تأمين فُرَص العمل لمحتاجيها
إحدى أهمّ مفردات التبليغ الديني
المراد بفرصة العمل، هو مساعدة العاطل عن العمل ليعمل، ويكون له مورد ماليّ من كدّ يده، وعرق جبينه.
الدرس النبويُّ للأجيال
ويكفي لبيان عناية الإسلام بهذه الخدمة لمحتاجها، وأنّ لها الأولوية على ما عداها من أنواع خدمة المحتاج، ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله.
جاء في كتاب (بحار الأنوار: 100/10) للعلامة المجلسي ما يلي:
«أصاب أنصارياً حاجة فأخبر بها رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: (إيتني بما في منزلك ولا تحقّر شيئاً). فأتاه بِحلسٍ وقدحٍ. (الحلس قطعة قماش كانت توضع تحت الحصيرة من سعف النخل لتمنع تسلل الرمل إلى أعلى الحصيرة) فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: مَن يشتريهما؟ فقال رجل: هما عليّٓ بدرهم.
فقال: مَن يزيد؟ فقال رجل: هما على بدرهمين، فقال: هما لك.
فقال رسول الله للرّجل: ابتعْ بأحدهما طعاماً لأهلك، وابتَع بالآخَر فأساً.
فأتاه بفاس، فقال عليه السلام: مَن عنده نِصاب (خشبة أو شبهها) لهذه الفاس؟ فقال أحدهما: عندي. فأخذه رسول الله صلّى الله عليه وآله، فأثبته بيده وقال: اذهَبْ فاحتطبْ، ولا تحقّرنَّ شوكاً ولا رطباً ولا يابساً.
ففعل ذلك خمس عشرة ليلة، فأتاه وقد حسنت حاله، فقال عليه السلام: هذا خيرٌ مِن أنْ تجيءَ يومَ القيامةِ وفي وجهِك كُدوح الصّدَقة». (الكدوح مثل الجروح بلا دم)
حفظ ماء الوجه، أهمّ من تقديم المساعدة المالية
والرواية واضحة الدلالة على أنّ حفظ ماء وجه الإنسان أهمّ من تقديم المساعدة المالية له: ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾. البقرة:263
وقد يكون الأذى خجلُه، لسوء طريقة تقديم المساعدة له، فيذهب شيءٌ من ماء وجهه، ويسبّب تكرّر ذهاب ماء الوجه كدوحاً في الوجه تظهر يوم القيامة، وتأمينُ فرصة العمل تغني المحتاج عن بذل ماء الوجه وذلّ السؤال.
ويلتقي في تثبيت أولويتها مع هذا الدرس النبويّ للأجيال مع الأنصاريّ - الحطّاب، جميع روايات تفضيل القرض على الصدقة، ويأتي مزيد توضيح.
يبنى على القرض حيث يمكن
لا يصحّ أن يُبنى مشروع تأمين فرصة العمل فقط على التبرّع، بل على القرض حيث يمكن وبشروطه رغم صعوبتها، وعلى التبرّع. تدلّ على هذا روايات تفضيل القرض، وتدلّ كذلك على أهمية حفظ ماء الوجه، فمن تُقرضه تحفظ ماء وجهه، ومن تهبه تعرّض ماء وجهه لكدوح الصدقة.
خطورة البطالة: المدخل إلى كلّ فساد
البطالة في الغالب مدخل إلى كلّ فساد من الكفر وسائر مجالات الانحراف، ولذا فإنّ العمل على هذا المشروع هو في الغالب عملٌ على كلّ صلاح؛ من محاربة الإلحاد والبعد عن الله تعالى، إلى استقامة السلوك وحسن الخُلق والعبادة.
الموضوع الأهم، والمضيّع
يرقى موضوع تأمين فرصة العمل لمحتاجها في المجتمع الإسلامي إلى مستوى أبرز خصائص (مجتمعنا) الإسلامي:
- به يصحّ إطلاق اسم المجتمع على السكان الذين كانوا متفرّقين، لولا جمع حمل الهمّ لهم.
- وهو أول واجبات الدولة.
- وبه يتحقّق إسلام المسلم: «مَن أصبح لا يهتمّ بأمورِ المسلمين فليسَ بِمسلم».
وتحثّ عليه -بالأولويّة- جميع روايات حقّ النظير في الخَلق، وجميع آيات وروايات الصدقة، وروايات حقّ المسلم والمؤمن، و«تفريج كربته»، و«سدّ جوعته»، وجميع آيات وروايات «إطعام الطعام» العجيبة في دلالتها، إلى حدّ إنّه لا يمكن أن ينقضي منها العجب. ويكفي دليلاً قاطعاً على ذلك هذه الآيات من سورة (المدّثّر:42-47): ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ﴾.
في صُلب الخطاب الديني التبليغي
يرقى موضوع تأمين فرصة العمل وكلّ ما يحقّق سلامة الجوّ النفسي للفرد، إلى مستوى أنّه لا يصحّ أن يُفصل عن الخطاب الديني والدعوة إلى الله تعالى. يدلّ على ذلك -في كثير ما يدلّ- أنّ سيّد النبيّين صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعث برسالة الأنصاريّ - الحطّاب، من المسجد النبويّ، وختمها بالحديث عن العرض على الله تعالى يوم القيامة: «خيرٌ من أن تأتي يوم القيامة وفي وجهك كدوح الصدقة».
مهمّة الخطاب الديني التبليغي، هي: ﴿..استجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾، والحياة الروحية التي تتحدّث عنها الآية الكريمة تتوقّف على الحدّ المقبول من مقوّمات الحياة الجسدية، والبطالة تحول دونه، وتأمين فرصة العمل مدخله الطبيعي. الأنفال:24
أوّل مهامّ إمام الجماعة
يقودنا التلازم بين الخطاب التبليغيّ، وبين تأمين فرصة العمل إلى أنّ مِن أُولى مهامِّ إمام الجماعة العناية بما يحقّق جماعة الأفراد في مجال تبليغه وإمامته، وهو أن يحمل كلّ منهم هم الآخرين، ويعطي الأولوية لتأمين مورده المالي المقبول الذي يتوقّف عادة على تأمين فرصة العمل.
يتوقّف ذلك على أن يحمل إمام الجماعة هذا الهمّ بامتياز خاصّ، فيعطيه الأولوية في المجالات التالية:
* في دروس المسجد، والخطاب التبليغيّ عموماً، ليظهّر بجلاء ثقافة التكافل الاجتماعيّ في الإسلام، وأنّ خدمة المحتاج عبادة، بل أفضل العبادات، وغاية كلّ عابد ومجاهد وشهيد، لأنّ «سبيل الله» هو سبيل الناس.
ولن ينفع كلام إمام الجماعةمهما أبدع في البيان، وتوسّعفي البحث وتعمّق، إلّا إذا كان هو متّصفاً ببساطة العيش.
* زيارة إمام الجماعة للفقراء في بيوتهم، ودوام التواصل معهم لمعرفة أحوالهم المعيشية بالتفصيل، وتربية أفراد الصفّ الأول من صفوف الجماعة على أساس أنّ التواصل مع الفقراء بزياراتهم وتقديم الخدمة الممكنة لهم، هو الذي يجعلهم بحقّ «جماعة الصف الأول».
* مبادرة إمام الجماعة مع بعض معاونيه من جماعة الصفّ الأول إلى تنظيم التواصل مع الجهات والشخصيات الفاعلة في القرية أو الحيّ (بيئة الجماعة التي يؤمّها الإمام) لتحقيق هدفين:
- تدوين المعلومات التي تتجمّع حول المحتاجين، مع الحرص على أن تكون وافية جداً، وتصنيفها، مع عناية خاصة بمجالات العمل التي يمكن للمحتاج أن يعمل فيها.
- العمل على تلبية حاجات المحتاجين المختلفة، وبكلّ الطرق الممكنة، مع إعطاء الأولوية لتأمين فرصة العمل للمحتاجين.
يُشار هنا إلى إنّ أكثر ما يحتاجه الفلاح لتمكينه من العمل المنتج، هو تيسير حصوله على الماء، وفحص التربة، ومواكبته بالبذار المناسب.
فرادة النتائج العظيمة
هكذا نكون أمام «جماعة» يشدّ بعضها بعضاً، مثل الفرد فيها كمثل عضوٍ مريض في الجسد، تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمّى.
وهكذا «لا يَتَبَيَّغ بالفقير فقرُه فيقتله».
وهكذا يحقّق دخولُ المسجد -عبر إمام الجماعة، وأفراد الصفّ الأول- إلى بيوت الجميع، والمحتاجين منهم بالخصوص، تواصلَ الجميع مع المسجد ليصبح «الجامع».
وهكذا نحصّن المستضعفين من أن يطحنهم الفقر بكَلكله، فيسقطون في أودية الانحراف، بدءاً من ضعف الإيمان، وصولاً إلى الإلحاد، مروراً بمظاهر الفساد المختلفة، ومنها الإدمان والجريمة.
استكمال هذا الطرح
يكتمل هذا الطرح النظريّ، ويصبح قابلاً للتقديم للجهات القادرة على اعتماده، حين يُرفق بنموذج تطبيقيّ في قريةٍ أو حيّ.