جوانب من رؤى الإمام الخميني العرفانية
الزهد في المعرفة من تلبيسات النفس الأمّارة
ــــــــــــــــــــ الشيخ إبراهيم الأنصاري* ــــــــــــــــــــ
يعدّ الإمام الخميني قدّس سره من أبرز الحكماء والعرفاء في القرن
الأخير، فضلاً عن تبحّره في العلوم النقلية، وضلوعه في السياسة، وقدرته على
الإدارة. وتتميّز أفكاره العرفانية بالصِّبغة القرآنية والروائية، فهو لا يعتقدُ
فصلاً بين العرفان والقرآن الكريم، وله إسهاماتٌ جليلة في المجالين النظري والعملي
من العرفان.
تسلّط هذه المقالة الضوء على من جوانب رؤية الإمام الخميني العرفانية،
وأحد عناوينها تحذيره الشديد من إنكار مقامات الأولياء؛ باعتباره كُدورة تقضي على نور الفطرة، وسدّاً مانعاً من نيل المعارف الإلهية.
العرفان النظريّ: هو الوصول إلى معرفة الله عزّ وجلّ من خلال النظر والملاحظة.
فالعالم بسَعته ليس إلا حرفاً وتعبيراً عن الفقر المطلق إلى «الغنيّ» المطْلق
بالذات.
وتتجلّى هذه الحقيقة في
الأدعية والزيارات التي طالما حثّ عليها الإمام الخمينيّ قدّس سرّه، وقد خصّ
بالذكر في وصيّته المباركة بعض الأدعية، حيث قال: «نحن نفخر أن تكون منّا المناجاة الشعبانية للأئمّة، ودعاء عرفات
للحسين بن عليّ عليهما السلام، والصحيفة السجّادية زَبور آل محمد، والصحيفة
الفاطمية؛ وهي الكتاب الملهَم من قِبل الله تعالى إلى الزهراء المَرْضِيّة».
فلماذا التأكيد على هذه
الأدعية والصُّحف دون غيرها؟
* أما المناجاة الشعبانية
لأمير المؤمنين عليه السلام، فهي التي ورد أن جميع الأئمّة المعصومين عليهم السلام
كانوا يدعون بها. ويُكثر الإمام الخميني من الاستشهاد بفقراتها في مؤلّفاته، كما
أنه يصرّح بأنها ودعاء كميل من أجَلّ ما ورد عن المعصومين عليهم السلام في باب
الدعاء. فضلاً عن اشتمالها على مقطعٍ عرفانيّ حسّاس، وهو قوله عليه السلام:
«إلهي هَبْ لي كمالَ
الانقطاع اليك، وأنِر أبصارَ قلوبنا بضياء نظرِها إليك، حتّى تخرقَ أبصارُ القلوبِ
حُجَبَ النور، وتَصِلَ إلى معدن العظَمة، وتصيرَ أرواحُنا معلّقةً بعزّ قدسِك،
الهي واجعلني ممّن ناديتَه فأجابك، ولاحَظْتَه فَصَعِقَ لجلالك..».
* وأمّا مصحف فاطمة عليها
السلام: فالحديث عنه عظيمٌ للغاية،
فبعد أن ينقل الإمام عن (الكافي) الشريف الحديث المعروف عن مصحفها عليها السلام،
يقول:
«..وظاهر الرواية أنه كانت
تحصل مراودة خلال هذه الخمسة والسبعين يوماً، أي أنّ هبوط جبرئيل وصعوده كان كثيراً،
و لا أظنّ أنه قد ورد في حقّ أحدٍ - غير
الطبقة الأولى من الأنبياء العظام - مثل ما ورد في شأنها؛ من أنّ جبرئيل الأمين، وخلال
مدة خمسة وسبعين يوماً، كان يهبط عليها ويذكر لها القضايا التي ستقع في المستقبل
وما سيجري على ذريّتها...».
* وكذلك دعاء عرَفة للإمام
الحسين عليه السلام، فإنه يشتمل على مقاطع
عالية المضامين وعميقة المحتوى. يقول الإمام عليه السلام: «أَيَكُونُ
لِغَيْرِكَ مِنَ الظُّهُورِ مَا لَيْسَ لَكَ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الْمُظْهِرَ لَكَ؟!
مَتَى غِبْتَ حَتَّى تَحْتَاجَ
إِلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْكَ؟
ومَتَى بَعُدْتَ حَتَّى
تَكُونَ الْآثَارُ هِيَ الَّتِي تُوصِلُ إِلَيْكَ؟
عَمِيَتْ عَيْنٌ لَا تَرَاكَ
عَلَيْهَا رَقِيباً، وخَسِرَتْ صَفْقَةُ عَبْدٍ لَمْ تَجْعَلْ لَهُ مِنْ حُبِّكَ
نَصِيباً».
* وأمّا الصحيفة السجّادية: فيقول عنها الإمام الخميني قدّس سرّه في (الآداب المعنوية للصلاة):
«تلك الصحيفة النورانية التي
نزلتْ من سماء عرفان العارف بالله والعقل النورانيّ؛ سيّد الساجدين، لخلاص عباد
الله من سجن الطبيعة، وتفهيمهم أدب العبودية والقيام في خدمة الربوبيّة».
العرفان العملي (العمل الصالح)
العرفان العمليّ: هو الوصول إلى المعشوق والذوبان فيه إلى مستوى العينيّة والتوحيد في
الفعل، فلا استقلالَ للإنسان حينئذٍ، فالفقير المطلق قد فنيَ في «الغنيّ» المطلَق.
يقول الإمام الخميني رضوان
الله تعالى عليه في (الأربعون حديثاً):
«إن الموجودات كافة مسخّراتٍ
بأمر الحقّ، ومطيعاتٍ للأوامر الإلهية. كما أن الآيات القرآنية التي أشارت إلى ذلك
كثيرة. قال تعالى: ﴿.. وَمَا رَمَيْتَ إِذْ
رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى..﴾. (الأنفال:17)
إن هذا الإثبات والنفي – وما
رميتَ إذ رميت – إشارة إلى مقام الأمر بين الأمرين، بمعنى أنك رميت، وفي نفس الوقت
أنكَ لم ترمِ بقدرتك المستقلّة، بل إنما حصل الرمي بواسطة ظهور قدرة الحقّ في
مرآتك، ونفوذ قدرته في عالم مُلكك وملكوتك. فإذاً، أنت تكون رامياً، وفي نفس
اللحظة يكون الحقّ جلّ وعلا رامياً.
وتضاهي تلك الآية المجيدة،
الآيات الشريفة المذكورة في سورة الكهف المباركة عند بيان قصّة الخضر وموسى عليهما
السّلام... فإنّ الخضر كشف أسرار عمله لموسى عليهما السلام، ونسب مورد العمل
الناقص والمعيب إلى نفسه قائلاً: ﴿.. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا.. ﴾. (الكهف:79)
وفي موردٍ آخر - مورد الكمال
- نسب العمل إلى الحقّ سبحانه: ﴿..فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا..﴾.
(الكهف:82)
وفي موردٍ ثالث، نسب العمل
إلى الطرفين، قائلاً: ﴿فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا..﴾ (الكهف:81)،
وكلّ ذلك يكون صحيحاً».
ومن هذا المنطلق ينبغي للعبد
أن ينسى نفسه ويذكر الله تعالى دائماً، وهذا هو الكمال بعينه، وللإمام تعبير لطيف
في تبيين هذه الحقيقة حينما شرح قول الإمام الباقر عليه السلام في دعاء البهاء: «اللّهُمّ
إنّي أسألُكَ مِن بَهائِكَ..»، قال في (شرح دعاء السَّحَر):
«.. (إنّي): لم يكن هذا
في الحقيقة إثباتَ الأنانية، لأنّ الأنانيّة تنافي السؤال، والداعي يقول: إنّي أسألك.
وهذا نظير قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى
اللَّهِ..﴾ (فاطر:15)، مع أن أنتمية السوائية مدار الاستغناء لا الفقر، فما كان
منافياً لمقام السالك إلى الله تعالى [هو] إثباتُ الاستقلال والاستغناء كتسمية (أنتم)
في قوله تعالى: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ..﴾
(النجم:23). وأمّا إثبات الأنانيّة في مقام التذلّل وإظهار الفقر فليس مذموماً، بل
ليس من إثبات الأنانية، نظير (أنتم) في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ
الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ..﴾..».
حقيقة الخدمة
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه
هو: كيف يمكن للإنسان الوصول إلى هذا المستوى من العرفان العملي الذي هو غاية
الكمال البشريّ؛ أعني العبودية لله تعالى؟
الجواب يكمن في مقطع آخر من
دعاء عرَفة الذي يبيّن حقيقة العمل الصالح بما له من معنى وسَعة. يقول سيّد
الشهداء عليه السلام: «إِلَهِي تَرَدُّدِي فِي الْآثَارِ يُوجِبُ بُعْدَ
الْمَزَارِ، فَاجْمَعْنِي عَلَيْكَ بِخِدْمَةٍ تُوصِلُنِي إِلَيْكَ».
فيا ترى، ما هذه الخدمة التي
توصل العبد إلى الله تعالى بما لكلمة الجلالة من محتوى، أعني الاسم الأعظم الشامل
لكافة الأسماء والصفات؟
هنا قد تميّز إمامنا الراحل عن
غيره من العرفاء، فهو لم يرَ الخدمة منحصرة في الأمور المتعارفة مثل قضاء حوائج
الناس على مستوى الأفراد، أو كسوة اليتيم، أو التبرّع لمشروع مقدّس فحسب، بل قد
توسّع رضوان الله عليه في هذا المجال إلى مستوى الوقوف قبال المستكبرين الذين هم
حجر عثرة لابدّ من إزالته لينفتح طريق الرشد والكمال، ويتسنّى للإنسان الوصول إلى
الكمال المطلوب الذي هو غاية العبودية.
والذي جعله يستقيم في مسيرته
هذه ليس هو الوصول إلى الدولة الإسلامية كهدف رئيس، بل الوصول إلى الله والفناء
فيه وكسب رضاه، وبين الأمرين فاصل كبير وبون بعيد...
إنكار المقامات.. نجاسة معنويّة
من الخطأ أن يرى الإنسان نفسه
عالماً ليس بخاطئ، بل ينبغي له احتمال الخطأ دائماً فلا يغترّ بعلمه. فكم من جاهلٍ
أهلكته خيالاته الواهية فلم يسعَ للوصول إلى الحقيقة! نلاحظ أن الإمام الخميني يركّز
على هذا الأمر في كتبه المختلفة، معاتباً هؤلاء المنكرين للحقائق بمجرّد سماعها من
دون الإمعان في صحّتها وسقمها.
يقول قدّس سرّه في (تفسير
فاتحة الكتاب):
«إنّ عدم إنكار الحقائق
هو الخطوة الأولى، يجب أن نصدّق بتلك الحقائق، لا ينبغي للإنسان أن ينكر كلّ ما لا
يعلمه. يجب أن يكون قبوله لفكرة ما مستنداً إلى برهان، وكذلك نفيُه لها عن برهان
ودليل، فإنْ لم يكن لديه برهان على النفي أو الإثبات فعليه أن يقول: لا أعلم.
إنّ علمنا لا يصل إلى ما
وراء هذا العالم، وما توصّلنا له من هذا العالم فهو ناقص أيضاً، فلا زالت المجاهيل
كثيرة، وإلى ما قبل قرن من الزمان كانت هناك الكثير من المجهولات التي أصبحت اليوم
معلومة، وسوف تتّضح مستقبلاً غيرها.
فإذا كنّا لم نستطع أن نفهم
هذا العالم، ولم يستطع الإنسان أن يعرفه، فما هو مبرّر إنكاره لما عند الأولياء؟!
هذا القلب قلبٌ (إنكاريّ) محرومٌ كليّاً من دخول الحقائق والأنوار إليه..».
ويقول في كتاب (الآداب
المعنوية للصلاة):
«..أعظم القذارات
المعنوية التي لا يمكن تطهيرها بسبعة أبحُر... هي قذارة الجهل المركّب الذي هو
منشأ الداء العضال؛ ألا وهو إنكار مقامات أهل الله وأرباب المعرفة ومبدأ سوء الظنّ
لأصحاب القلوب، وما دام الإنسان ملوّثاً بهذه القذارة لا يتقدّم خطوة إلى المعارف،
بل ربما تطفئ هذه الكدورةُ نورَ الفطرة الذي هو مصباح طريق الهداية، وينطفئ بها
نار العشق التي هي براق العروج إلى المقامات، ويخلّد الإنسان في أرض الطبيعة،
فاللازم على الإنسان أن يغسل هذه القذارات عن باطن القلب بالتفكّر في حال الأنبياء
والأولياء الكمَّل صلوات الله عليهم، وتذكّر مقاماتهم، وألاّ يقنع بالحدّ الذي هو
فيه، فإنّ الوقوف على الحدود والقناعة في المعارف، من التلبيسات العظيمة لإبليس
والنفس الأمّارة، نعوذ بالله منها..».
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عالم دين وباحث من
البحرين، والنصّ مختصر نقلاً عن موقعه الإلكتروني (الكوثر)