المهدويّة والأصول الخمسة
رؤية في أركانها ومرتكزاتها الإلهية
§
د. إدريس هاني
* «لو نظرنا إلى المهدويّة
على أنها قاعدة وجدانية استدلالية، وليس فكرةً مستدلّاً عليها، فإنّها ستصبح
موضوعاً جامعاً لكلّ المعتقدات الإسلامية؛ وأعني ههنا الأصول الخمسة. لأنها
العنوان الذي يمثّل النتيجة الحتمية للاعتقاد بالأصول الخمسة، كما أنّ الاعتقاد
بالمهدويّة يجعل الاعتقاد بالأصول الخمسة أمراً حتميّاً».
بهذه
الفكرة يمهّد الباحث الإسلامي الدكتور إدريس هاني لفصل «المهدويّة في ضوء الأصول
الخمسة» من كتابه (المهديّ المنتظَر – فلسفة الغَيبة وحتمية الظهور، ص 109 – 135)،
ومنه اخترنا مقتطفات من كلامه على الصِّلة بين «المهدويّة» وكلٍّ من التوحيد
والنبوّة.
«شعائر»
ربّما شقّ على البعض أنْ
يكون الحديث حول المهدويّة هو فرعٌ للحديث عن الإمامة نفسها، كما لو كان القول في المهدويّة
لا يقع إلاّ في طول القول في الإمامة. ومع أنّ جانباً من الصحّة يعكسه هذا الرأي، إلاّ
أننا نعتقد أيضاً أنّ المهدويّة هي بالأحرى عقيدة قائمة بذاتها؛ حيث إنّ موضوعها ثابت
في الوجدان الديني وغيره على النحو الأعمّ..
إنّها بهذا المعنى، فكرة
راسخة في الوجدان البشريّ. بل هي المشترك الذي قد يحصل تصوّره بدفعة واحدة؛ ولا تأتي
المكابرة إلاّ في مرحلة ثانوية، بعد أنْ كانت المهدويّة حدساً يتعقّله الوجدان حضورياً.
فلو سألتَ أيّ كائن بشريّ
في كل جيل وفي كل دين؛ هل ترجو شيئاً؟ أو لمَ تحمل بعض الأمل على الرغم من كل صنوف
العذابات التي تلمّ ببني البشر؟ لأجاب فوراً: نعم أرجو الكثير وآمل في الكثير. إنّ
المستقبل في وجدان البشر لا محالة هو أفضل. وإذا سألت كيف تتوقّعه؟ ربما هام وفتح المجال لأقصى
الخيال.
وبين سؤال الأين وسؤال
الكيف، خرج الموضوع عن الإجماع بالجملة، لتتكاثر الأفكار والأحاسيس والرسوم...
ولو أسّسنا لهذه القاعدة
الكلامية، لاعتبرنا المهدويّة أساساً صالحاً للبرهنة على ما قبلها من اعتقادات.
إنّ المهدويّة بهذا المعنى،
لو أصبحت قاعدة وجدانية استدلالية وليس فكرةً مستدلّ عليها، فإنّها ستصبح موضوعاً جامعاً
لكل المعتقدات الإسلامية؛ وأعني ههنا الأصول الخمسة. لأنها العنوان الذي يمثّل النتيجة
الحتمية للاعتقاد بالأصول الخمسة، كما أنّ الاعتقاد بالمهدويّة يجعل الاعتقاد بالأصول
الخمسة أمراً حتمياً.
المهدويّة
والتوحيد
تؤكّد العقيدة المهدويّة
أنّ مستقبل البشرية متجّهٌ نحو الوحدة والتوحيد. بل هي الوسيلة الأقرب إلى الوجدان،
دلالةً على إمكان التوحّد على فكرةٍ خلاصيةٍ للنوع. بهذا المعنى تصبح المهدويّة ضرورةً
توحيدية.
لقد ارتبط ذكر المهديّ
عليه السلام بالتوحيد والوحدة. فهو يَجمع البشريةَ على توحيد
الله وعلى وحدة الاجتماع السياسيّ القائم على وحدة النظام وشريعة محمّدٍ صلّى الله
عليه وآله وسلّم كما يتدبّرها بالتأويل من أُوتي الحكم الواقعيّ.
فإذا كان التكاثر في وجهات
النظر مردّه إلى سيادة الظّنون، وانحسارٍ في العلم الواقعيّ، فإنّ سياسةَ الخلق بالحكم
الواقعيّ والقطع الجاري مجرى المطابقة القطعية، كفيلٌ بتوحيد الناس على نسَقٍ اجتماعيّ
وسياسيّ. إن أكبر تجلٍّ للتوحيد وظهور دين الله في الأرض سيكون على يد المهديّ عليه
السلام؛ وبذلك يكون المهديّ ضرورة توحيدية، في عالمٍ تصدّع بالتكاثر وتمزّقت أطرافه
وازدادت تناقضاته. وحيث سيؤلّف المهديّ بين الجموع المتنافرة ويوحِّد الخلق على الناموس،
يكون قد عبّر عن تجلّي الوحدة والتوحيد. وبه يتحقّق الوعد الإلهيّ: ﴿.. وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا..﴾ (آل
عمران:83)، وهي لن تتحقّق، إلاّ بمجيء المهديّ عليه
السلام الذي «سيملأُها عدلاً كما مُلئتْ جَوراً».
إنّك تجد أنّ المهديّ عليه
السلام يجسّد منتهى تجلّي التوحيد في العالم. فلو نظرتَ إليه من خلال الأسماء الحسنى
الإلهية لرأيته مصداقاً أوفى لها. وذلك تأسيساً على النبويّ الذي حثّ المؤمن على التقرّب
بالنوافل، حتّى «يكون سمْعَه الذي يسمعُ به، ويدَه التي يبطشُ بها...» وما إليها
من معانٍ أحصاها العرفاء في مستوى قرب الفرائض وقرب النوافل، مع فارق جوهريّ بين أن
يصبح المؤمن هو يد الله التي يبطش بها، وبين أن يصل مقاماً يكون الله هو سمعُه الذي
يسمع به ويده التي يبطش بها. وهو مصداق قوله تعالى: ﴿.. وَمَا
رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..﴾ (الأنفال:17)؛
مقامات متاحة لعموم السُلاّك والعارفين، فكيف بمن وُعد بالتمكين وكان قائماً حجّةً
على الخلق؟!
إنّ عنوان التمكين الذي
يعكس القدرة الإلهية، سمةٌ من سمات القائم عليه السلام، وهو أثرها الأوفى. وهكذا يمكننا
قراءة مظاهر الظهور في ضوء الصفات الثبوتية، لندرك أن المهديّ، هو تجلّي صفة العلم،
حيث سيُؤتى تمامه.
كما أنّه تجلٍّ لصفة الحياة،
حيث طول العمر مصداقٌ أوفى للحياة، فليس ذلك على الله بعزيز وهو الحيّ القيّوم. وهكذا
سائر الصفات الثبوتية كالكلام، والقدرة، والعدل، والوحدانية التي ستسم عصر المهديّ
عليه السلام؛ عصراً سيُوقف البشرية على أحكام الله الواقعية والحقائق كما هي وفي نفس
الأمر. وهي الأمور التي متى غابت تكاثرتْ حولها أهواء البشر، فتكون الوحدانية والتوحيد
عنواناً بارزاً في عصرٍ يضع حداً لشقوة التكاثر برسم الأهواء. حيث في التكاثر عنوان
الضعف والتباسُ الحقائق وامتناع العلم واشتداد الانسداد. ومع الحجّة القائم، هناك ظهورٌ
لكلّ شيء؛ للعلم والحقائق والمقاصد، وغياب الحواجز والتمكّن من بلوغ المصالح بالطرق
العادلة وخارج سطوة الإنسان وظُلمه. فمن يطلب التكاثر بالباطل والتعدّد بالهوى حينئذٍ،
لا يكون إلا شقيّاً!
المهدويّة
والنبوّة
إذا كانت وظيفة النبيّ
صلّى الله عليه وآله وسلّم كامنةً في التنزيل، فوظيفة الإمام عليه السلام كامنةٌ في
التأويل. وكما قاتل أمير المؤمنين عليه السلام على التأويل، سيعود الأمرُ قبل استتباب
الأمر لمهديّ الأُمّة كما بدأ، فيبارزه الناس بالتأويل الفاسد، ويقاتلهم بالتأويل الصّحيح.
فينتصر، وهو آخر الأوصياء وخاتم (الأولياء).
فمتى أدركنا أنّ الأمور
أشباه، اعتبر آخرها بأولها. ومتى أدركنا أنّ لا وجود لأمرٍ تكوينيّ أو تشريعيّ إلاّ
وفق حكمة مقاصدية كما أكّد الأئمة الأطهار، فإنّ وجود الإمام هو في مقام البدل الشاغل
للفترات قبل بعثة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم بالأولوية أبدال ما بعد الرسالة
الخاتمة لانقطاع الوحي وختْم الرسالة. فكيف يُقال بلا جدوى حضور المهديّ عليه السلام،
وقد اتّسعت دائرة الانسداد، وحيث عادت قاعدة قبح العقاب بلا بيان، العمدة في زمان ما
بعد العلم والبيان؛ واستبدّت الظنون خاصّها وعامها؟
إلاّ أنْ يقال؛ إنّ الأمّة
عاشت زمان التنزيل دون أنْ تدرك من زمان التأويل ما يقيم البيان ويعضده. وحيث لا يعلم
متشابه التنزيل إلاّ الله والراسخون في العلم، وقد ظهر أن الراسخين في العلم هم الأئمّة
من العترة الطاهرة، حيث أجاب الصادق عليه السلام شارحاً الآية الكريمة: ﴿.. وَمَا
يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ..﴾
(آل عمران:7)، فقال: «نحن نعلمُه». وحيثما استمرّت
أطياف المتشابه وتلابست الأمور كان لازماً وجود الراسخين في العلم؛ ومصداقهم المهديّ
المخلّص عليه السلام: «فأينَ تَذهبون وأنّى تُؤفكون والأعلامُ قائمةٌ والآياتُ واضحةٌ
والمنارُ منصوبة، فأينَ يُتاهُ بكم، بل كيف تَعمهون وبينكم عترةُ نبيّكم؟»، كما
قال أمير المؤمنين عليه السلام.
إنّ ظهور الإمام
المهديّ عليه السلام وخفاءه لا يؤثّر في الدور الذي يقوم به، إلاّ أنّ لظهوره شأناً
عظيماً يفوق ما يقوم به من أدوار في الخفاء. وهذا ما يؤكّد أنّ الإمام حاضرٌ في إجماعات
الفقهاء اليقينية، فهو مانعُهم من انعقاد إجماعهم على الخطأ.
ودائماً، وبناء على الأولوية
القطعية، نقول: إذا كان المهديّ شأنه شأن الخضر - وهو حقاً خضر الأمّة - يحضر في البسائط
من الأمور وما يخصّ أفراد الأمّة، يتدبّر أمورهم، كيف لا يكون حضوره آكد في القضايا
المصيرية للأمة وما يختصّ بالجماعة، كما هو حال الإجماعات؟
إذا لم تكن مهدويّة الخضر
مزاحمةً لنبوّة موسى، فما الغرابة في وجود مهديّ الأمّة إذاً؟! لا بل إنها في حال عدم
وجود النبيّ هي آكد بالأولوية القطعية. وإذا كانت مهدويّة الخضر ونظائره في تاريخ الرسالات
الذي عرفنا منه القليل وجهلنا منه الكثير، نافعة في زمان البعثات، فما وجه الغرابة
أن تكون نافعة في زمان غياب الرسُل؟ بل سوف تكون إذ ذاك آكد في النفع متى أدركنا أن
الرسالة الخاتمة تستدعي وجود مهديٍّ يحمل من خصائص عظَمة الرسالة الخاتمة أيضاً، حيث
لا يمكن انبعاث نبيّ آخر.
إنّ مقتضى الخاتمية أن
يكون المهديّ عليه السلام، حيث لا فترة بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. فتصبح
الخاتمية دليلاً أقوى على ضرورة «المهديّ» أكثر من الرسالات غير الخاتمة، متى أدركنا
مقاصد النبوّة ومقاصد المهدويّة.
إن فكرة الخلاص الأخير
والمهدويّة بأوصافها العظيمة هي الدليل على عظَمة النبوّة نفسها، حيث ثبوت العظَمة
للفرع هي عنوان ثبوتها للأصل. فحيثما اتّجه النظر إلى المستقبل، تضخّم الإحساس بضرورة
الخلاص وشموله. فالمهدويّة بالأوصاف العظمى التي خلّدتها التعاليم الدينية هي الدليل
الأبرز على أن ما كان قبلها من رسالة هو الأعظم والخاتَم بلا شكّ.
إنّ وظيفة المهديّ عليه
السلام مكمّلة لوظيفة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وقد يقال ههنا كيف يتمّ ذلك
وقد أكملَ اللهُ دينه وأتمّ نعمته؟ غير أن الشبهة هنا واضحة التهافت. فتمام الرسالة
ببيان وظيفة المهديّ والإخبار عنه؛ فهو مشمولٌ في آية الإكمال. وشاهده قول الإمام الرضا
عليه السلام: «إنّ الله تبارك اسمُه لم يقبضْ رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم حتّى
أكملَ له الدينَ؛ فأنزلَ عليه القرآنَ فيه تفصيلُ كلّ شيء، بيّنَ فيه الحلالَ والحرامَ
والحدودَ والأحكام وجميعَ ما يحتاج الناس إليه كَمَلاً؛ فقال عزّ وجلّ: ﴿..مَا
فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ..﴾، وأنزل عليه في حجّة الوداع - وهي آخر
عُمره: ﴿..الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ
نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا..﴾، وأمرُ الإمامة من تمام الدين..».
وبها يتحقّق تمام النعمة بالتأويل كما تمّت النعمةُ قبله بالتنزيل. (الأنعام:38)
(المائدة:3)
إنّ تمام النعمة في زمن
التنزيل كان بالقوّة. بينما سيكون تمام النعمة في زمن التأويل بالفعل. وهذا ما أكّدته
الآيات والأخبار، حيث جاء لسانها بصيغة (اللّو)، نظير قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ
أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ
السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ..﴾. (الأعراف:96)
لكنّ وقوع ذلك سيكون في
زمن المهديّ بالفعل، حيث سيتحقّق ذلك كما دلّت الآيات والأخبار. فمن الآيات قوله تعالى:
﴿بَقِيَّةُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ..﴾. (هود:86)
ومن الأخبار، ما جاء في
رواية لأمير المؤمنين يشرح فيها قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ
بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ..﴾، فسأل الجالسين:
«أَظَهَرَ بعدُ ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: كلا، فالّذي نَفسي
بيده، حتّى لا تبقى قريةٌ إلا ويُنادى فيها بشهادة أنْ لا إلهَ إلا اللهُ بُكرةً
وعَشِيّاً». (التوبة:33)
أقول، إنّ المهديّ مصداقٌ
لمعنى الآية، حيث ذكر إرسال الرسول بالهدى. فالهدى والظهور، هما أصدق في المهديّ الذي
هو من متمّمات هذا الأمر.
ليست وظيفة المهديّ التكميلية
منافية لكمال التنزيل.. بل هي إكمالٌ في طول المضامين النبوية. إنّها ليست اجتراحاً
لدينٍ جديد أو رسالةٍ جديدة على نحو الجعل البسيط، بل هي إكمال وتأويل وتشكيل متطوّر
لرسالة الإسلام على نحو الوجود المركّب. إن المهديّ سيحقّق كلّ مطالب النبوّات والرسالات
بإقامة العدل بين الناس، والقضاء على الظلم والطغيان. وما دام أن أكثر دعوات الأنبياء
لم تتحقّق في توحيد البشرية على التوحيد وتطهير الأرض من الظلم، كدعوة نوح بأنْ لا
يذَرَ على الأرض من الكافرين ديّاراً؛ فإن المهديّ عليه السلام سيتوفّر له من وسائل
الإعجاز ما لم يتوفّر لغيره. بل ما من معجزةٍ كانت لنبيّ إلا ويؤتاها حتّى يتحقّق المراد.
أو كما قال الإمام الباقر عليه السلام: «ما من معجزةٍ من معجزاتِ الأنبياءِ والأوصياء
إلا ويُظهر اللهُ تبارك وتعالى مثلَها على يد قائمِنا لإتمام الحجّة على الأعداء».
إنّ المهديّ عليه السلام
هو محقّق رجاء كلّ الأنبياء؛ وليس إلاّ المهديّ حقيقٌ بهذا الدور؛ فالمهديّ بهذا المعنى
هو ضرورة نبويّة ورساليّة!