تكامُل الصفات المتباينة في شخصه عليه السلام
أمير المؤمنين مجتمَع الفضائل والقيم الإنسانية
إنّ حياة أمير المؤمنين عليه السلام أشبه ما تكون بمحيطٍ لا تتيسّر الإحاطة بآفاقه من نظرة واحدة، أو حتى عبر دراسة طويلة؛ فالمحيط من حيثما تأتيه تجده زاخراً بالعظَمة، ومجتمعاً لبحور بعيدة القعر. ولا مبالغة في هذا القول، بل هو صدًى لعَجْز رجُلٍ درسَ حياة أمير المؤمنين لسنوات متمادية، واستشعر هذا الإحساس في نفسه، وأدرك أنّ شخصية عليّ عليه السلام لا يمكن سبر أغوارها بأسباب الفهم المتعارف من ذهن وعقل وذاكرة وإدراكات عادية؛ لأنّ أسباب الفهم المتاحة للإنسان، أدنى من أن تبيّن ماهية أمير المؤمنين عليه السلام، اللّهم إلا مَن بلغ مقام الكشف المعنويّ.
لقد اجتمعت في شخص أمير المؤمنين، وعلى نحوٍ جميل، صفات متضادّة ومتعارضة، حتى أضحت بذاتها وجوداً رائعاً. ولن تجد مثل هذه الصفات اجتمعت في أحدٍ من الخلق، فضلاً عن وفرتها فيه، إلا أمير المؤمنين عليه السلام. وفي ما يلي، أعرض لنماذج منها.
اللِّين والحَزْم
الرأفة واللين لا تنسجمان مع الحزم والصلابة، لكنّ عطف أمير المؤمنين ورأفته ولينه في السّنام الأعلى، على التحقيق.
ما أكثر الذين يمدّون يد العون للمساكين، ويتفقّدون الأُسَر الفقيرة، إلا أن أمير المؤمنين، لا غير، بادر إلى هذا العمل في أيام حكومته وقدرته وسلطته الظاهرية. ومن ثَم كان هذا العمل دأبه على الدوام، فلم يكتفِ بأدائه مرات معدودات. ولم يكن، سلام الله عليه، يقتصر على تقديم العون المادّي فحسب، بل يتفقّد الأسر، ويُحادث الشيوخ وكبار السنّ، ويجالس المكفوفين، ويلاطف الصغار؛ يأنس بهم ويُدخل البهجة إلى قلوبهم ويقدّم العون لهم. هكذا كان أمير المؤمنين عليه السلام في رحمته ورأفته.....
في المقابل، حينما عزم جماعة من المتعصّبين، وذوي الفهم الخاطئ على زعزعة الحكم لأسباب واهية، عمد أمير المؤمنين عليه السلام إلى نُصحهم ومحاججتهم، فبعث إليهم بالرسل والوسطاء...لكن ذلك كله لك يُجدِ معهم نفعاً.
وفي نهاية المطاف -وحتّى حينما اصطفّ الجيشان للقتال في النهروان- قدّم لهم النصيحة وأرشدهم، فلمّا أعرضوا ونأوا قرر انتهاج الحزم، فدفع الراية لبعض أنصاره معلناً أنّ كلّ مَن انضوى تحتها فهو آمِن.
كان أهل النهروان الخوارج اثني عشر ألف رجل، وانضوى منهم ثمانية آلاف تحت الراية، فصفح أمير المؤمنين عنهم جميعاً، على الرغم ممّا تكنّه صدورهم من عداء، ورغم موقفهم وعزمهم على القتال ولَهجهم بَسبّ أمير المؤمنين عليه السلام؛ فهم ما داموا قد اعتزلوا القتال فليذهبوا حيث شاؤوا. وبقي منهم أربعة آلاف أصرّوا على مقاتلته، فلما رأى إصرارهم على قتاله عزم على قتالهم، وأخبرهم أنه لن ينجو منهم عشرة، فحاربهم في وقعة النهروان المعروفة، وقُتل منهم عدد كبير. هذا هو عليّ نفسه حينما يرى في مقابله فئة خبيثة تسلك منهجاً غادراً، يكون مصداق قوله تعالى: ﴿..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..﴾. لاحظوا كيف تجسّدت هذه الخاصية في أمير المؤمنين عليه السلام على هذا النحو الجميل، فقلبُه بما أوتي من الرأفة والرقّة لا يُطيق رؤية يتيم حزين، بينما نراه يقف بحزم إزاء فئة منحرفة، تنتهج أسلوبا مقيتاً وملتوياً وتقتل الأبرياء، فيقضي عليها -وقوامها أربعة آلاف رجل- في بضع ساعات. هذا درسٌ لنا في كيفية توازن الشخصية.
السلطة والورَع
المثال الآخر هو ورعُ أمير المؤمنين من ناحية، وسلطته الظاهرية الدنيوية من ناحية أخرى. والورع يعني: اجتناب كل ما يُحتمل فيه الكراهية، -فضلاً عن المحرّمات والشُبهات- ولكن هل ينسجم الورع مع السلطة؟ هل يتسنّى للإنسان أن يكون ورعاً إلى هذا الحدّ، وهو في سدّة الحكم؟
يتعامل الحاكم مع قضايا عامّة وينفّذ القوانين، وربّما انطوى تنفيذ قانون بعينه، في مكان ما، على الظلم لأحدهم، والمكلّف بتنفيذ القانون بشرٌ خطّاء قد يسيء تطبيقَه. فكيف يتأتى للمرء التزام الورع في كلّ التفاصيل الجزئية التي تستعصي الإحاطة بها؟ لأجل ذلك، يبدو، في الظاهر، أنّ السلطة والورع لا يجتمعان، إلاّ أنّ أمير المؤمنين جمعهما؛ أي التزام أقصى درجات الورع وإقامة أقوى سلطة في آنٍ معاً، وهذا مما يثير الدهشة.
لم يكن يجامل أحداً؛ فإذا استشعر من والٍ ضعفاً أو أحسّ أنه غير جدير بمنصبه، عزله. كان محمّد بن أبي بكر بمنزلة ولده، وكان يحبّه محبة أبنائه. ومحمّدُ أيضاً كان ينظر إلى أمير المؤمنين نظرة الولد إلى الوالد، وتلميذاً مخلصاً تربّى في حِجر الإمام، فانتدبه والياً على مصر، ثم كتب له فيما بعد كتاباً بعزله، لعدم كفاءته في إدارة البلاد، وعيّن مكانه مالك الأشتر....
القوّة والمظلومية
هل كان ثمة رجل أقوى من أمير المؤمنين عليه السلام في زمنه، أو له بعضٌ من تلك القوة الحيدرية؟ لم يتحدّ علياً أحدٌ، ولم يجرأ أحد على ادّعاء ذلك حتى يوم شهادته. هذا الإنسان نفسه كان -مع تلك القوّة- أشدّ أهل زمانه مظلومية، ولعلّه أكثر من ظُلم في تاريخ الإسلام. القوّة والمظلومية لا تجتمعان؛ فالمتعارَف أنّ الأقوياء لا يُظلمون، غير أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ظُلم.
الزّهد وإعمار الأرض
المثال الآخر هو الزهد وإعمار الدنيا. أمير المؤمنين الإمام عليّ عليه السلام مثالٌ في زهده وإعراضه عن الدنيا، ولعل «الزهد» أبرز مواضيع (نهج البلاغة). لكنه عليه السلام، على الرغم من إعراضه عن الدنيا وزهده فيها، أمضى خمسة وعشرين عاماً -هي الفترة ما بين وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله وتسلّمه الخلافةالظاهرية- ينفق من ماله الخاصّ في أعمال العمران؛ فكان يزرع البساتين، ويحفر الآبار، ويشقّ الأنهار. والمدهش أنه كان يتصدّق بذلك كلّه في سبيل الله تعالى.
ومن المناسب أن نتنبّه إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان أكثر أهل زمانه ثروةً، وقد نُقل عنه قوله: «..وصدقتي اليوم لو قُسّمت على بني هاشم لَوسِعَتهم»، لكنه عليه السلام، مع ذلك الثراء كان يعيش حياة متقشّفة إلى أبعد الحدود؛ لأنه كان ينفق تلك الثروة كلّها في سبيل الله تعالى.
هذا ما تصدّق به عبدُ الله عليّ...
أبو نَيْزَر بن النجاشيّ ملكِ الحبشة، من أصحاب أمير المؤمنين، عيّنه عليه السلام قيّماً على بعض أراضيه ومزارعه، وابنُه «نصر» أحد شهداء كربلاء بين يدَي الإمام الحسين عليه السلام، قال أبو نيزر:
«جاءني عليّ بن أبي طالب عليه السلام وأنا أقوم بالضّيعتين؛ عين أبي نيزر والبُغَيبِغَة، فقال: (هل عندك من طعام؟).
فقلت: عندنا طعامٌ لا أرضاه لك، قَرْعٌ من قرع الضّيعة صنعتُه بإهالة سنخة (أي بسَمْن غير جيّد) فقال: (عَلَيَّ به).
فقام إلى الرّبيع (جَدول الماء)، فغسل يده فأصابَ من ذلك (الطعام) شيئاً، ثم رجع إلى الربيع فغسل يده بالرّمل حتى أنقاها، ثم ضمّ يديه؛ كلّ واحدة إلى أختها، ثم شرب بها حسّاً من الربيع، ثم قال: (يا أبا نَيزر، إن الأكفّ أنظفُ الآنية). ثم مسح من ذلك الماء على بطنه، ثم قال: (مَن أدخله بطنُه النار، فأبعدَه الله).
ثمّ أخذ المِعول وانحدر إلى العين فأقبل يضربُ فيها، وأبطأ عليه الماء، فخرج وقد تفضخّت جبهتُه عرقاً، فاستشفّ العرقَ من جبينه، ثم أخذ المِعول وعاد إلى العين، فأقبل يضرب فيها وجعل يهينم، فانثالت كأنها عُنق جَزور، فخرج مسرعاً فقال: (أُشهِدُ الله أنها صدقة، عَلَيَّ بدواةٍ وصحيفة)!
فعجّلتُ بها إليه، فكتب: (بسم الله الرّحمن الرّحيم. هذا ما تصدّق به عبدُ الله عليُّ أمير المؤمنين؛ تصدّق بالضّيعتَين المعروفتَين بعَين أبي نيزر والبُغيبغة على فقراء أهل المدينة وابن السبيل، ليقيَ اللهُ وجهي حرّ النار يومَ القيامة، ولا تُباعا ولا تُوهَبا حتّى يرثَهما اللهُ وهو خيرُ الوارثين، إلا أن يحتاجَ الحسنُ أو الحسين، فهما طلقٌ لهما، ليس لأحدٍ غيرهما).
قال أبو نيزر: فركبَ الحسينَ دينٌ، فحملَ إليه معاوية بعين أبي نيزر مائتي ألف دينار، فأبى الحسينُ أن يبيع، وقال: إنما تصدّق بها أبي ليقيَ اللهُ بها وجهَه حرّ النار».
(انظر: مناقب ابن سليمان الكوفي:2/81)