«امتحِنوا شيعتنا عند مواقيت الصّلاة»
سيرة الإمام الصادق عليه السلام في إعداد الجماعة الموحّدة
«تعرّض الواقع الإيماني والروحي في زمن الإمام الصادق عليه السلام إلى الخواء، والذبول، وبروز الأنانية، وفصْل الإيمان عن الأنشطة الحياتية الأخرى، وإعطائه صورة مشوّهة. جاء ذلك بسبب عبَث التيارات الفكرية التي استندت الى دعم السلاطين، والتي كانت تؤمن هي الأخرى أيضاً بلزوم طاعة الحاكم الأموي والعباسي؛ تبريراً لدعمها للخطّ الحاكم».
تتناول هذه المقالة للعلامة السيد منذر الحكيم، التعريف بأركان البناء الروحي والإيماني الذي شيّده الإمام الصادق في مسعاه الإلهيّ لبناء الجماعة الموحدة، اقتطفناها من كتاب (الإمام جعفر الصادق عليه السلام) -وهو الكتاب الثامن من سلسلة أعلام الهداية- الصادر عن «المجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام»، في مدينة قمّ المقدسة.
«شعائر»
بذل الإمام الصادق عليه السلام نشاطاً واسعاً لاستعادة الإيمان، وبناء الذات وسموّها، وفق الخط القرآنيّ، وترشيح قواعد إيمانية رصينة، والانطلاق بالإيمان إلى آفاقٍ أرحب وأوسع، بدل التقوقع والنظرة الآحادية المجزّئة للدين. ونقتصر، في ما يلي، على بعض الخطوات التي رسّخ الإمام عن طريقها الإيمان في نفوس أصحابه وخاصّته.
1) حذّر الإمام من تكوين علاقات إيمانية مع من كانوا يسمّون بالعلماء -الذين انتشروا في زمانه- ومنع من الاقتداء بهم، لأنّ ما يتحقّق من خلال التعاطف معهم والمحبّة لهم من دون معرفة لواقعهم النفسيّ والأخلاقيّ يكفي لبناء صرح إيمانيّ خاطئ ومنحرف؛ فإنّ العلم الذي يتمتّع به هؤلاء إنما يكون كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يحسبُه الظمآنُ ماءً.
والإمام عليه السلام يشير إلى أن هذا النوع من العلاقة ينتهي إلى فساد العلاقة مع الله والابتعاد عنه سبحانه، قال عليه السلام: «أوحى الله إلى داود: لا تجعلْ بيني وبينك عالماً مفتوناً بالدنيا فيصدّك عن طريق محبّتي؛ فإنّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين، إنّ أدنى ما أنا صانعٌ بهم أن أنزعَ حلاوة مناجاتي من قلوبهم».
2) ومن الأمور التي صحّحها الإمام عليه السلام ونبّه عليها أصحابه؛ هو مفهوم الإيمان ومعناه، فحاول أن يبلور صورته الصحيحة ويكشف عنه الإبهام في نفوس أصحابه، وذلك عن طريق تشخيص صفات المؤمن؛ فإن المؤمن هو ذلك الإنسان الذي يعكس المفهوم الإلهيّ بصورته الشاملة للحياة، وليس هو ذلك النموذج المستسلم في حياته الفاقد لإرادته، والذي يطمع فيه أهل السياسة لاستثمار طاقاته باتجاه مصالحهم.
ولهذا نرى الإمام عليه السلام يشير إلى مسألة مهمة تستبطن بُعداً اجتماعياً وسياسيّاً ينبغي للمؤمن أن يعيها ويتحرّك بموجبها، حين قال عليه السلام: «إنّ الله فوّض إلى المؤمن أمره كلّه، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمعُ الله تعالى يقول: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ﴾ فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً».
3) كما بيّن الإمام عليه السلام أن القلب الخالي من مخافة الله -وهي معيار الكمال والقوّة لقلب المؤمن- ليس بشيء؛ فالقلب المملوء خوفاً من الله الكبير المتعال تتصاغر عنده سائر القوى.
عن الهيثم بن واقد قال: سمعت أبا عبدالله عليه السلام يقول: «مَن خاف اللهَ أخافَ اللهُ منه كلّ شيء، ومَن لم يخفِ اللهَ أخافَه اللهُ من كلّ شيء».
4) ومن جملة تنبيهاته صلوات الله عليه للشيعة، أنه قد حذّر من الثرثرة في الكلام وأمرهم بضبط اللسان: «إنْ كان الشّؤم في شيء فهو في اللسان، فاخزنوا ألسنتكم كما تخزنون أموالكم...فليس أقتلَ للرجال من اتّباع الهوى وحصائد ألسنتهم».
مظاهر عمق الإيمان
لقد أعطى الإمام الصادق عليه السلام للشيعة علائم ومؤشّرات واضحة تكشف عن عمق التديّن وعن مدى صحّته وسلامته. فإن الإيمان أمرٌ باطنيّ، ولكن له آثاره ومظاهره التي تكشف عنه. ولا معنى لإيمان بلا عطاء ولا ثبات ولا قدرة على المواجهة.
فالمؤمن، هو ذلك النموذج الذي يبرز تديّنه عندما يوضع على المحكّ، ويتعرّض للمصاعب ولا ينثني أمام المغريات، ولا يستجيب لمخطّطات أهل الباطل.
وقد هاجم الإمام عليه السلام تلك الشريحة التى تنتسب إلى التشيّع وهي تمارس أخلاقيات مرفوضة في نظر الإمام، وأوضح بأن الإيمان كُلٌّ لا يتجزّأ بصفةٍ دون أخرى: «إنّما ينجو مَن أطالَ الصمتّ عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، أولئك النُّجباء الأصفياء الأولياء حقّاً، وهم المؤمنون، إنّ أبغضَكم إليَّ المترَئّسون المشّاؤون بالنمائم، الحَسَدة لإخوانهم، ليسوا منّي ولا أنا منهم، إنّما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا واتّبعوا آثارنا واقتدوا بنا في كلّ أمورنا ».
كما نجد الإمام عليه السلام يعطي ضابطة سلوكية تكشف بدورها عن مستوى التديّن، وعمقه في النفس: «إذا رأيتم العبدَ يتفقّدُ الذنوبَ من الناس، ناسياً لذنبه، فاعلموا أنه قد مُكِر به».
القدوة الحسنة
من الوسائل التي استخدمها الإمام عليه السلام في منهجه التغييريّ وبنائه للمجمتع الفاضل، اهتمامه وتركيزه على النموذج الشيعيّ الذي يشكّل القدوة الحسنة في سلوكه، ليكون عنصراً مؤثّراً ومحفّزاً للخير، ومشجّعاً لنموّ الفضيلة في داخل المجتمع. وقد بذل الإمام عليه السلام جهداً منقطع النظير في تربيته وإعداده للنموذج القدوة، وقد سلّحه بمختلف العلوم وأحاطه بجملة من الوصايا والتوجيهات العلمية والأخلاقية.
واستطاع الإمام بطاقاته الإلهية أن يصنع عدداً كبيراً من هؤلاء الذين أصبحوا فيما بعدُ قادةً ومناراً تهوي إليهم القلوب لتنهلَ من علومهم، وبقي اسمهم مخلّداً في التاريخ يتناقل المسلمون مآثرهم جيلاً بعد جيل.
جاء عنه عليه السلام في ما يخصّ العبادة التي يتميّز بها الشيعيّ، وعلاقته بالله تبارك وتعالى: «امتحِنوا شيعتَنا عندَ مواقيتِ الصّلاة، كيف محافظتُهم عليها، وإلى أسرارنا كيف حِفظُهم لها عندَ عدوّنا، وإلى أموالهم كيف مُواساتهم لإخوانهم فيها».
ولقد بيّن الإمام الصادق صفات الموالي الصادق في حديثه مع المفضّل بن عمر، حيث يقول عليه السلام مستنكراً على مُنتحلي التشيّع الحقيقيّ: «..وما شيعةُ جعفرٍ إلا مَن كفّ لسانَه، وعملَ لخالقِه، ورجا سيّدَه، وخاف اللهَ حقّ خِيفته...».