غَمَرات التّثبُّت واليقين
هل يتطابق الشرع والعقل؟*
______الشيخ حسن زاده آملي______
في معرض الحديث عمّا يواجهه الباحث عن الحقيقة، قال الفقيه العالم الكبير المعاصر الشيخ حسن زاده آملي: أغتنم الفرصة لأروي ما حَدَث لي قديماً، لعلّه ينفع البعض، ويكون سبباً في تنبُّه القارئ، وهو كما يلي:
|
أثناء دراستي وتعلُّمي العلوم العقليّة والصُّحف العرفانيّة، ابتليتُ في طريق الوصول إلى العقائد الحقّ، بالبرهان والعرفان بوساوس مرعبة وخبيثة وخطيرة المنشأ والعاقبة، فاستولَتْ عليَّ حالة الخيبة من الحكمة والميزان «المنطق» بحيث كانت الشُّبهات تنهال عليَّ من كلِّ صَوب.
وكان منشأ هذه الشُّبهات تطابق ظواهر الشَّرع الأنوَر، على صادعه الصّلاة والسّلام، مع المسائل العقليّة والعرفانيّة. حيث كنت عاجزاً عن التوفيق بينهما، ولفرط ما فكَّرت أصبتُ بتعبٍ وانهيارٍ يفوقان التّصوُّر، ولكثرة أسئلتي لمشايخي -الّذين هم علماء الدّين بحقّ، والجواهر الفريدة السّيّارة والثّابتة في سماء العلم- كنت أتوجَّس من التّجرُّؤ، وأخاف من إساءة الأدب، وأخشى من تـكدير خواطرهم، وأحتمل سوء الظّنّ.
هذه الوساوس تسبَّبت كما مرَّ بنظرة سلبيّة إلى العلوم العقليّة، والتّنفُّر من المنطق والحكمة والعرفان، إلَّا أنَِّي كنت أحضر الدّروس برجاء «لعلَّ الله يُحدِث بعد ذلك أمراً» ولم أكن أكشف سرِّي، وكنتُ أفكِّر في تضرُّع أعاظم الحكماء وتذلُّلهم للتّمكُّن من فهم المسائل، كصاحب (الأسفار) [صدر المتألّهين قدّس سرّه: (الأسفار الأربعة)] الذي يقول في مسألة اتّحاد النّفس بالعقل الفعّال والإستفاضة منه: «وقد كنّا ابتهلنا إليه بعقولنا، ورفعنا إليه أيدينا الباطنة لا أيدينا الدّاثرة فقط، وبَسَطنا أنفسنا بين يديه، وتضرَّعنا إليه طلباً لكشف هذه المسألة وأمثالها».
الشّيء الوحيد الذي أنقذني من هذه الورطة المهولة، هو اللُّطف الإلهي، فكنتُ ألقِّن نفسي أنَّه إذا دارالأمر بين عدم فهم مثلك وعدم وصوله، وبين عدم فهم مثل المعلِّم الثّاني أبي نصر الفارابي، والشّيخ الرّئيس ابن سينا، والشّيخ الأكبر محي الدّين بن عربي، وأستاذ البشر الخواجة نصير الدّين الطّوسي، وأبي الفضائل الشّيخ البهائي، والمعلِّم الثّالث الميرداماد، وصدر المتألّهين الشيرازي، وعدم وصولهم (إلى الحقائق) أفَهَل مثلك أولى بعدم الفهم وعدم الوصول، أم كلّ أعمدة المعارف أولئك؟
وهكذا كنت أضع نفسي في جانب، وأكابر العلم الآخرين من التّلامذة المتفوِّقين لأولئك العظماء في جانب آخر، ثمَّ أُجري تلك المقارنة وأُلقِّن نفسي، حتّى كنتُ أنتهي إلى أساتذتي الّذين كانوا بحقٍّ وَرَثة الأنبياء وخَزَنة خزائن المعارف رفع الله درجاتهم، والّذين كنتُ أيضاً أضع نفسي في جانب وأضعهم في جانب آخر وأُجري نفس المقارنة والتّلقين: هل أنتَ أَوْلى بعدم الفهم أم مفاخر الدّهر أولاء، على غرار ما ذَكَره العلّامة الشّيخ البهائي حول الشّيخ الأجلّ الصَّدوق الذي قال بسهو النّبيّ، فقال الشّيخ البهائي: «إذا دار الأمر بين سهو رسول وسهو صدوق، فالصَّدوق أَوْلى به».
وقد شعرتُ من هذه المقارنة بالإستقرار بعض الشّيء، إلى أن طَرَقَت سماءَ القلب البوارقُ الإلهيّة كالنّجم الثّاقب، ونَجَوت في ملجأ ربِّ النّاس من شرِّ الوسواس الخنّاس، فَفَاض ما فاض، وكأنَّ الكلام والحديث الذي يلامس شغاف القلب لصاحب (الأسفار) أصبح ذكري القلبي: «حاشا الشّريعة الحقّة الإلهيّة البيضاء أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينيّة الضّروريّة، وتبّاً لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسُّنّة».
وعندما فُتِح أمامنا باب الرّحمة الرّحيميّة وجدنا بعلم اليقين، بل بعين اليقين، وأعلى بحقِّ اليقين، وأبعد ببرد اليقين، أنَّ المطالب العقليّة والعرفانيّة التي هي سهل ممتنِع، رموز أدركنا أنَّها إشارات إلى كنوز.
بلى، لا يصل الجاهل إلى العلم بسهولة، ويلزمه كثير سفر لينضج.
____________________________________
*آية الله الشيخ حسن زاده آملي، قرآن وعرفان وبرهان (م.م، فارسي) ص34-36
نقلاً عن في (المنهج المعصوم والنص)