رسالة الصحابيّ أبي ذرّ الغفاريّ إلى حُذيفة بن
اليمان
مَن علم أن الجنة حقّ استصغر الخروجَ من أهله
وماله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رواية العلامة
المجلسي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسالة
بعثها الصحابيّ الجليل أبو ذر الغفاريّ إلى الصحابيّ حذيفة بن اليمان، لمّا سيّره
عثمان بن عفّان من المدينة المنوّرة إلى الرَّبَذة، حيث توفَّي غريباً.
وقد
ضمّن أبو ذرّ رسالته إلى حذيفة –
وكلاهما ممّن
أخلص الولاء لأمير المؤمنين عليه السلام عقب وفاة رسول الله وانقلاب الناس على
أعقابهم – وصيّة جليلة في الاستعداد للقاء الله
والصبر على الأذى في جنبه تعالى.
بدوره،
يبعث ابن اليمان إلى أبي ذرّ رسالة جوابيّة، يواسيه فيها ويستعيذ بالله من شرور
ذلك الزمن.
تتضمّن هذه
المقالة متن الرسالتين، نقلاً عن (بحار الأنوار: 22/408-410)، وترجمة أبي ذرّ من (أعيان الشيعة) للسيد الأمين؛ كلاهما عن (الفصول المختارة من العيون والمحاسن) للشريف المرتضى، والأصل لأستاذه الشيخ المفيد.
«..لمّا انصرف عليٌّ عليه السلام من تشييع
أبي ذرّ استقبله الناس، فقالوا:
يا أبا الحسن،
غضب عليك (فلان) لتشييعك أبا ذرّ. فقال عليٌّ عليه السلام: (غَضَبُ الخَيلِ عَلَى صُمِّ اللُّجُم). [الصُّمّ: الحديدة التي في لجام الفرس، والمعنى أنَ الخيلَ
إذا غضبت آذتْ نفسها لا غير]
..
(و) عن أبي أمامة قال:
كتبَ أبو ذرّ إلى حُذَيفة بن اليَمان
يشكو إليه ما صنع به عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم:
أمّا بعدُ يا
أخي، فَخَفِ اللهَ مخافةً يكثُر منها بكاءُ عينيك.
وحرِّر قلبك، وسَهِّر ليلَك، وانصبْ بدنَك في طاعة ربّك، فحقٌّ لمَن
علمَ أنّ النارَ مثوى مَن سخطَ اللهُ
عليه أن يطولَ
بكاؤه ونَصَبُه وسهَرُ ليلِه، حتّى يعلمَ أنّه قد رضيَ اللهُ عنه.
وحَقٌّ لمَن علمَ أن الجنّة مثوى مَن رضيَ اللهُ عنه أن يستقبلَ الحقَّ
كي يفوزَ بها، ويستصغرَ في ذات الله الخروجَ من أهله وماله، وقيامَ ليله، وصيامَ
نهاره، وجهادَ الظالمين الملحدين بيده ولسانه، حتّى يعلمَ أن الله أوجبَها له،
وليس بعالمٍ ذلك دونَ لقاءِ ربّه، وكذلك ينبغي لكلّ مَن رغِبَ في جوار الله
ومرافقة أنبيائه أن يكون.
يا أخي، أنت ممّن أستريحُ إلى الضريحِ إليه ببثّي وحُزني، وأشكو إليه
تَظاهُرَ الظالمين عَلَيَّ، إني رأيتُ الجورَ يُعمل به بعيني، وسمعته يُقال، فرددتُه
فحُرِمْتُ العطاءَ وسُيِّرتُ إلى البلاد، وغُرِّبْتُ عن العشيرة والإخوان وحَرَمِ
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وأعوذ بربّي العظيم أن يكون هذا منّي له شكوى، أنْ رُكِب منّي ما
رُكِب، بل أنبأتُكَ أنّي قد رضيتُ ما أحبَّ لي ربّي، وقَضاهُ عَلَيَّ، وأفضيتُ ذلك
إليك لتدعوَ اللهَ لي ولعامّة المسلمين بالرَّوح والفرَج، وبما هو أعمُّ نفعاً
وخيرٌ مَغَبَّةً وعُقبى، والسلام.
فكتب إليه حذيفة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعدُ يا أخي، فقد بلغني كتابُك تخوّفني به، تحذِّرُني فيه
منقلبي، وتحثّني فيه على حظِّ نفسي، فقديماً يا أخي كنتَ بي وبالمؤمنين حَفيّاً
لطيفاً، وعليهم حَدباً شفيقاً، ولهم بالمعروف آمراً، وعن المنكرات ناهياً، وليس
يهدي إلى رضوان اللهِ إلا هو، لا إلهَ إلا هو، ولا يُتناهى من سَخَطه إلا بفضل
رحمتِه وعظيم مَنِّه، فنسألُ اللهَ ربّنا لأنفسنا وخاصّتنا وعامّتنا وجماعة أمّتنا
مغفرةً عامّة ورحمةً واسعة.
وقد فهمتُ ما ذكرتَ من تسييرك، يا أخي، وتغريبك وتطريدك، فعزَّ واللهِ
عَلَيَّ، يا أخي، ما وصلَ إليك من مكروه، ولو كان يُفتدى ذلك بمالٍ لأعطيتُ فيه
مالي، طَيِّبةً بذلك نفسي، يصرف اللهُ عنك بذلك المكروهَ.
واللهِ، لو سألتُ لك المواساة ثمّ أُعطيتها لأحببتُ شطرَ ما نزل بك،
ومواساتَك في الفقر والأذى والضَّرر، لكنه ليس لأنفسنا إلا ما شاء ربُّنا.
يا أخي، فافزغْ بنا إلى ربّنا، وَلْنَجعلْ إليه رغبتَنا، فإنّا قد
استحصَدنا، واقتربَ الصّرام، فكأنّي، وإيّاك، قد دُعينا فأَجَبْنا، وعُرضنا على
أعمالنا فاحتَجْنا إلى ما أَسْلَفنا.
يا أخي، ولا تَأْسَ على ما فاتك، ولا تحزنْ على ما أصابَك، واحتسبْ
فيه الخير، وارتقِبْ فيهِ من اللهِ أسنى الثواب.
يا أخي، لا أرى الموتَ لي ولك إلا خيراً من البقاء، فإنّه قد أظلَّتنا
فِتَنٌ يتلو بعضُها بعضاً كَقِطَع اللّيل المظلِم، قد ابتُعثت من مركبها، ووطئت في خطامها، تُشهَر فيها السيوف، وتنزل فيها الحتوف. فيها يُقتَلُ مَن اطَّلعَ لها والتبسَ بها،
وركضَ فيها. ولا تبقى قبيلةٌ من قبائل العرب من
الوَبَر والمدَر إلا دخلتْ عليهم، فأعَزُّ أهلِ ذلك الزمان أشدُّهم عتوّاً، وأذَلُّهُم
أتقاهم، فأعاذنا اللهُ، وإيّاكَ، من زمانٍ هذه حالُ أهله فيه.
لن أدعَ الدعاءَ لك في القيام والقعود واللّيلِ والنهار، وقد قال
الله ولا خُلْفَ لموعده:
﴿..ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ
يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾(غافر:60). فنستجيرُ باللهِ من التكبُّر عن
عبادته، والاستنكاف عن طاعته، جعلَ اللهُ لنا ولك فرَجَاً ومَخرجاً عاجلاً برحمته،
والسلامُ عليك».