﴿..قد تبيّن الرّشدُ من الغيّ..﴾
حرّية المعتَقَد في الإسلام
_____محمّد نصيري*_____
﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ..﴾ البقرة:256، تكوينٌ يؤكّد أنْ لا تشريعَ يناقضُه، فالتّشريع فطريّ، وحرّية المعتقَد حقٌّ مُصان، إلّا أنّ هذا لا يعني عدم ترتّب أحكامٍ على المعتقَد الباطل، بل يعني أنّ هذه الأحكام لا تصلُ إطلاقاً إلى مصادرة حرّية المعتقَد.
بالنّظر إلى آيات القرآن الكريم وسنّة النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، فإنّ حريّة العقيدة من أصول ومباني الإسلام، لقوله تعالى ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ..﴾ البقرة:256. وعلى هذا، فإنّ اللُّجوء إلى العنف، والشدّة، وإشهار السّيف في الدّعوة لا معنى له، وخاصّة حينما نرى أنَّ الإسلام يقبل الإيمان والتّسليم الظّاهري، ويعتبره مقدّمة للإيمان الرّاسخ القلبي، الذي لا يمكن أن يتوافق مع أيٍّ من أشكال الخشونة أبداً.
ويجدر التنبُّه إلى أنّ الإكراه على قبول العقيدة يؤدّي إلى اتّساع النِّفاق، والتَّظاهر بالإسلام رياءً، والذي بدوره ليس بأقلّ خطراً من الكفر ذاته.
ثمّ إنّ الإنسان خليفةُ الله تعالى في أرضه، وقد أبان الله له السُّبلَ بأنواعها، الصّحيحة وغير الصّحيحة، لقوله تعالى ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ البلد:10، وقد وهبه الاختيار لسلوك أيٍّ منها، لقوله تعالى ﴿..فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ..﴾ الكهف:29، كما أنّ أيّاً من أشكال التّغيير في حياته موكول إليه وإلى سَعيِه في هذه الدُّنيا، لقوله تعالى ﴿..إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ..﴾ الرعد:11.
والإسلام لا يرى أنّ استدلال أتباع دينٍ ما على أحقيّة دينِهم، يُجيز لهم إكراه الآخرين وإجبارهم على اتّباع الدِّين ذاته. والنّاظر في آيات القرآن الكريم المبيّنة لتفاصيل الجهاد في الإسلام لا يستشفّ منها سعياً لفرض الإسلام من خلال القوّة. بل إنّ الجهاد -في حقيقة أمره- هو دفاعٌ عن النّفس والمال والعِرض، ودفاعٌ عن المظلومين، وإزالة للفتنة، ورفع الحواجز والموانع التي تحُول دون بلوغ الدّعوة لعامّة النّاس.
والآيات التي تبيّن حدود مسؤوليّة النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله في أمر الدّعوة وأساليب التّبليغ التي سلكها، تبيّن أنّ الإكراه والإجبار لا موضع لهما، إذ أنّ وظيفة النّبيّ إنّما تنحصر في هداية النّاس، وسبيلها الموعظة، والمجادلة بالتي هي أحسن. يقول الله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ..﴾ الشورى:48.
ويقول تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِر﴾ الغاشية:21-22.
وقال جلّ شأنه: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ﴾ التوبة:6. ومن هذه الآية الأخيرة ثمّة مسائل يمكن استنباطها وفق رأينا الشخصي:
أوّلاً: إنَّ سبيل البحث والنّظر لأيّ شخص، حتّى لو كان مشركاً، ميدانه فسيح، فيجب أن يترَك ليختار أصلح الطُّرق، وأقوَم العقائد.
ثانياً: مضافاً إلى ضرورة توافر الاختيار، فإنّ ضمان أمن وسلامة الأفراد المخيّرين في العقائد أمرٌ رديفٌ لهذه الحرّية.
ثالثاً: إنَّ نتيجة البحث والنّظر التي يتوصّل إليها الفرد الباحث عن الحقيقة، لا ينبغي التّدخُّل فيها وإكراه صاحبها على تبنّي خلافها.
رابعاً: يجب تهيئة الظَّرف لكلّ مشرك مستجير كي يسمع نداء الله ووحيَه، ليتسنّى له اختيار أحسن القول، فيكون اختياره هذا مبنيّاً على أساسٍ من السّماع لنداء الله، وعلى إجالة النّظر والفكر تدبّراً في مدلولاته.
خامساً: ومن ثمّ يتم إيصال هذا المستجير إلى المكان الذي يتبلّغ به الأمن؛ ليتسنّى له ممارسة ما تقتضيه عقيدته من مناسك وعبادات وشعائر.
* باحث في الفكر الإسلامي