وارثُ علوم النبوّة
الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام
ــــــــــــــــــــــــ د. محمد عبد المنعم خفاجي* ــــــــــــــــــــــــ
إذا ذكرنا الإمام
الصّادق عليه السلام، ذكَرنا أرفعَ منقبة، وأجلّ مَأْثَرة، وأعظم شخصية من
الشخصيات الرائدة في تاريخ الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية، وفي نشأة المذاهب
الفقهية التشريعية لأئمّة علماء المسلمين.
وحدِّث عن الإمام
الصّادق عليه السلام ولا حرَج، حدِّث عن سليل بيت النبوّة، ووارث فضائلها ومناقبها
ومفاخرها وعلومها وحِكمتها.
حدِّث عنه في علمه
وفقهه، وفي عراكه للأحداث ونضاله للخطوب، وفي مجابهته الظلم ومقاومته للطغيان، وفي
خبرته بالحياة، ومعرفته العميقة بالزمان وناسه، وفي حبّه للسلام، وكراهيته لإراقة
الدماء، بل في كلّ مَحمدةٍ من المحامد الّتي يُذكر بها الناس ويُعرف بها عظماء
التاريخ.
جعفر الصّادق ابن
الإمام محمّد الباقر، ابن السجّاد زين العابدين عليّ بن الحسين، ابن إمام الشهداء
الحسين، ابن الإمام عليّ بن أبي طالب عليهم السلام.
سلسلة رفيعة من النّسَب
النبويّ الشريف، وما أجلّ وأكرم، وما أرفع وأعظم هذه السلسلة الذهبية النبيلة من
سلاسل النّسَب في تاريخ الإسلام والمسلمين.
أنذكر جدّه الأعلى،
رسول الله، وخاتم النبيّين، محمداً صلّى الله عليه وعلى آله أجمعين؟
أم نذكر الإمام
الأكبر، ابن عمّ رسول الله، صلوات الله عليهما، عليّ بن أبي طالب؟
أم نذكر جدّه زين
العابدين، عليّ بن الحسين (38 – 94 هجرية)، الذي كان أعلام المسلمين يقولون عنه
أنّه سيّد الناس. والذي كان ابن شهاب الزّهريّ (ت: 124 هجرية) يقول فيه: «ما رأيتُ
أفقهَ من زين العابدين». ويقول عنه كذلك: «ما رأيتُ قرشيّاً أفضل منه». ويقول عنه
أيضاً: «ما رأيتُ هاشمياً أفضل من عليّ بن الحسين، ولا أفقه منه». والذي قال عنه الشافعي:
«هو أفقهُ أهل المدينة».
أم نذكر أباه الجليل،
الإمام الباقر عليه السلام (57-114 هجرية)، الذي قال عنه الإمام التابعيّ الجليل،
الحسن البصريّ (ت: 110 هجرية): «ذلك الذي يُشبه كلامُه كلامَ الأنبياء».
أم نذكر جدّته الكبرى
سيّدة نساء أهل الجنة، فاطمة الزهراء عليها السلام، بنت رسول الله صلّى الله عليه
وآله، وزوج الإمام عليّ عليه السلام، والتي قال فيها شاعر الإسلام، محمّد إقبال:
هي بنت مَنْ؟ هي زوج
مَنْ؟ هي أمُّ مَنْ؟ مَنْ
ذا يُداني في الفخَار أباها؟
أرفعُ نَسَب، أنبلُ
وراثة، أكرمُ بيت، أشرفُ أبوّة وأمومة، أعظمُ عشيرة ونِجَار في الإسلام.
وماذا نقول في الإمام
الصّادق جعفرٍ عليه السلام، وقد قال عنه مالك بن أنَس (ت: 179 هجرية): «ما رأتْ
عينٌ، ولا سمعتْ أُذُنٌ، ولا خطر على قلب بشر، أفضلَ من جعفر الصّادق فضلاً
وعلماً، وعبادةً وورعاً».
إمامُ الفقهاء
وماذا نقول عن الصّادق
عليه السلام؟ الذي تتلمذ عليه أبو حنيفة (ت: 150 هجرية) «كما تتلمذ عليه» مالك (ت:
179 هجرية)، وعلى مالك تتلمذ الشافعي (ت: 204 هجرية)، وعلى الشافعي تتلمذ أحمد بن
حنبل (ت: 241 هجرية). وبذلك يكون الصّادق عليه السلام إمام الفقهاء وأستاذهم بلا
استثناء.
كما تتلمذ على الصّادق
عليه السلام كذلك أربعة آلاف من الرّواة، وكتب عنه أربعمائة كاتب، وحسبك من
تلامذته أبو حنيفة، ومالك، وسفيان بن عيينة، وسواهم.
وكان الإمام الصّادق عليه
السلام يُجيد عدّة لغات، من بينها الفارسية لغة جدّته شهربانو بنت كسرى يزدجرد بن
شهريار، التي تزوجها الحسين بن عليّ عليهما السلام، فكان له منها ابنه زين العابدين
عليه السلام.
كما كان الصّادق عليه
السلام كذلك يُجيد السريانيّة والنِبطيّة.
ولقد كانت معارف
الإمام الصّادق واسعة في: الطب والكيمياء، وعلوم الهيئة والنجوم، وعلوم الفيزياء
والفلسفة والجغرافيا.... وخطّأ بطليموس في
رأيه بوجود حركتين للشمس.
وقد درّس الإمام
الصّادق علوم الطب لتلاميذه في مدرسته، التي كانت أول مدرسة في الإسلام. كما فنّد
الصّادق أيضاً القول بالعناصر الأربعة، وكان أوّل مَنِ اهتدى إلى الأكسيجين. وكانت
له نظريات حول أشعة النجوم، وحول الزمان والمكان، وحول الضوء، وحول نشأة الكون،
وحول حقائق كثيرة في الفكر والدين والحضارة والحكمة والفلسفة والطبيعة والبيئة
والتاريخ، وغيرها ممّا سبق في كثيرٍ منه علماء الغرب المعاصرين.
وكان شعار مدرسة
الصّادق عليه السلام حريّة الرأي والفكر، وقد دُوِّنت العلوم في عصره، الذي كان
عصرَ انبعاثٍ لحركة التجديد في تاريخ العالم الإسلامي.
وكان الصّادق عليه
السلام ينهى عن الخلاف، وعن العزلة. بل
أنه عليه السلام كذلك هو مؤسّس العلوم العرفانية والروحية في الإسلام، وكان أوّل
مَنْ دعا إلى المذهب التجريبي، وأخذه عنه تلميذه جابر بن حيّان أوّلُ كيميائي في
المسلمين.
هذا هو الإمام الصّادق
عليه السلام، كما يراه المستشرقون وعلماء الغرب، وهذا هو البحث الأكاديمي الرائع
الذي يُعَد من أعمق البحوث العلمية الجامعية في السنوات الأخيرة.
تربية أجيال الأمّة..
أَولى من الحُكم
ولقد عاش الصّادق عليه
السلام في عصر الطغيان السياسي الكبير، الذي سادت فيه دولة بني أميّة، وتبعتها
دولة بني العباس، حيث أسرفوا جميعاً في اضطهاد آل البيت وتعقّبهم بالقتل والتشريد
والحبس والنّفي والمصادرة، خوفاً من نفوذهم الرُّوحي الشعبي الكبير...
وكان الصّادق عليه
السلام عميق الفهم لعصره ومجتمعه، وللناس من حوله.... وحاول الخلفاء -أمويّون
وعباسيّون - أن يجرّوه إلى أرض المعركة لقتله وسفك دمه، فما استطاعوا إلى ذلك
سبيلاً. ولم يستطيعوا كذلك الإمساك بخيطٍ يدلّ على تطلّعه إلى الخلافة، أو على
اشتراكه في أيّ عملٍ ضدّ الدولة، أو زعامته لأيّ تنظيم، أو تشجيعه لخارجٍ على
الخلافة.
وحين انتصر أبو مسلم
الخراساني في القضاء على دولة بني أميّة كتب إلى الإمام الصّادق يقول له: «إنّي قد
أظهرتُ الكلمة، ودعوت الناس إلى الإنصراف عن بني أميّة، وإلى موالاة أهل البيت،
فإن رغبت فلا مزيدَ عليك».
فردّ عليه الإمام: «ما
أنتَ من رجالي، ولا الزمانُ زماني».
لقد كان الصّادق عليه
السلام يكره أن تُمَسّ كرامة الإنسان، كما كان يكره إراقة الدماء، وكان عميق الفهم
لطبيعة نفوس الحاكمين، يرى أنّ الحُمق كلّ الحمق، إنّما هو في التطلّع إلى ما في
أيدي الحكّام من شؤون الحكم. وإنّ تربية
الأجيال من شباب الأمة أهمّ بكثير جداً من التطلّع إلى زعامة سياسية أو دنيوية.
وكان الإمام يحاول
جهده إبعاد المقرّبين منه عن التردّي إلى حافة الهاوية...وكان من رأيه دائماً الانصراف
إلى العلم وحلقاته وحدهما.
هذا هو الإمام الصّادق،
وهذه هي شخصيّته صلوات الله عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
عميد كليّة اللغة العربية في جامعة الأزهر، والمقال مختصر من تقديمه لكتاب (الإمام
الصّادق كما عرفه علماء الغرب)