخ عبد الكريم
الزنجاني. وأشهر الشروح لها هو (مستمسك العروة الوثقى) للمرجع السيّد محسن الطباطبائي
الحكيم.
وذكر العلّامة الطهراني
في (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) سبع حواشٍ على الكتاب، للأفاضل: الشيخ محمّد حسين النائيني،
والشيخ محمّد رضا آل ياسين، والسيّد آغا حسين القمي، والشيخ عبد الكريم اليزدي، والشيخ
عبد الله المامقاني، والسيّد محسن الحكيم في تسعة مجلّدات، والشرح السابع للسيّد محمّد
الفيروزآبادي، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
من خصاله الحميدة
جاء في كتاب للدكتور
كمال الجبوري ما مختصره: «كان السيّد اليزدي على جانب كبير من التقوى والورع عن
محارم الله، بل كان مُحاكياً المعصوم في فعله، مُلتفتاً حتّى للنّكات الدقيقة
والصغيرة في مقام العمل، مراعياً لها سالكاً جادّة الاحتياط. وكان مُحبّاً للخير وأن يشمل عامّة الناس وأهل العلم
خاصّة، فكان يبذل أقصى جهده لقضاء حوائج الناس ومُرتادي مجلسه، ويهتمّ جدّاً
بمساعدة الفقراء والمساكين وإسعافهم مادّياً، وكان على جانب عالٍ من التواضع بحيث
إنّه كان يعدّ نفسه كأحد الجالسين معه، ولا يستشعر في نفسه كِبراً أو أنَفة عن
البحث والتباحث في أيّ مسألة، وكثيراً ما يتذكّر جذوره العائلية وانحداره من أبٍ
مزارع، ومعاناته في إعالة ما ترك والده من أعباء ثقيلة..».
وقائع عصره
عاصر السيّد اليزدي في
مرحلة مرجعيّته أحداثاً سياسيّة كبرى، أبرزها الحركة الدستورية (المشروطة) التي
قامت في إيران وكانت تطالب بإنشاء مجلس نيابي فيه ممثّلون للشعب، وأن يكون الملك
مقيّداً بدستور منبثق من الشريعة الإسلامية، وقد أيّد هذه الحركة كثير من العلماء
الإيرانيين سواء من كانوا في إيران أو العراق، إلّا أنّ السيّد اليزدي تحفّظ تجاه
هذه الحركة التي لم تكن الأيادي البريطانية - من منظوره رضوان الله عليه - بعيدة
عنها، وكانت باباً لدخول فئات فاسدة إلى نظام الحكم بداعي المشاركة الديمقراطية،
إضافة إلى أنّ السيّد اليزدي كان يرى رأي مَن يقول إنّ مصلحة الدولة يجب أن تكون
بيد شخصٍ واحد لا يشاركه فيها مشارك، وقد أقام أدلّته الشرعية على هذا الرأي. وكان
من الطبيعي أن يُحدِث هذا الموقف انقساماً في الساحة الشعبية الإيرانية بين مؤيّد
للحركة الدستورية ومعارض لها.
قال السيّد محسن
الأمين في (أعيان الشيعة): «وفي أيّامه ظهر أمر المشروطة في إيران، وأعقبها خلع
السلطان عبد الحميد في تركيا، وكان هو – أي السيّد اليزدي - ضدّ المشروطة، وبعض
العلماء يؤيّدونها... وتعصّب لكلّ منهما فريق من (الناس)، وكان عامّة أهل العراق
وسوادهم مع اليزدي... وليس لنا إلّا أن نحمل كلّاً منهما على المحمل الحسن
والاختلاف في اجتهاد الرأي».
ويرى الإمام الخامنئي أنّ السيّد اليزدي كان موافقاً في البداية على وضع
دستور لتقييد سلطات الملك، ولكنّه لم يصادق عليه من دون أن يراه، ما يدلّ على دقّة
واحتياط عنده.
يقول سماحته: «وعندما كتب المرحوم آية الله فضل الله النوري (كان من المؤيّدين
للحركة الدستورية ثم وقف ضدّها) أنّ هكذا عملاً يُنجز الآن في طهران، كان المرحوم
آية الله السيّد محمّد كاظم من أوائل الأشخاص الذين وافقوا على هذا الأمر وأيّدوه،
بعدها حين طُرح القانون الأساسي - أي الدستور - قال: ينبغي أن أطّلع عليه، عليّ أن
أرى ما الذي سأوافق عليه.
حينها كتب له المرحوم آية الله الشيخ فضل الله النوري من طهران: أنا رأيته
وهو صحيح وجيّد... فقال السيّد كاظم: لا، عليّ أن أراه بنفسي! وهذا يُبيّن مدى
اهتمام هذا الرجل، (إذ طلب الاطّلاع على نصّ الدستور) على الرغم من أنّ شخصاً كآية
الله النوري، والذي كان مورد ثقة الجميع، كان يؤّيده... هذا يشير إلى دقّة هذا
الرجل واحتياطه في أمر الدِّين، وهذا بنظري غاية في الأهميّة، فقد ثبت على موقفه بالرغم
من شدّة الضغوط عليه، كانت هناك ضغوط فكريّة، وسياسيّة تمارَس على هذا الرجل من
حوله، كانت عشائر النّجف والعشائر الأخرى من مريديه، لكنّ الأغلبيّة في حوزة
النّجف كانوا مخالفين له، هذه هي الناحية التقوائيّة والمعنويّة لهذا الرجل».
يروي بعض العلماء المعاصرين لتلك الحقبة، أنّ أحد
المؤمنين حضر مجلس الشيخ الآخوند – وكان في طليعة المؤيّدين للثورة الدستورية –
وقال له: أنا من مقلّدي السيّد اليزدي، وهناك معاملة بيني وبين أحد مقلّديكم، لكنه
يمتنع عن إمضاء المعاملة زاعماً أنكم لا ترضون بذلك. فما كان من الشيخ الآخوند،
رحمه الله، إلّا أن بادره بالقول من فوره: «اذهب إليه وانقل له عن لساني ما يلي:
إذا كنتَ تقلّدني واقعاً، فيجب أن تضع السيّد كاظم
اليزدي وخِتمه وإمضاءه على رأسك، وتُطيعه فوراً».
وممّا حدث في عصر السيّد اليزدي، الثورة على الإنكليز المحتلّين للعراق،
فقد كان يدعم محاربتهم ومناهضتهم بحيث أرسل ابنه للمشاركة في القتال، يقول الإمام
الخامنئي أيضاً: «للسيّد اليزدي ميزة الاستعداد للجهاد، فقضايا مواجهة الإنكليز
المحتلّين والحرب التي جرت في العراق، تتمحور حول المرحوم آية الله السيّد محمّد
كاظم اليزدي، فقد أرسل ابنه المرحوم السيّد محمّد... والذي اتّبعه الجميع كشخصيّة
بارزة، أتوا وحاربوا وقاتلوا في المناطق الجنوبيّة للعراق. في الزيارة التي قمتُ
بها قبل عدّة سنوات [1996م] إلى خوزستان، جاء عدد من كبار السنّ الذين عاصروا فترة
الحرب تلك للقائي، وجاؤوا براية تلك الحرب - كانت راية (قديمة) - قدّموها لي
وقالوا: هذه راية المرحوم السيّد محمّد كاظم اليزدي».
وعندما استولى
الإنكليز على العراق مطلع القرن الماضي، أرادوا الانتقام من أهالي النجف الأشرف،
لدورهم الجهادي في التصدّي للغزو البريطاني، فكان أن جاء الحاكم العسكري الإنكليزي
إلى السيّد محمّد كاظم اليزدي وقال له: «نرجو منكم مغادرة النجف والذهاب إلى
الكوفة، لأنّ المملكة البريطانية تريد تأديب أهالي النجف!».
فقال السيّد رحمه
الله: «هل أخرج من النجف لوحدي أم مع أهل بيتي؟».
قال الحاكم: «بل مع
أهل بيتك».
قال السيّد رحمه الله:
«إذاً، سوف أخرج مع أهل النجف قاطبة، فكلّهم أهل بيتي، ولن أخرج لوحدي، وَلْيَنزل
بي ما ينزل بأهل بيتي». وببركة هذه الاستقامة والقدم الراسخة بقي أهل النجف في
أمان من شرّ الإنكليز.
ومن مواقف السيّد اليزدي المعروفة فتواه في وجوب التصدّي للاحتلال الروسي
في إيران، والاحتلال الإيطالي في شمال أفريقيا.
وفاته
اعتلّ السيّد اليزدي، رضوان
الله تعالى عليه، في أوائل شهر رجب المرجّب عام 1337 هجرية بمرض ذات الجَنب، وجُمعت
له الأطبّاء من النجف وكربلاء، وقد أوفدت حكومة بغداد طبيباً لمعالجته، ولكن لم يُمهله
الأجل، فتوفّي في مدّة قصيرة، فبكى عليه الفقراء وذوو الحاجات عامّة، وأهل الدين
خاصّة، وغُسّل على نهر السنية، وحضر تشييع جنازته - مضافاً إلى علماء النجف الأشرف
وأهاليها - الحاضرون لزيارة أمير المؤمنين عليه السلام في المبعث النبويّ الشريف،
فخرج الكلّ إلى خارج البلد لتشييع جثمانه، وصلّى عليه نجله السيّد علي، ودفن في
الإيوان الكبير من الصحن الغَرويّ الشريف.
وقيل في تاريخ وفاته:
فَمُذْ كاظمُ
الغيظِ نالَ النَّعيما
|
وحازَ مَقاماً
وَفَضْلاً كريما
|
وجاوَرَ رَبّاً
غَفوراً رَحيما
|
فَأَرِّخْ: لَقَدْ
فازَ فَوْزاً عَظيما
|