وأقرأُ
على وُلدي السلامَ إلى يوم القيامة
مجلسٌ
في شهادة الزهراء عليها السلام
§
الشيخ محمّد فاضل المسعودي
* كان حَدَثُ شهادة
الزهراء عليها السلام، وما قبله وما بعده، حافلاً بدلائل عظَمتها سلام الله عليها،
فمن سلام جبرئيل عليها، إلى استبشارها بلقاء الله عزّ وجلّ، واستعدادها للموت بكلّ
تفاصيله، ثمّ بوصيّتها أن لا يحضرَ دفنها أحدٌ من ظالميها، تكون سلام الله عليها
قد وصلتْ جهادها حالَ الحياة بآخرَ يبقى ما دام قبرها مجهولاً، يلحّ بالسؤال:
لماذا دُفنت الزهراءُ سرّاً؟
ما يلي، مختصر ما أورده المحقّق الشيخ محمّد فاضل المسعودي حول
ظروف شهادتها صلوات الله عليها في كتابه (الأسرار الفاطمية: ص 331-338).
«شعائر»
رُوي أنّ الصدّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام مرضتْ بعد
وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله مرضاً شديداً، حزناً على وفاته، وألماً ممّا
جرى عليها وعلى أمير المؤمنين من القوم، ومكثت أربعين ليلةً في مرضها، فلمّا نُعيت
إليها نفسها قالت لعليٍّ عليه السلام: «يا ابنَ عم، إنّه قد نُعيَت إليّ نفسي، وإنّني
لا أرى ما بي إلّا أنّني لاحقةٌ بأبي ساعةً بعد ساعة، وأنا أوصيكَ بِأشياء في قلبي».
فجلس عند رأسها وأخرج مَن كان في البيت، ثمّ... قال عليه السلام: «..قد
عزّ عليّ مفارقتُكِ وفقدُكِ... واللهِ جدّدتِ عليَّ مصيبةَ رسولِ الله صلّى الله
عليه وآلِه وسلّم... فإنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ من مُصيبةٍ ما أفجعَها وآلمَها
وأمَضَّها وأحزَنهَا، هذه والله مصيبةٌ لا عزاءَ لها، ورزيّةٌ لا خلفَ لها، ثمّ بَكَيا
جميعاً ساعة».
(ثمّ قال) عليٌّ عليه السلام: «أوصيني بِما شِئتِ...».
ثمّ قالت: «جزاكَ اللهُ عنّي خَيرَ الجَزاءِ»، وأوصته
بوصاياها، منها:
- «أوصيكَ يا ابنَ
عمّ، أنْ تَتَّخِذَ لي نَعشاً، فقد رأيتُ الملائِكةَ صَوَّروا صورتَهُ»، فقال لها: «صِفيهِ لي..» فوصفته، فاتّخذه لها.
- أوصت لأزواج النبيّ؛ لكلّ واحدةٍ منهنّ اثنتي عشرة أوقية، ولنساء
بني هاشم مثل ذلك... وكانت لها وصية مكتوبة جاء فيها، برواية ابن عبّاس:
«بِسم الله الرّحمنِ الرّحيمِ، هذا ما أَوصَت بِهِ فاطمةُ بنتُ
رسولِ الله صلّى الله عليه وآلِه وسلّم، أَوصَت وهي تَشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا
اللهُ وأنَّ محمّداً عبدُهُ ورَسولُهُ، وأنَّ الجنَّةَ حقٌّ، والنّارَ حقٌّ، وأنَّ
السَاعةَ آتِيةٌ لا رَيبَ فيها، وأنَّ اللهَ يَبعثُ مَن في القبورِ، يا عليّ: أنا
فاطمةُ بنتُ محمّدٍ، زَوَّجَني اللهُ منكَ لِأكونَ لَكَ في الدُّنيا والآخِرةِ،
أنتَ أَوْلى بي مِن غَيْري، حَنِّطْني وغَسِّلْني وكَفِّنّي بِالليلِ وصَلِّ عليَّ
وادْفنِّي بِالليلِ ولا تُعلِم أحداً، وأستَودِعُكَ اللهَ، وأقرأُ على وُلْدِي السّلامَ
إلى يومِ القيامة».
لحظات
عمرها الأخيرة
ثمّ ثَقُل عليها المرض، والإمامُ لا يفارقها، وأسماء بنت عميس تمرّضها،
والحسن والحسين وزينب وأمّ كلثوم عندها، وهي تفيق مرّةً ويُغشى عليها أخرى من شدّة
المرض، وتُجيل بصرها في أولادها..
وفي الرواية عن الإمام الصادق، عن أمير المؤمنين عليهما السلام، قال:
«.. ثمّ أخذتْ عَلَيَّ عَهْدَاً للهِ ورسولِه أنّها إذا تُوفِّيَتْ، لا أُعْلِمُ
أحداً إلّا أمّ سَلَمة زوجَ رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمَّ أيمن، وفضّة،
ومن الرجال ابنَيها، وعبدَ الله بن عبّاس، وسلمانَ الفارسيّ، وعمّارَ بن ياسر، والمقدادَ،
وأبا ذرّ، وحُذيفة. وقالت: (...فَكُنْ مع النّسوة فيمن يغسّلني، ولا تَدْفِنّي إلّا
ليلاً، ولا تُعْلِم أحداً قبري)... فلمّا كانت الليلة التي أرادَ اللهُ أنْ يكرمَها
ويَقبضَها إليه، أخذَت تقولُ: وعليكُم السّلام. يا ابنَ عمّ، هذا جبريلُ أتاني مسلِّماً،
وقال: السلامُ يُقرئُكِ السلام يا حبيبةَ حبيبِ اللهِ وثمرةَ فؤادِه، اليومَ تَلحقينَ
بِالرفيقِ الأعلى وجنّةِ المأوى... ثمّ أخذت تقول: وعليكُم السّلام، وتقول: يا ابنَ
عمّ، هذا ميكائيل يقولُ كَقولِ صاحبِه، ثمّ أخذت ثالثاً تقول: وعليكَ السلامُ، ثمّ
فتَحَت عينيها شديداً وقالت: يا ابنَ عمّ هذا والله الحقّ، عزرائيلُ نَشَر جناحَه
في المشرقِ والمغربِ، وقد وَصَفَه لي أبي وهذه صِفتُه. ثمّ قالت: يا قابضَ الأرواحِ
عجِّل بي... ».
ورُوي عن أسماء أنّ فاطمة عليها السلام لمّا حضرتها الوفاة قالت لها:
«إنّ جبريلَ أتى النبيَّ صلّى الله عليه وآله وسلّم - لمّا حَضَرته الوفاة -
بكافورٍ من الجنّةِ فقسَّمَهُ أثلاثاً، ثُلثاً لنفسه، وثُلثاً لعليٍّ، وثُلثاً لي،
وكان أربعين درهماً، فقالت: يا أسماء آتيني بِبقِيّةِ حنوطِ والدي مِن مَوضِع
كذا وكذا وضِعيهِ عند رأسي، فوضعتُه».
ثمّ قالت لأسماء حين توضّأت وضوءَها للصّلاة: «هاتي طِيبي الذي
أتطيَّبُ به، وهاتي ثيابي التي أُصلّي فيها»، فتوضَّأَت ثمّ تَسَجَّت بِثوبِها،
ثمّ قالت: «انتَظريني هُنيئةً وادعيني، فإنْ أجبتُكِ وإلّا فاعلَمِي أنّي قدمتُ
على أبي، فأرسِلي إلى عليّ».
فانتظرَت أسماء هنيئة ثم نادتها، فام تُجِبْها، فكشفت الثوب عن
وجهها فإذا بها قد فارَقَت الدّنيا، فوقَعَت عليها تقبّلها، فبينا هي كذلك إذ دخل
الحسنُ والحسينُ عليهما السلام، فقالا لها: يا أسماء، ما يُنيم أمَّنا في هذه
الساعة؟
قالت: يا ابنَي رسول الله، ليست أمّكُما نائمة، قد فارَقَت الدنيا!
فوقع عليها الحسنُ يقبِّلها مرة ويقول: «يا أمّاه كلِّميني قبل
أنْ تفارق روحي بدَني»، وأقبل الحسينُ يقبّل رِجلها ويقول: «أنا ابنُكِ
الحسين كلِّميني قبل أن يَتَصدّع قلبي فأموت».
فقالت لهما أسماء: يا ابنَي رسول الله، انطلِقا إلى أبيكما عليّ
فأخبراه بِموت أمّكما، فخرجا حتّى إذا كانا قرب المسجد رفعا أصواتهما بالبكاء،
فقالا: «قد ماتَت أمُّنا فاطمة عليها السلام»، فوقع عليٌّ عليه السلام على
وجهه يقول: «بِمَنِ العزاءُ يا بنتَ مُحمّدٍ، كنتُ بِكِ أَتَعزّى، فَبِمَن
العزاءُ من بَعدِك؟».
التشييع
والدفن
ارتفعت أصوات البكاء من بيت عليٍّ عليه السلام فصاح أهل المدينة
صيحةً واحدة، واجتمعت نساء بني هاشم في دارها، فصرخنَ صرخةً واحدةً كادت المدينة
تتزعزع لها، وأقبل الناس مثل عُرف الفرس إلى عليٍّ عليه السلام، وهو جالس، والحسن
والحسين بين يديه يبكيان، وخرجت أمّ كلثوم، وهي تقول: «يا أبتاهُ يا رسولَ
الله، الآن حقّاً فقدناك فقداً لا لقاءَ بعده أبداً».
واجتمع الناس فجلسوا وهم يضجّون، وينتظرون خروج الجنازة ليصلّوا
عليها، وخرج أبو ذرّ، وقال: «انصرفوا، فإنّ ابنةَ رسول الله قد أُخِّر إخراجُها هذه
العشية».
وأقبل (رجلان) يعزّيان عليّاً
عليه السلام، ويقولان له: يا أبا الحسن، لا تَسبقنا بالصلاة على ابنة رسول الله صلّى
الله عليه وآله وسلّم. ولكنّ عليّاً عليه السلام غسّلها وكفّنها هو وأسماء في تلك
الليلة، ثمّ نادى: «يا أمّ كلثوم، يا زينب، يا حسن، يا حسين، هلمّوا تزوَّدوا
من أمِّكم، فهذا الفراق، واللقاءُ الجنّة»، وبعد قليلٍ نحّاهم أميرُ المؤمنين عليه
السلام عنها. ثمّ صلّى عليٌّ عليه السلام على الجنازة، وشيّعها والحسن، والحسين،
وعقيل، وسلمان، وأبو ذرّ، والمقداد، وعمّار، وبريدة، والعبّاس، وابنة الفضل.
فلمّا هدأت الأصوات، ونامت العيون، ومضى شطرٌ من الليل، أخرجها
أمير المؤمنين عليه السلام ودفنها سرّاً، وأهال عليها التراب، والمشيّعون من حوله
يترقّبون لئلّا يَعرف القوم، ويَمنعهم المنافقون، فدفنوها، وعفا أمير المؤمنين على
موضعِ قبرها.
وقوف
الإمام عليه السلام على قبرها
انتهت مراسم الدفن، ولمّا نفض الإمام يده من تراب القبر، هاج به
الحزن لِفَقد بضعة الرسول التي تذكِّر به:
لكلّ
اجتماعٍ من خليلَين فرقةٌ
|
وكلُّ
الّذي دونَ المَماتِ قليلُ
|
وإنَّ
افتقاديَ فاطماً بعد أحمدٍ
|
دليلٌ
على أنْ لا يَدومُ خليلُ
|
ثمّ قام فحوّل وجهه إلى قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقال: «السَّلَامُ
عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ عَنِّي، والسَّلَامُ عَلَيْكَ عَنِ ابْنَتِكَ وزَائِرَتِكَ
والْبَائِتَةِ فِي الثَّرَى بِبُقْعَتِكَ، والْمُخْتَارِ اللهُ لَهَا سُرْعَةَ اللَّحَاقِ
بِكَ.
قَلَّ يَا رَسُولَ اللهِ عَنْ صَفِيَّتِكَ صَبْرِي، وعَفَا عَنْ سَيِّدَةِ
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ تَجَلُّدِي ".." قَدِ اسْتُرْجِعَتِ الْوَدِيعَةُ
وأُخِذَتِ الرَّهِينَةُ وأُخْلِسَتِ (واختُلِست) الزَّهْرَاءُ، فَمَا أَقْبَحَ الْخَضْرَاءَ
والْغَبْرَاءَ يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ وأَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ،
وهَمٌّ لَا يَبْرَحُ مِنْ قَلْبِي أَوْ يَخْتَارَ اللهُ لِي دَارَكَ الَّتِي أَنْتَ
فِيهَا مُقِيمٌ ".." وسَتُنْبِئُكَ ابْنَتُكَ بِتَظَافُرِ أُمَّتِكَ عَلَى
هَضْمِهَا فَأَحْفِهَا السُّؤَالَ واسْتَخْبِرْهَا الْحَالَ، فَكَمْ مِنْ غَلِيلٍ مُعْتَلِجٍ
بِصَدْرِهَا لَمْ تَجِدْ إِلَى بَثِّه سَبِيلاً، وسَتَقُولُ: ويَحْكُمُ اللهُ وهُوَ
خَيْرُ الْحَاكِمِينَ..».
وروي أنّ عليّاً عليه السلام سوّى قبرها مع الأرض مستوياً، وقيل:
سوّى حواليها قبوراً مزوّرة سبعة، حتى لا يعرف أحدٌ قبرها، وروي أنّه رشّ أربعين
قبراً حتى لا يبين قبرها من غيره من القبور.
فلمّا أصبح الناس أقبل (رجلان) والناسُ يريدون الصلاة على فاطمة عليها
السلام. فقال المقداد: قد دفنّا فاطمة عليها السلام البارحة....
قال العباس: إنّها أَوصَت أن لا تصلّيا عليها.
فقال أحدهما: لا تتركون - بني هاشم - حسدَكم القديم لنا أبداً، إنّ
هذه الضغائن التي في صدوركم لن تذهب، والله لقد هممتُ أنْ أنبشَها فأصلّي عليها!
فقال عليّ عليه السلام: «والله
لو رُمتَ ذاك لا رجعتْ إليك يمينُك، لئن سللتُ سَيفي لا أغمدتُه دون إزهاقِ روحك»،
فانكسر (الرجل) وسكت، وعلم أنّ عليّاً عليه السلام إذا حلَف صدَق.