تَجَنّبِ الوقيعةَ في علماء الدّين!
- الشيخ عبد الحسين الأميني*
ورد عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قوله: «إيّاكم والغٌلوّ فينا، قولوا: إنّا عبيدٌ مربوبون، وقولوا في فضلِنا ما شئتُم».
وعن الإمام الصادق عليه السلام: «اِجعَلوا لنا ربّاً نَؤوبُ إليه، وقولوا فينا ما شئتُم».
وقال عليه السلام: «اِجعَلونا مخلوقينَ، وقولوا فينا ما شئتُم، فلنْ تَبلُغوا».
وأنّى لنا البلاغ مدية ما منحهم المولى سبحانه من فضائل ومآثر؟ وأنّى لنا الوقوف على غاية ما شرّفهم الله به من ملكاتٍ فاضلة، ونفسيّاتٍ نفيسة، وروحيّاتٍ قُدسيّة، وخلائقَ كريمة، ومكارم ومحامد؟...
ولذلك، تجدْ كثيراً من علمائنا المحقّقين في المعرفة بالأسرار، يُثبتون لِأئمّة الهدى صلوات الله عليهم، كلّ هاتيك الشؤون وغيرها ممّا لا يتحمّله غيرهم، وكان في العلماء... مَن يرمي بالغلوّ كلّ مَن روى شيئاً من تلكم الأسرار... إلى أن جاء بعدهم المحقّقون وعرفوا الحقيقة، فلم يقيموا لكثيرٍ من تلكم التضعيفات وزناً، وهذه بليّة مُنِيَ بها كثيرون من أهل الحقائق والعرفان -ومنهم المترجَم- ولم تزل الفئتان على طرفَي نقيض، وقد تقوم الحرب بينهما على أشدّها، والصلحُ خير.
وفذلكةُ المقام، أنّ النفوس تتفاوت حسب جِبلّاتها واستعداداتها في تلقّي الحقائق الراهنة، فمنها ما تبهظه المعضلات والأسرار، ومنها ما ينبسط لها فيبسط إليها ذراعاً و يمدّ لها باعاً. وبطبع الحال، أنّ الفئة الأولى لا يسعها الرضوخ لِما لا يعلمون، كما أنّ الآخرين لا تُبيح لهم المعرفة أن يذَروا ما حقّقوه في مدحرة البطلان، فهنالك تثور المنافرة، وتحتدم الضغائن، ونحن نقدّر للفريقين مسعاهم لِما نعلمُ من نواياهم الحسنة، وسلوكهم جَددَ السبيل في طلب الحقّ، ونقول:
على المَرءِ أن يَسعى بِمقدار جهدِه
|
وليس عليه أنْ يكونَ مُوفَّقا
|
وفي الحديث: «ألَا إنّ الناسَ لَمعادنٌ كمعادنِ الذّهب والفضّة».
وقد تواتر عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام: «إنّ أمرَنا -أو حديثنا- صعبٌ مُستَصعَبٌ، لا يَحتمِلُه إلّا نبيٌّ مرسَلٌ، أو ملَكٌ مُقرَّبٌ، أو مؤمنٌ امتَحَنَ اللهُ قلبَه بالإيمان».
إذاً، فلا نتحرّى وقيعةً في علماء الدين، ولا نمسّ كرامة العارفين، ولا ننقم من أحدٍ عدم بلوغه إلى مرتبة مَن هو أرقى منه، إذ ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..﴾ البقرة:286.
وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «لو جلستُ أُحدِّثُكم ما سمعتُ من فمِ أبي القاسم صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم، لَخرجتُم من عندي وأنتُم تقولون: إنَّ عليّاً مِن أكذَبِ الكاذبين».
وقال إمامنا السيّد السجّاد عليه السلام: «لو علِمَ أبو ذرّ ما في قلبِ سلمانَ لَقتَلَه، ولقد آخى رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بينهما، فمَا ظنُّكم بِسائِرِ الخَلق؟».
﴿..وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ النساء:95.
وإلى هذا يشير سيّدنا الإمام السجاد زين العابدين عليه السلام، بقوله:
إنّي لَأكتمُ من علمي جواهرَه
|
كي لا يَرى الحقَّ ذو جهلٍ فيفتَتنا
|
وقد تقدَّم في هذا أبو حسنٍ
|
إلى الحسينِ وأوْصى قبلَه الحسنا
|
فرُبَّ جوهر عِلمٍ لو أبوحُ بهِ
|
لَقيلَ لي: أنتَ مِمّن يَعبدُ الوَثنا
|
ولاستَحَلَّ رجالٌ مسلمون دَمي
|
يَرَونَ أقبحَ ما يأتونَه حَسَنا
|
___________________________________________________________
* (الغدير: 7/34 – 36، ضمن ترجمة الحافظ رجب البرسي الحلّي، المتوفّى مطلع القرن التاسع)