(وقعة صِفِّين) لنصر بن مزاحم المِنْقَري التميمي
التدوين الموثوق
لوقائع صدر الإسلام
ـــــــــــــــــــــــــ قراءة: محمود إبراهيم ـــــــــــــــــــــــــ
الكتاب: (وقعة صِفِّين)
المؤلف: نصر بن مزاحم المِنْقَري التميمي الكوفي (ت: 212 هجريّة)
الناشر: «دار المحجة البيضاء»، بيروت 2008م
غالباً ما تتعرض الأحداث الكبرى في التاريخ لاختلافات وتباينات شتّى خلال
تسجيل وقائعها، وهذا الحال يعود لأسباب كثيرة: منها الفاصل الزمني بين التدوين
ولحظة وقوع الحدث، ومنها تعدّد المصادر التي يعتمد المؤرّخ عليها لتظهير روايته
التاريخية، ومنها أيضاً، وهذا هو المهم، موقف المؤرّخ العقائدي والإيديولوجي حيال
مجريات الأحداث وانحيازه إلى هذا الفريق أو ذاك ممّن شاركوا في صناعة الأحداث.
هذا لا يعني بطبيعة الأمر، أنّ التحيّز والانتماء لدى المؤرّخ هو معيار غير
محمود النتائج على الصعيد العلمي وعلم التاريخ. فمع هذا الكتاب الذي بين أيدينا سنكون
أمام استثناء في التأريخ لحدث كبير جرت وقائعه في صدر الإسلام، وعنينا به وقعة صِفّين
التي جرت بين جيش أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام وجيش معاوية بن أبي
سفيان.
لقد قيل الكثير حول موقعة صِفّين، ولا يزال الجدل قائماً حيال توصيف هذه
الحرب المفصلية؛ حيث ترتّب عليها مسارات انعطافية في تاريخ الإسلام والمسلمين إلى
يومنا هذا.
رؤية توثيقية لمنعطف كبير
نستطيع القول إنّ مدوَّنة (وقعة صِفّين) لنصر بن مزاحم المِنْقَري التميمي تندرج
في سياق مغاير للمألوف، ولما عهدناه من مدَّونات تراثية وضعت الأمور في غير
مواضعها، وذلك لاعتبارات تتماشى وأهواء السلطات الحاكمة، ولا سيّما السلطة الأموية
التي سعتْ إلى كتابة تاريخ الإسلام وفقاً لمصالحها على مجمل الأصعدة.
لعلّ أهمّ ما في الكتاب أنّ مؤلِّفه كان قريبَ العهد من الحدث إذا ما قورن بما
أنجزه كثيرون ممّن دوّنوا الأحداث الإسلامية الكبرى كالطبري والمقريزي وسواهما.
فقد كانت ولادة المؤلّف أبو الفضل التميمي سنة مائة وعشرين للهجرة. وذلك يعني أنّه
استند إلى مصادر وأخبار وشواهد لم تتعرّض بعمق لانقلاب الصورة، فهو كان بعيداً
نسبيّاً عن جغرافية السلطة الأموية وبيئتها الثقافية والإيديولوجية المباشرة. فقد
سكن في بغداد ثمّ انتقل إلى الكوفة. وفي نظر بعض المؤرّخين والمترجمين هو مؤرّخٌ
ثقة وبارعٌ في تصوير الحرب، وحاذقٌ في رواية الأخبار ونقل الأشعار. وقد استقى أخبار
معركة صِفّين من مصادر قريبة من الأحداث، فحفظ لنا بذلك صوراً أصيلة لأنباء
المعركة. وقد ذكره ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) بقوله: «إنّه ثقةٌ ثَبْت،
صحيحُ الحديث، غيرُ منسوبٍ إلى هوى ولا إدغال، وهو من رجال أصحاب الحديث». ويقال
أيضاً إنّ له (كتاب الجمل)، وهو مفقود، وربّما له مؤلّفات أخرى قد فُقدت أيضاً.
توفّي حوالي سنة 212 هجريّة.
وما من شكّ، فإنّ مطالعة الأحداث التي ساقها المؤلّف تنمُّ عن منهجية علميّة
في التدوين بعيداً عن الأحكام المسبقة، رغم أنّ الكاتب، كما هو معروف، يدين
بالولاء لأهل البيت عليهم السلام، والانتصار لولاية أمير المؤمنين عليّ بن أبي
طالب عليه السلام.
رواية المحقّق
يستفاد ممّا ذكره محقّق الكتاب المؤرّخ اللبناني حسين علي قصفة، وهو من
مواليد بنت جبيل جنوب لبنان أواخر القرن التاسع عشر، أنّ الكتاب حاز على اهتمام
الجاليات الإسلامية في الولايات المتحدة حيث كان مهاجراً إليها، وذلك نظراً لندرة
الكتب العربية المحقّقة حول هذا الموضوع على وجه الخصوص.
يروي محقّق هذا الكتاب في مقدّمة الطبعة الأولى، فيقول: «..وما كادت نُسَخ
هذا الكتاب تنفد حتّى نهض السيد عبد اللطيف نجل الحاج علي حمّود، غفر الله له
ولوالديه، لإعادة طبعه على نفقته، وطلب منّي أن أقوم بضبطه وتصحيحه. فلبّيتُ طلبه..».
ويُشار إلى أنّ أحد أحفاد المحقّق تولّى في السنوات الأخيرة العناية بالكتاب
مجدّداً، وتقديمه للقارئ العربي في طبعته الصادرة سنة 2008م على نحوٍ أكثر دقّة؛ لِجهة
ضبط المعطيات والأخبار، وذلك بعد انصرام نحو تسعة عقود على الطبعة الأولى.
في أيّ حال، تدخل أهمية هذا الكتاب ضمن ما يُمكن اعتباره تغطية وثائقية
لحدث عظيم في تاريخ الإسلام، الأمر الذي يضع هذه الوثيقة في عداد الوثائق المرجعية
التي يختزنها التراث التاريخي الإسلامي.
فقرة من الكتاب
ليلة
الهَرير وبداية «التحكيم»
«..
وزحفَ الناسُ بعضُهم إلى بعضٍ فارتموا بالنّبل والحجارة حتّى فنيتْ، ثم تطاعنوا
بالرماح حتّى تكسّرت واندقّت، ثمّ مشى القومُ بعضهم إلى بعضٍ بالسّيف وعَمَدِ
الحديد، فلم يسمع السامعُ إلا وَقْع الحديد بعضِه على بعض؛ لَهُوَ أشدُّ هولاً في
صدور الرجال من الصواعق، ومن جبال تهامة يدكّ بعضها بعضاً..
وأخذ
الأشترُ يسير فيما بين الميمنة والميسَرة، فيأمر كلّ قبيلة أو كتيبة من القرّاء
بالإقدام على التي تليها. فاجتلدوا بالسيوف وعَمَدِ الحديد من صلاة الغداة إلى نصف
الليل... وافترقوا عن سبعين ألف قتيلٍ في ذلك اليوم وتلك الليلة، وهي (ليلة الهَرير).
وكان
الأشتر في ميمنة الناس، وابن عباس في الميسَرة، وعليٌّ عليه السلام في القلب،
والناسُ يقتتلون. ثمّ استمرّ القتال من نصف الليل الثاني إلى ارتفاع الضحى،
والأشتر يقول لأصحابه وهو يزحف بهم نحو أهل الشام: (ازحفوا قيدَ رمحي هذا). وإذا
فعلوا قال: (ازحفوا قابَ هذا القوس). فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك... فلا يزال الرجلُ
من الناس يخرج إليه ويقاتل معه.... ثمّ نزل (الأشتر) وضرب وجهَ دابّته... ثم شدّ
على القوم، وشدّ معه أصحابه يضرب أهلَ الشام حتّى انتهى بهم إلى عسكرهم. ثم إنهم
قاتلوا عند العسكر قتالاً شديداً.. وأخذ عليّ عليه السلام يمدّه بالرجال... فبلغ
ذلك معاوية فدعا عمرو بنَ العاص، فقال: يا عمرو، إنما هي الليلة حتّى يغدو عليٌّ
علينا بالفيصل، فما ترى؟
قال
عمرو: إنّ رجالك لا يقومون لرجاله، ولستَ مثلَه... أنت تريد البقاء وهو يريد
الفناء. وأهلُ العراق يخافون منك إنْ ظفرتَ بهم، وأهلُ الشام لا يخافون عليّاً إنْ
ظفر بهم. ولكن ألقِ إليهم أمراً إن قبلوه اختلفوا، وإن ردّوه اختلفوا. ادعُهم إلى
كتاب الله حكَماً فيما بينك وبينهم، فإنّك بالغٌ به حاجتَك في القوم...».
(نصر بن مزاحم،
وقعة صفين)