الأمراض المعنويّة أشدّ خطراً
داء الغِيبة العُضال والفَتَّاك
________آية الله مجتبى الطهراني_______
الغِيبة، هذا الدّاء المعنويّ والإجتماعيّ يقع في مقدّمة الآفات الأخرى مثل الكذب. البهتان. التّهمة. المراء. الجدال. الخصومة. الشّتم. الشّماتة. الخوض في الباطل. الإستهزاء. النّميمة، والهذر في الكلام.
مُقتطفٌ من بحثٍ لِأحد أساتذة الأخلاق والعرفان في حوزة قُمّ آية الله مجتبى الطّهراني، نقرأ فيه إضاءات على آفة الغِيبة في مظاهرها ومصادرها، والفرق بينها وبين آفات اللّسان.
«شعائر»
|
الغِيبة عند علماء علم الأخلاق ومفكّريه هي ذكر عَيْب شخص ما، أو نقصِه في غيابه، ونقلُه إلى الآخرين أو إفهامُهم إيّاه. وبعبارة أخرى: «الغِيبة: هي ذِكر أخيك بما يكرهه لو بَلَغه».
الفرق بين الغِيبة والبُهتان
البُهتان هو نسبة عَيْبٍ أو نقصٍ لشخص هو ليس فيه، في حضوره أو غيبته، أي إذا لم يكن في الشّخص عَيْب أو نقص، ونُسب إليه ذلك فهذا هو البهتان.
وإذا نَسب له عيباً هو غير موجود فيه، في غيبته، فقد اغتابه وافترى عليه، وتصدُق أحكام الغِيبة والبُهتان عليه، بمعنى أنَّ على مَن يغتاب الإستغفار، وطلب العفو والصّفح عمّا صدر منه.
رُوي عن أبي ذرّ الغفاري رضوان الله عليه أنَّه سأل النّبيّ صلّى الله عليه وآله عن الغِيبة،
فقال صلّى الله عليه وآله: ذكرك أخاك بما يَكره.
فقلت: يا رسول الله، فإن كان فيه الذي يُذكر به؟
فقال صلّى الله عليه وآله: إعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه، فقد اغتبته، وإذا ذكرته بما هو ليس فيه، فقد بَهّته.
ورُوي عن الإمام الصّادق عليه السلام، في هذا المعنى قوله:
«إنّ من الغِيبة أن تقول في أخيك ما سَتَره الله عليه، وإنَّ من البُهتان أن تقول في أخيك ما ليس فيه».
الفرق بين الغِيبة والتُّهمة
التُّهمة هي نسبة عمل مذموم أو قبيح إلى شخصٍ ما استناداً إلى الحدس أو الظّن، والغيبة هي إظهار العيوب الحقيقيّة له في غَيبته.
أقسام الغِيبة
الغِيبة عدّة أقسام، هي:
1- بالقول: الغِيبة بالقول هي أشهر أنواع الغِيبة، وتتمثّل في أن يقول الإنسان عيب أخيه المؤمن ونقصه.
2- بالكتابة: وتتمثّل في أن يكتب الشّخص عَيْب أخيه بدلاً من أن يقوله، فيكون [المُطّلع على الغيبة] قارئاً في هذه الحالة بدلاً من كونه سامعاً.
3- بالفعل: أن يُفهم الآخرين عَيْب أخيه بالعرض والفعل.
4- بالكناية: أن يُفهِم الشّخص عيوب غيره باستخدام جُمل الكناية المعبّرة في غيابهم، مثل قوله: «الحمد لله أنّه لم يمنحنا الرّئاسة»، أو «ألجأ إلى الله من عدم الإستحياء هذا وعدم الخجل»، وهذا كناية عن عدم كفاءة الشخص الغائب أو عدم حيائه وخجله.
5- بالإشارة: أن ينتقص غيره بالإشارة باليد أو بسائر الأعضاء، وهذه الإشارة إمّا أن تكون لفظيّة أو عمليّة. روي عن عائشة أنّها قالت: «دخلت علينا امرأة، فلمّا ولّت، أَومأتُ بيدي أنّها قصيرة، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وآله: قد اغتبتِها».
أنواع العيوب والنّقص
سبق أنَّ الغِيبة هي أن يَذكر المسلم أخاه المؤمن، أو أخته المؤمنة، بما ليس فيهما من عيب أو نقص عند غيابهم، ولم يكن يعرف بهما السّامع، أو لم يسمع بهما من قبل. ومن الضّروري هنا أن نتناول أنواع هذا العَيْب أو النّقص وكيفيّته، وعرضه بأسلوبٍ واضحٍ وجليٍّ، فنقول:
1- النّقص النفسي والرّوحي: وهو أن يُبتلى شخص بالرّذيلة، كالحسد أو التكبّر، ويشار خلفه بارتكابه تلك الرّذيلة.
2- النّقص الجسمي والبدني: وهو أن يُبتلى شخص بنقص عضوي لا يعرفه أحد غيره.
3- النّقص الدِّيني: وهو أن يتهاون شخص بالصّلاة، فيذكر المغتاب عيبه هذا في مكان آخر.
4- النّقص المالي: كأن يصف المغتاب مؤمناً بالفقر والحرمان والعوز، وعدم تمكّنه المالي، أو يفهم ذلك منه بطريق آخر، فهذا، وإن كان عن تألّم وإشفاق عليه غِيبة.
5- النّقص النَّسَبي: كأن يقول المُغتاب: إنَّ أبا فلان أو أحد أجداده بَخيل أو فاسق، وقد عدَّ بعض العلماء أنَّ بيان النّقص الموجود في الثّياب والبيت، وغيرهما من حاجات الشخص ولوازمه، هو غيبة أيضاً.
ذمُّ الغيبة شرعاً
مِن أكثر الآيات صراحة في ذمِّ الغِيبة، وعدّها من الذُّنوب الكبيرة، قوله تعالى في سورة الحجرات: ﴿يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه..﴾ الحجرات:12.
قال جلال الدّين الرومي ما معناه: «مَن اغتاب عباد الله، فحكمه أن يعطى له من لحم أخيه، فيأكله جزاء فعله». ومن أساليب معرفة كبر الذّنب وفداحته، هو مقارنته بكبائر الذّنوب الأخرى -المعاصي الكبيرة-. وقد شَبَّهت هذه الآية الغيبة بأكل المِيتة، وهي من كبائر الذّنوب، فلو كانت المِيتة هي من الغنم، فأكلها حرام، فما بالك إذا كان المأكول هو مِيتة الإنسان!؟ والأهمّ من هذا إذا كان هناك رابطة وأواصر الأخوَّة بين الإنسان والمِيتة! ويمكن من خلال هذه المقارنة معرفة مستوى قبح الغِيبة وفظاعتها.
رُوي عن الإمام الحادي عشر الحسن العسكري عليه السلام قوله: «إعلموا أنَّ غيبتكم لأخيكم المؤمن من شيعة آل محمّد صلّى الله عليه وآله أعظم من التّحريم من المِيتة».
وكذلك رُوي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله قوله: «إنَّ الغِيبة أشدّ من الزّنا».
ومن الواضح أنّ الزّنا هو من الذّنوب الكبيرة، والغِيبة أقبح منه؛ فهي من الذُّنوب الكبيرة (المعصية كبيرة).
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم..﴾ النور:19، وقد فسّر المفسِّرون قوله: ﴿..تشيع الفاحشة..﴾ بالغيبة.
روي عن الإمام الرّضا عليه السلام عن أبيه موسى بن جعفر عليه السلام عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «إنَّ الله يبغض البيت اللّحم، فقالوا له: يا ابن رسول الله، وما البيت اللّحم؟ فقال عليه السلام: إنّما البيت اللّحم البيت الذي تؤكل فيه لحوم النّاس بالغِيبة».
وفي رواية أخرى «أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله نظر في ليلة المعراج إلى نار جهنَّم، فرأى جماعة يأكلون الميتة، فقال لجبرائيل: مَن هؤلاء؟ فقال جبرائيل: هؤلاء مَن يأكلون لحوم النّاس».
وتتجسّم أعمال الإنسان يوم القيامة، فإذا كان عمل الإنسان ذنباً ومعصية، فإنه يتّخذ هيئة صُوَر الحيوانات وأشكالها، فإن كانت أعماله حسنة وصالحة، فتكون مُسرّة ومُفرحة، وتكون له صُوَر الحُور أو الغلمان، وتكون أعمال الصّالحين يوم القيامة بأشكال الحُور العين، يضمّونها إليهم، وأهل النّار ما يأكلون إلَّا المِيتة ولهم عذاب النّار.
رُوي عن الإمام عليّ عليه السلام أنَّه قال: «الغِيبة قُوت كلاب النّار».
وفي رواية أخرى عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «اجتنبوا الغيبة فإنَّها إدام كلاب النّار».
أبعاد الغيبة من المنظار الرِّوائي
يمكن النّظر إلى الغيبة من ثلاث زوايا ذات ثلاثة أبعاد مختلفة:
1- البُعد العملي: الرّوايتان المتقدّمتان تشيران إلى البُعد العملي للغيبة.
2- البُعد الباطني (النّفسي): رُوي عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام أنّه قال: «أَلأَم النّاس المُغتاب». ويشير الإمام عليه السلام في هذه الرّواية إلى البعد الباطني والنّفسي للغيبة، أي بيان الحالة الداخليّة والنفسيّة للشّخص المغتاب.
3- البُعد المعنوي (الإلهي): ويشير الإمام عليّ عليه السلام، في رواية أخرى، إلى التّأثير السّلبي للغيبة في البُعد المعنوي، وبيان كيفيّة ارتباط الله بأهل الغيبة. قال عليه السلام: «أبغض الخلائق الى الله المغتاب»، وعن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، لا تغتابوا المسلمين».
وقد صرّح رسول الله صلّى الله عليه وآله في هذه الرواية بأنَّ مَن يغتاب المسلمين هو فاقد الإيمان القلبي، لأنَّ مَن يشهد ويقرّ بلسانه بوحدانيّة الله، ورسالة النّبيّ صلّى الله عليه وآله هو مسلم، ولكنّه إذا فقد ارتباطه القلبي، أي لم يكن يتحلَّى بصفة الإيمان، واغتاب مسلماً من المسلمين، فقد ضَعف البُعد المعنوي أيضاً.
فالمسلم الواقعي والحقيقي إذاً، هو من يكون قلبه ولسانه معتقدَين ومبتعدَين عن الغِيبة.