غاية الذكر
استشعار المعاني والاتّصاف بها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المولى الفَيض الكاشاني* ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اِعلم أنّ روح الذّكر حضورُ القلب، ونعني به أن يفرّغ القلب عن غير ما هو ملابس له، ومتكلّم به، ويكون العلمُ بالقول مقروناً به، ولا يكون الفكر جارياً في غيره، وأن يكون القلب متّصفاً بمعنى الذكر، والحال مساعداً له، فلا يقول مثلاً «الله أكبر»، وفي قلبه شيء أكبر من الله سبحانه.
وإنّما أُمر بالتلفّظ لتنبيه القلب بناءً على العادة، حيث جرتْ بعدم تنبّهه في الأغلب إلّا من هذا الطريق، وذلك أيضاً يكون في الابتداء. وأمّا إذا داوم على الذكر، وأنِس به، وانغرس في قلبه حبُّ المذكور، فلا يحتاج إلى ذلك؛ فالمقصود الأصليّ إنّما هو الذكر القلبيّ، والاستشعارُ الباطنيّ بمعاني الأذكار، والاتّصاف بها.
فإنْ قيل: فعلى ما ذكرتَ:
* يلزم أن لا تكون العبرة إلّا بتحقّق النفْس بمعاني الأذكار، والاتّصاف بموادّها، وهذا إنّما يُتصوَّر في حقّ العلماء ومَن يحذو حذوهم خاصّة، دون غيرهم، فلا يكون التكليف بها عامّاً.
* وأيضاً يلزم أن لا يكون للنطق بها فائدة يُعتدّ بها، فإنّ العبرة إنّما بالقلب، فلا وجهَ لنقل الألفاظ المخصوصة فيها وضبطها عن الغلط واللحن وتصحيحها.
والجواب: فليعلم أنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّ الاتّصاف بمعاني أكثر الأذكار حاصلٌ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون، لانهماكهم بأهوائهم وما يصدّهم عن الحقّ من الأمور الدنيويّة، فلا بدّ لهم من مُنبِّهٍ ينبّهُهم، ومذكِّرٍ يُذكِّرُهم، وما ذاك إلّا التلفّظُ بالأذكار في كلّ وقتٍ وحال؛ فإنّ اللسان منبّه القلب.
ولقد أحسن بعض الحكماء حيث شبّه بُنْية الإنسان بمدينةٍ جامعة؛ فأعضاؤه وجوارحه بمنزلة سكّان المدينة، والعبد في إقباله على الذّكر كمؤذّنٍ صعد منارة على باب المدينة، يقصد إسماعَ أهلها الأذان.
فهكذا الذاكر المتحقّق، يقصد بالذّكر اتّعاظَ قلبه وجميعِ أجزائه؛ فيذكر بلسانه ويِعي بقلبه، ومتفرّقات جوارحه، فيكون الذكرُ باللسان وصَداه في قبّة القالب، يستحضرُ بالذكر سكّانَ مدينة النفس، ويستجمع بها عساكرَ الفهم والحسّ، يقول ببعضه ويستمع بكلّه، إلى أن تنتقل الكلمة من اللّسان إلى القلب، فيتنوّر بها، ثمّ ينعكس نورُ القلب على القالب، فيُزيّن بمحاسن الأعمال، وتكون الأحوال حينئذٍ حِليةَ باطنه، والأعمالُ ملبسَ ظاهره، وبهذا تظهر فائدة النّطق بالذّكر.
وأمّا تصحيح الألفاظ المخصوصة وضبطها؛ فلأنّها أحسن ما يعبَّر به عن تلك المفاهيم المناسبة لذلك الأمر وأبلغها، حيث صدرتْ من معدن الوحي ومهبط العلم والحكمة، وللتّأسّي بهم، عليهم السلام، في استعمالها بخصوصها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* المقال مختصر عن خاتمة كتابه، رحمه الله: (خلاصة الأذكار واطمئنان القلوب)