بالشهادة... بدأتْ حياتُهما
في ذكرى سيّدِ شهداء المقاومة، وشَيخهم*
الشيخ حسين كوراني
في أجواء ذكرى استشهاد مُنتَظِرَين حقيقيَّين؛ سيِّدِ شهداء المقاومة الإسلامية وشيخ شهدائها، وفي أيام المقاومة الإسلامية، من المهمّ أن نُذكّر أنفسنا، باستمرار، أن أساس الجهاد الأصغر هو الجهاد الأكبر.
علينا أن لا نفرح بالمظاهر العسكرية، مهما كانت، لأنها فرع، والأساس هو جهاد النفس.
هذه الحقيقة هي الّتي أراد المصطفى الحبيب، صلّى الله عليه وآله، أن يركّز عليها ويُلفت قلوبنا إليها، عندما خاطب مَن كان معه في تلك السَّرِية: «رَجَعْنا مِنَ الجِهادِ الأَصْغَرِ إِلى الجِهادِ الأَكْبَر».
لقد وجد الشهيدان في الجهاد الأصغر، الدورة التدريبية على الجهاد الأكبر، والمدخل إليه والباب الأمثل؛ تَذوَّقا في «الأصغر» ثمرةً من ثمرات «الأكبر»، ولذلك فقد بدأت بالشهادة حياتُهما.
ليَهنِهما جوار أبي عبد الله الحسين، عليه السلام، الذي تعلّما منه كيف أن على المجاهد أن يحبّ الصلاة وقراءة القرآن.
تلاوة القرآن الكريم
أذكر أننا كنا، مرّةً، في جلسة عمل، نريد أن نبدأ بتلاوة آياتٍ من كتاب الله تعالى، فما كان من الشهيد أبي ياسر إلا أن بدأ يقرأ، وممّا يحفظ، وأطال القراءة.
قرأ من سورة البقرة وأطال، ما ذكّرني بعلاقة خاصة له بالقرآن الكريم، حيث كان في بعلبك يهتم بتدريس التفسير، وكان هذا يشكّل امتداداً لاهتمامه بتدريس التفسير لعددٍ من طلّابه في النجف الأشرف.
تشكّل هذه الحادثة شاهداً على العلاقة التي ينبغي أن تكون مع القرآن الكريم. المهم أن نتعلّم من الشهيد حرصَه على حفظ القرآن الكريم، فقد كان حريصاً على حفظ ما استطاع أن يحفظه.
في محراب الصلاة
الأمر الآخر مسألة الصلاة: لم أرَ الشهيد السيد عباس، رضوان الله تعالى عليه، ولا مرّةً واحدة مستعجلاً في صلاته، وإنما كان يصلّي بأناة، بخشوع، بتوجّه، كنتُ أرى أنه يصلّي بتمهّل، وذلك أمر يتلازم عادةً مع درجة من حضور القلب، على الأقلّ.
هذه ميزة عظيمة ليست عادية، أن يأتي الإنسان يوم القيامة وفي صحائفه أنه ما استعجل في صلاته !
هنيئاً لمن يستطيع الحصول على هذه الدرجة، خصوصاً وأن في الروايات نَهياً عجيباً عن الاستعجال في الصّلاة.
في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: «إِذَا قَامَ الْعَبْدُ فِي الصَّلَاةِ فَخَفَّفَ صَلَاتَه، قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى لِمَلَائِكَتِه: أمَا تَرَوْنَ إِلَى عَبْدِي كَأَنَّه يَرَى أَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِه بِيَدِ غَيْرِي، أمَا يَعْلَمُ أَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِه بِيَدِي؟».
لِنَتعلّم من شهيد الإسلام أبي ياسر هذا الحرص على الصلاة بتأنٍّ، وتمهُّل.
كذلك لنتعلّم من الشهيد أبي ياسر، رضوان الله تعالى عليه، النظرة إلى الحياة، التعاطي مع الحياة، لم يكن يهتم بملبسه، وبأثاث بيته، لم يكن يحمل هَمّ هذه الأمور، كان في المقابل يحمل هَمّ الإسلام، وكان ينطلق في حمْل هذا الهمّ، من حَمْل الهَمِّ الأكبرِ يومَ العرضِ على الله تعالى. أصرّ على أن يصلَ إلى الله تعالى، وقد تبدّد جسدُه.
وهذا نصٌّ سمعتُه بصوته بعد استشهاده -وأعترف بأنّي عرفتُ من خلال هذا النّصّ أبعاداً جديدة في شخصية الشّهيد أبي ياسر رضوان الله تعالى عليه- حيث يقول في سياق نصٍّ يُناجي الله تعالى به: «فأسألُك يا إلهي شهادةً يتبدّد بها جسدي، وتنالُ كلُّ جارحةٍ القصاصَ والعقوبة (اللّذين تستحقّهما)، وبعدها يُصبح حَتماً يا إلهي أن تُسكنَني بجوارك».
يتلخّص الجهاد الأكبر في حَمل هذا الهَمّ: «فَسُرَّنِي بلقَائك».
ينطلق الجهاد الأكبر من قاعدة إدراك أنّ الله، عزّ وجلّ، يعرف حقيقتنا، ومهما كنّا في أعيُن الناس، فإن صورتنا الحقيقية هي الصورة التي عنده، عزّ وجلّ، لذلك ينبغي صرفُ العمر في أن تكون هذه الصورة طاهرةً نقيّة، كما أرادها الله تعالى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* النصّ مختصر مضمون إحدى حلقات برنامج «مع المجاهدين» الإذاعي (1993م)