﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ..﴾
خطاب
اختصّت به أمّة النبيّ الأكرم صلّى
الله عليه وآله
_____ الشيخ جواد بن
عبّاس الكربلائي* _____
حقيقة الذكر حضور
المعنى، أي المذكور، في النفس، ولازمه كونه نقيض النسيان، فحضور الشيء يلازم عدم
الغفلة عنه، التي هي النسيان، ولذا قيل حقيقة الذكر هو حضور المذكور.
بيان معنى الذكر
إنّ الذّكر حضور
المذكور والمعنى في النفس، فإذا توجّه القلب بنور العقل إلى شيءٍ فقد ذكَره، وكلّما
أمعن فيه يكون حصوله -أي المذكور- أظهر وأبيَن، إلّا أنّ هناك فرقاً بين ذكره
تعالى وذكر غيره؛ فإنّ ذكره تعالى لا يمكن بإمعان التوجّه القلبي في ذاته تعالى،
إذ لا طريق إليه، وإنّما هو بأمرين:
الأمر الأوّل:
إمعان النظر القلبيّ في صفاته وأسمائه وجماله وجلاله ومظاهره، التي ظهر بها لخلقه.
الأمر الثاني:
إفناء النفس بحدودها الخلقيّة ونسيانها، وصرف التوجّه عنها، إلى أن يحاذي القلب
والروح شطر الحقّ، فيتجلّى فيه على حسب ظرفيّته.
ولبيان أقسام الذكر
بلحاظ المذكور، فنقول: إنّ مراتب الذكر مختلفة باختلاف متعلّقه، فتارة يتعلّق بذات
الله تعالى، وأخرى بصفاته، وثالثة بأفعاله.
أمّا الذكر المتعلّق
بالذات، كقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ..﴾
البقرة:152،
فأمر تعالى بِذِكره، أي ذاته وهذا مختصّ بهذه الأمّة المرحومة دون غيرها، تشريفاً
منه تعالى لنبيّها الأعظم صلَّى الله عليه وآله، كما سيأتي.
وأمّا المتعلّق بصفاته،
كذكره تعالى بلحاظ أنّه سميع عليم غفور، في قولك: يا غفور، يا عليم، يا سميع، ويا
رحمن، ونحوها، والكتب السماوية والأدعية المأثورة قد صرّحت بذلك كثيراً جدّاً، والكتب مشحونة ببيانها.
وأمّا المتعلّق
بأفعاله وإنعامه، كقوله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..﴾ البقرة:40،
فقد أمر تعالى بذكر إنعامه بقوله: ﴿نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ..﴾.
تخصيص أُمّة محمّد صلّى
الله عليه وآله بذكر الذات
وكيف كان، قد أمر
تعالى هذه الأُمّة بذكر الذات، بقوله: ﴿فَاذْكُرُونِي..﴾، وأمَر موسى عليه السّلام
وأمّته بذكر النعماء، واختصّ أيضاً هذه الأُمّة بجعل جزاء الذكر ذكره تعالى لهم،
بقوله: ﴿..أَذْكُرْكُمْ..﴾، والوجه في اختصاص هذه الأُمّة بذكر الذات دون الأمم
السابقة، أنّ معارج الفكر والذكر والشهود لم تتجاوز في الأمم السابقة من طبقات
الأفلاك، وما فيها من مواد النعم الإلهيّة الدنيويّة والأخرويّة، فلا محالة اقتصرت
مثوباتهم على نيل درجات الجنان.
وأمّا هذه الأُمّة،
أعني فضلاءهم وحكماءهم، التابعين لنبيّهم وللأئمّة عليه وعليهم السلام، الذي جاء
بمنتهى المعارف الإلهية والأخلاق الحميدة، وما به الوصول إلى منتهى الدرجات
والسعادات، فلهم أن يتّخذوا مع الرسول سبيلاً ويتجاوزوا بمتابعته عن عالم الخلق،
بل الأمر إلى ما وراءهما، كيف لا؟ وهم تابعون لهادٍ بمثل النبيّ صلَّى الله عليه
وآله خاتم النبيين، وبمثل الأوصياء الأئمّة المعصومين الذين جاؤوا بالدين الكامل
الإلهي، ولذا صار النبيّ صلَّى الله عليه وآله، خاتم النّبيين ودينه صار ناسخاً
للأديان، وأنّه لا نبيّ بعده، فمتابعة هذا النبيّ توصِل إلى هذا المقام السنيّ.
ثم إنّ ذكر الأفعال
والصفات، وإن كان بحسب كثرة المتعلّق كثيرة كمّاً، بل لا يمكن إحصاؤه، وأيضاً بحسب
الكيف والاكتناه عظيمة ومهمّة جدّاً، بل يمكن أن يقال: إنّه لا يمكن الوصول إلى
كنه الصفات وكنه مصالح الأفعال، إلّا أنّ أشرف الأذكار ذكر الذات لشرافة متعلّقه
بالنحو الأتمّ الأكمل، والوجه في شرفه هو أنّ اللّذات الحاصلة من ذكر صفاته
وأفعاله تعالى تكون متعلّقة بالنفس وعالم الخلق والحدود، سواء أكانت النعم دنيوية
أم أخروية. وأمّا ذكر الذات والتجلّيات الحاصلة منه للروح، فإنّها لا تكاد توصف،
كيف لا وذكر الذات ينتهي إلى حيث يصير الذكر والذاكر والمذكور واحداً؟ وهذا بخلاف
القِسمَين السابقَين.
__________________________________
* من كتابه (الأنوار
الساطعة في شرح الزيارة الجامعة)