الإمامة والعصمة
أصلان يُثبتان
الغَيبة
ـــــ الشّريف المرتضى قدّس سرّه ـــــ
(المُقنع في الغَيبة) للشّريف المرتضى،
أبي القاسم عليّ بن الحسين الموسويّ (ت: 436 للهجرة) هو من أهمِّ المباحثات الكلاميّة في
دحضِ شُبهات المخالفين، وإثباتِ غَيبةِ الإمام المهديّ عليه السلام، وعِلَلِها والحكمةِ الإلهيّة التي اقتضَتها.
النّصّ التّالي، مقتطَفٌ من (المُقنع)،
ويستدلُّ فيه الشّريف المرتضى على الغَيبة بأصلَين عقليَّين؛ الإمامة والعصمة.
لقد دلَّ العقلُ على وجوبِ الإمامة، وأنَّ كلَّ
زمانٍ - كُلِّف فيه المُكلَّفون الّذين يَجوز منهم القبيحُ والحَسَن، والطَّاعةُ والمعصية
- لا يَخلو من إمام، وأنَّ خُلُوَّه من إمامٍ إخلالٌ بتمكينِهم، وقادحٌ في حُسن تكليفِهم
.ثمَّ
دلَّ العقلُ على أنَّ ذلك الإمامَ لا بدَّ من كَوْنِه معصوماً من الخَطأ والزَّلل،
مأموناً منه فعلُ كلِّ قبيح.
وليس بعد ثبوتِ هذَين الأصلَين إلَّا إمامةُ مَن
تُشير الإماميّةُ إلى إمامتِه، فإنَّ الصِّفةَ التي دلَّ العقلُ على وجوبها لا توجَدُ
إلَّا فيه، ويتعرَّى منها كلُّ مَن تُدَّعى له الإمامةُ سواه...
وهذه الطَّريقة أَوْضحُ ما اعتُمد عليه في ثبوت
إمامةِ صاحب الزَّمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وأبعدُ من الشُّبهة. فإنَّ النَّقل بذلك
يُمكن إدخالُ الشُّبهة فيه، والطّريقةُ الّتي أوضحناها بعيدةٌ من الشُّبُهات، قريبةٌ
من الأفهام. وَبَقِيَ أن ندلَّ على صحَّة الأصلَين اللَّذين ذكرناهما.
وجوب الإمامة المعصومة
أمَّا الّذي يدلُّ على وجوبِ الإمامة في كلِّ زمانٍ
فهو مبنيٌّ على الضَّرورة، ومركوزٌ في العقول الصّحيحة؛ فإنّا نعلمُ يقيناً أنَّ وجودَ
الرَّئيسِ المُطاعِ المَهيبِ مدبِّراً ومُتصرِّفاً، أَرْدَعُ عن القبيح وأَدْعَى إلى
الحَسَن، وأنَّ التَّهارُجَ بين النَّاس والتَّباغي إمَّا أنْ يَرتفعَ عند وجودِ مَنْ
هذه صفتُه من الرّؤساء، أو يقلَّ ويَنْزرَ، وأنَّ النَّاس عند الإهمالِ وفَقْدِ الرُّؤساء
وعَدْمِ الكُبراء يَتتابعون في القبيح، وتَفسد أحوالُهم، ويَنحلُّ نظامُهم. وهذا أظهرُ
وأشهرُ من أنْ يُدَلَّ عليه، والإشارةُ فيه كافية.
وأمّا الّذي يدلُّ على وجوب عصمة الإمام، فهو: أنَّ
علَّة الحاجة إلى الإمام هي أن يكون لُطْفاً للرَّعيّة في الامتناعِ من القبيح، وفعلِ
الواجبِ على ما اعتَمدناه ونبَّهنا عليه. فلا يَخلو من أنْ تكون علّةُ الحاجةِ إليه
ثابتةً فيه، أو تكونَ مرتفعةً عنه.
فإنْ كانت موجودةً فيه فيجبُ أن يَحتاجَ إلى إمامٍ
كما احْتِيجَ إليه، لأنَّ علَّة الحاجةِ لا يَجوز أنْ تَقتضيها في موضعٍ دون آخر، لأنَّ
ذلك يَنقضُ كونَها علّة. والقولُ في إمامتِه كالقولِ فيه في القِسمة الّتي ذكرناها. وهذا يقتضي إمَّا الوقوف
على إمامٍ تَرتفع عنه علَّةُ الحاجة، أو وجودُ أئمَّةٍ لا نهايةَ لهم، وهو محال
.
فلم يبقَ بعد هذا إلَّا أنَّ علَّة الحاجةِ إليه
مفقودةٌ فيه، ولن يكون ذلك إلَّا وهو معصومٌ ولا يجوزُ عليه فعلُ القبيح.
بناءُ الغَيبة على الأصلَين، والفِرَق الشّيعيّة
البائدة
وإذا ثَبت هذان الأصلان، فلا بدَّ من إمامةِ صاحب
الزَّمان بعينِه. ثمَّ لا بدَّ، مع فقد تصرُّفه وظهوره، من القول بغَيْبَته.
فإنْ قيل: كيف تدَّعون أنَّ ثبوتَ الأصلَين اللَّذين
ذكرتموهما يُثبت إمامةَ صاحبِكم بعينِه، ويوجبُ القول بِغَيْبته، وفي الشّيعة الإماميّة
– أيضاً - مَن يدَّعي إمامةَ مَنْ له الصِّفتان اللّتان ذكرتموهما، وإن خالَفَكُم في
إمامة صاحبكم؟! كالكيسانيّة: القائلين بإمامة محمّد بن الحنفيّة، وأنَّه صاحبُ الزَّمان،
وإنَّما غاب انتظاراً للفرصة وإمكانِها، كما تقولون في قائمِكم. وكالنّاووسيّة: القائلين
بأنَّ المهديَّ المُنتظَر أبو عبد الله، جعفر بن محمَّد عليهما السلام، ثمَّ الواقفة القائلين بأنَّ المهديَّ
المُنتظَر موسى بن جعفر عليها السلام؟!
قلنا: كلّ مَن ذَكَرْتَ [من الكيسانيّة ونظائرها] لا يُلتَفَت إلى قولِه ولا يُعبَأ بخلافه،
لأنَّه دفعَ ضرورةً وكابرَ مشاهدةً. لأنَّ العلم بِمَوت ابن الحنفيّة كالعلمِ بموتِ
أبيه وإخوتِه صلوات الله عليهم. وكذلك العِلم بوفاة الصَّادق عليه السلام كالعِلم بوفاة أبيه محمَّد عليهما السلام. والعلم بوفاة موسى عليه السلام كالعلم بوفاة كلِّ متوفٍّ من آبائه وأجداده
وأبنائه عليهم السلام .فصارت موافقتُهم في صفاتِ الإمام غير نافعةٍ
مع دفعِهم الضَّرورة، وجُحدِهم العَيان .
وليس يمكنُ أن يُدَّعى: أنَّ الإماميَّة القائلين
بإمامة ابن الحسن عليهما السلام قد دفعوا – أيضاً - عياناً، في ادِّعائهم ولادة
مَن عُلِم فقدُه وأنَّه لم يولَد. وذلك أنَّه لا ضرورةَ في نَفي ولادةِ صاحبِنا عليه السلام، ولا عِلم، بل ولا ظنَّ صحيحاً.
ونفيُ ولادةِ الأولادِ من الباب الذي لا يصحُّ أن
يعلمَ ضرورة، في موضعٍ من المواضِع، وما يمكنُ أحدٌ أن يدَّعي في مَن لم يظهر له ولد،
أنّه يعلم ضرورةً أنّه لا ولدَ له. وإنَّما يرجعُ ذلك إلى الظّنِّ والأمارة، وأنّه
لو كان له ولدٌ لَظَهَر أمرُه وعُرِفَ خَبَرُه. وليس كذلك وفاةُ الموتى، فإنَّه من
الباب الّذي يصحُّ أن يعلمَ ضرورةً حتّى يزولَ الرَّيبُ فيه.
ألا ترى أنَّ مَن شاهدناه حيّاً مُتصرِّفاً، ثمَّ
رأيناه بعد ذلك صريعاً طريحاً... نعلمُ يقيناً أنَّه ميت.
ونفيُ
وجودِ الأولادِ بخلافِ هذا الباب.
على أنَّا لو تجاوزنا - في الفصل بينَنا وبين مَن
ذُكِر في السُّؤال - عن دفعِ المعلوم، لكان كلامُنا واضحاً، لأنَّ جميع مَنْ ذُكِر
مِن الفِرَق قد سَقط خلافه بعدم عينِه، وخلوِّ الزَّمان من قائلٍ بمذهبِه: أمّا الكيسانيّة
فما رأينا قطُّ منهم أحداً، ولا عينٌ لهذا القول ولا أَثَر، وكذلك النّاووسيّة
.
وأمّا الواقفة فقد رأينا منهم نفراً شُذّاذاً جُهَّالاً،
لا يُعدُّ مثلُهم خلافاً، ثمَّ انتهى الأمر في زمانِنا هذا وما يليه إلى الفَقْدِ الكُلِّيّ،
حتى لا يوجَد هذا المذهب - إنْ وُجِد - إلَّا في اثنين أو ثلاثة على صفةٍ من قلّة الفطنة
والغباوة يقطع بها على الخروج من التّكليف، فضلاً أنْ يُجعلَ قولهم خلافاً يُعارَضُ
به الإماميّة الذين طَبقوا البرَّ والبحرَ والسَّهلَ والجبلَ في أقطارِ الأرضِ وأكنافِها،
ويُوجَدُ فيهم مِن العلماء والمصنِّفين الألوف الكثيرة
.
ولا خلاف بيننا وبين مُخالفينا في أنَّ الإجماع
إنَّما يُعتبر فيه الزّمانُ الحاضر دونَ الماضي الغابِر. وإذا بطلتْ إمامةُ مَن أثبتت
له الإمامة بالاختيار والدَّعوة في هذا الوقت لأجل فَقْدِ الصّفة التي دلَّ العقلُ
عليها، وبَطل قولُ مَن راعى هذه الصِّفة - في غير صاحبِنا - لِشذوذِه وانقراضِه، فلا
مندوحةَ عن مذهبِنا، ولا بدَّ من صحَّتِه، وإلَّا خَرَج الحقُّ عن جميعِ أقوالِ الأمَّة.