بين نصرين
ربيع لبنان الموافق ربيع القدس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ محمود ابراهيم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إذا كان من استخلاصات للمعاني الكبرى التي يحملها شهر أيّار من كلّ عام،
فلا يحضرنا فيه اليوم سوى معنى النصر الذي حقّقته المقاومتان اللبنانية
والفلسطينية في تاريخنا المعاصر. ففي العشرة الأخيرة من أيام هذا الشهر سيسجّل
للمقاومة أول انتصار تحقّقه بدحر قوات الاحتلال الصهيوني عن جنوب لبنان. وفي هذا
الشهر بالذات ستبدأ بالزوال «العلامة السوداء» التي طبعت التاريخ العربي بالزوال.
نعني بذلك استيلاء الحركة الصهيونية على فلسطين قبل نحو سبعين عاماً.
أمامنا إذاً، حدثان كبيران سيكون لهما أثرٌ عظيم على مسار المنطقة، مثلما
يؤسّسان معاً لزمنٍ جديد عنوانه الأعظم فتح عصر جديد لنهضة الأمّة وتحقيق كرامتها
وعزّة شعوبها.
وما من شكّ،
فإن العقل السياسي «الإسرائيلي» يُدرك أن ما حلَّ به في لبنان في الخامس والعشرين
من أيار 2000 كان زلزالاً يستحيل النجاة من ارتداداته وآثاره على مستقبل الكيان
اليهودي في فلسطين. حتّى اذا وقعت حرب تموز 2006 بنتائجها المباشرة والبعيدة
تضاعفت الآثار واشتدّت الهواجس.
من استظهارات
هذا المشهد الذي نعيشه اليوم أن «العقل الإسرائيلي» بات لا يُخفي قلقه المتمادي من
عجزه عن قلب موازين القوى عبر فرض الوقائع، أو المشاركة في صنع التحوّلات الكبرى
على مستوى المنطقة. والأهم من هذا كلّه أنه بات يعقد الرهان على الفتن الداخلية
والحروب الأهلية لكي يستعيد مركزيته وتوازنه في الفضاء الجيو-استراتيجي. وسيجد «الإسرائيليون»
في ما يحصل من تصدّعات عربية، مناسبة نادرة لاستئناف أحلامهم في الاقتدار والتوسّع،
عبر إعادة إحياء ثقافة الهزيمة العربية التي ضربت المنطقة على مدى سبعة عقودٍ خلت.
إن ما يجعل
التفكير «الإسرائيلي» مثقلاً بالخوف، ليس فقط تلك «المنطقة الرمادية» التي تعبرها
المنطقة اليوم، وإنما التحوّلات العميقة في معادلات الصراع المستجدّة. فقد ولّدت انتصارات
المقاومة قواعدَ فهمٍ للصراع العربي - «الإسرائيلي» ينقض أطروحة الاحتلال من
أساسها. وسيكون لهذا التطوّر مفاعيله الجدية على الميراث المشؤوم لثقافة الهزيمة، التي
تشكّلت مبانيها ومفرداتها من تداعيات النكبة الأولى في «أيار» 1948 والثانية في «حزيران»
1967.
هنا حصراً
يمكث القلق الأصلي في الفكر «الإسرائيلي»، حيث ستؤسِّس مقاومة الاحتلال ونتائجها
المحقّقة في لبنان وفلسطين لإمكانٍ استراتيجيّ قوامه: تسجيل الهزيمة على عدوٍّ
ظلَّ إلى زمنٍ قريب أشبهَ بكائنٍ خرافيّ لا يمسُّه الوهنُ والانكسار. وذلك كلّه بالتوازي
مع نشوء ثقافة غَلَبة معاكسة ستطاول العمق الأيديولوجي لفلسفة التفوّق في العقل «الإسرائيلي».
فإذا عرفنا أن عقيدة التفوّق والغلبة هذه، هي عنصر تأسيسي في النشأة «الإسرائيلية»
كدولة وكيان، فإنّ تهافتها يدل على انهيار الأصل الذي قام عليه المشروع الصهيوني
في فلسطين.
لننتبه الآن إلى جملة حقائق أظهرتها التحوّلات الأخيرة في سباق المواجهة مع
المشروع الصهيوني المركّب:
أولاً - إخفاقات متلاحقة في احتواء أو تصفية حركة المقاومة الفلسطينية على
المستويين العسكري والسياسي.
ثانياً - الهزيمة الأولى لجيش الاحتلال «الإسرائيلي» في لبنان ربيع العام
2000م.
ثالثاً - الهزيمة الثانية حرب تمّوز 2006.
رابعاً- بداية زمن جديد من الصراع العربي - «الإسرائيلي»، من علاماته
الكبرى إلحاق الهزائم «بإسرائيل» بعد هزيمتين محقّقتين بالفعل، وهزائم قيد الوقوع
على جبهة القدس وسائر أرض فلسطين.
استعادة المعنى
إن ذلك سوف يُرسي مقدّمات ضرورية لقيامة المقولة الأمنية الثقافية العربية،
على نشأة الاقتدار. وهو ما يفترض النظر إلى مصطلحات الهزيمة، وأخصّها مصطلح
التطبيع، بوصف كونها ظاهرة سلبية في الأمن الثقافي لمجتمعاتنا.
إن من أهم ما ينبغي فهمه ونحن نواجه مقتضيات الزمن الجديد، هو في تعامل
النخب الثقافية العربية مع هذا المصطلح بوصفه رديفاً سياسياً وثقافياً
وإيديولوجياً لسلام الإكراه. فلا يجوز - والحال على هذا الفهم - أن يدخل معنى
التمثّل والهزيمة كواحدٍ من العوامل المحرّكة للخطاب الثقافي العربي، وبالتالي فإنّ
مجرّد القبول مثلاً، بمصطلح التطبيع الثقافي، فذلك يعني الإقرار الضمني بأنه حقيقة
واقعية أو بأنه إمكانٌ قابلٌ للتحقّق.
ذلك يعني أن أهم شروط الممانعة هو النظر الى أن أيّ تهاون مع الأطروحة «الإسرائيلية»
في لحظة تهافتها إنما يعني إعادة إحيائها من جديد. لذلك من غير الجائز أن تفصل
ثقافة المقاومة بين أيّ نوع من أنواع التطبيع مع العدوّ.. من مثل عدم الفصل بين
السياسي والثقافي والاقتصادي والأمني إلخ. وبهذا المعنى يُمكن الاستدلال على خط
التطبيع من وجهه السياسي الدبلوماسي بالذات، فمن شاء ممانعة الثقافي، عليه ممانعة
السياسي. ولئن كان الكلام هنا يعني بالدرجة الأولى المثقّفين، فلأنه يتوخّى توليد
حقول معرفية، تحدِّد المسافة بين وظيفة المثقّف ووظيفة السياسي، فما يراه السياسي
ويعمل وفق موجباته ليس بالضرورة ما يراه المثقّف ويعمل عليه.
حين يرفض الثقافي مبدأ التطبيع فهو يرفضه بوجوهه وأحيازه كلّها، فلئنْ كان
الوجه السياسي والاقتصادي للتطبيع هو الذي يجري الآن مجرى الفعل اليومي، فإن الخطر
يكمن فيه بالدرجة الأولى.
الانهزام «الإسرائيلي» في لبنان، حدثٌ لم يُدرك بعدُ على عمقه وأهميته
وتاريخيته. ربما لأنه جاء في زمن لا يزال اللبنانيون والعرب فيه يعيشون نزاعهم
وفرقتهم. ولأنه جاء أيضاً في زمن عربي مكتظّ بالتراجعات ومشاعر الخيبة المزمنة.
وهذا وجه مأساوي لحدث التحرير. يجب أن نعترف بهذا الحيّز من المشهد، لأن الاعتراف
به سيجنّبنا إهمال أسئلة جرى السكوت عنها ردحاً طويلاً من الزمن، مثلما سيمنحنا
ذلك الاعتراف بإمكان نادر، هو مراكمة وعي النصر بعدما تراكم علينا وعي الهزيمة.
لو عاينّا حروبنا ومواجهاتنا مع المشروع الصهيوني، بوصفها «حرباً من أجل
المعنى»، لَظهر لنا كيف انقلبت مفاهيم كبرى فتحوّلت إلى الضفة المعاكسة لأطروحة
الغلَبة «الإسرائيلية».
لكن تحويل السؤال حول نهاية الأطروحة «الإسرائيلية» إلى قضية ثقافية
ومعرفية وفكرية، هي المبتدأ والخبر بلا أدنى ريب.