الحِكمة*
التّـوَلُّه بدارِ البقاء
ـــــ إعداد: «شعائر» ـــــ
ذكرَ اللهُ تعالى الحِكمة في غير موضعٍ في القرآن الكريم، وأبان رسولُ الله وأهلُ بيته عليهم الصلاة والسلام معناها، ونظرة في أحاديثهم الشريفة تُفضي إلى أنّها حقيقةٌ على مراتب، من مصاديقِها القرآنُ الكريمُ بعينِه، ومعرفةُ الإمام، والتفقُّه في الدِّين، واجتناب الكبائر، وأنّ أوّلَها تركُ اللّذات وآخرَها مقتُ الفانيات، كما في الحديث عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه.
بيّنَ علماء اللّغة للحكمة معنيَين رئيسَين: الأول: «المنع»، والثاني: «الإستحكام». وارتباطها مع هذَين المعنيين هو أنّها مانعة من الجهل والأخلاق المذمومة. وقال العلّامة الطباطبائيّ في (الميزان): «الحكمة ".." بناءُ نوعٍ يدلُّ على نوع المعنى. فمعناه النوعُ من الإحكام والإتقان، أو نوعٌ من الأمر المحكَم المتقَن الذي لا يوجد فيه ثلمة ولا فتور. وغلبَ استعمالُه في المعلومات العقليّة الحقّة الصادقة التي لا تقبل البطلان والكذب البتّة».
الحكمة في القرآن الكريم
تكرّرت كلمة «الحكمة» في القرآن الكريم عشرين مرّة، ووصف الله تعالى نفسه ومجّدَها في الكتاب العزيز بـ «الحكيم» إحدى وتسعين مرّة. وجاءت هذه الصفة تبياناً لحكمة الله سبحانه 36 مرّة مع صفة «العليم»، و47 مرّة مع صفة «العزيز»، و4 مرّات مع صفة «الخبير»، ومرّة واحدة مع كلٍّ من «التوّاب»، و«الحميد»، و«العلِيّ»، و«الواسع».
ومما جاء حول الحكمة قوله تعالى: ﴿يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ البقرة:269.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ لقمان:12.
﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ...﴾ الإسراء:39.
هذا، وللمفسرين آراء متفاوتة في تفسير الحكمة، فقد نقل الآلوسي في (تفسيره) عن كتاب (البحر) تسعةً وعشرين قولاً في تفسيرها، فقال: «إنّ فيها تسعةً وعشرين قولاً لأهل العلم، قريبٌ بعضُها من بعض. وعدَّ بعضُهم الأكثر منها اصطلاحاً، واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهمّاً من الحكمة، وإلّا فهي في الأصل مصدرٌ من الإحكام، وهو الإتقان في علمٍ أو عملٍ أو قول، أو فيها كلِّها».
الحكمة في الأحاديث
إنّ التأمّل في استعمال القرآن الكريم والحديث الشريف لكلمة «الحكمة» في شأن الإنسان يقدّم لنا تعريفاً واضحاً لها. فهي «عبارة عن المقدّمات العلميّة، والعمليّة، والروحيّة لبلوغ الإنسان الهدف الأعلى للإنسانية». وكلُّ ما تذكره الأحاديثُ في تفسيرها مصداقٌ من مصاديق هذا التعريف العام.
في ضوء التعريف المتقدّم تُقسَم الحكمة إلى ثلاثة أقسام هي: الحكمة النظريّة، والحكمة العمليّة، والحكمة الحقيقية. وهذه الأقسام الثلاثة تمثّل القاعدة الوطيدة والمراقي المقوّية المتقَنة للعروج إلى مقام الإنسان الكامل، والدنوّ من الكمال المطلَق. فالأنبياء وضعوا المرقاةَ الأولى، وعلى الإنسان أن يصنعَ المرقاة الثانية، وأما الثالثة فهي على الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّ حدَّ الحكمة هو «الإعراضُ عن دار الفَناء، والتّولُّهُ بدار البقاء»، وأنّ ثمرتَها «التّنزُّه عن الدّنيا، والوَلَهُ بجنّة المأوى».
وأمّا مصاديق «الحكمة» في الحديث المعصوم، فهي:
1- «القرآن» كما في النبويّ الشريف في تفسير قوله تعالى ﴿..وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً..﴾ البقرة:269، أو «القرآن والفقه» أو «المعرفة والتفقّه في الدِّين، فمن فقَه منكم فهو حَكيم» كما في المَروي عن الإمام الصادق عليه السلام.
2- «طاعةُ الله ومعرفةُ الإمام»، أو «معرفةُ الإمام، واجتنابُ الكبائر التي أوجبَ اللهُ عليها النّار». (الإمام الصادق عليه السلام)
3- «الحكمة وضدُّها الهوى». (الإمام الصادق عليه السلام)
4- «الفَهم والعقل»، أو «الفَهم والقضاء». (الإمام الكاظم، الإمام الصادق عليهما السلام)
* مختصَر من كتاب (العِلم والحكمة في الكتاب والسنّة) للشيخ محمد الرّيشهري