النّهار واللّيل
مرآة
الدّنيا والآخرة
ــــــــــــــــــــــــ
المرجع الديني الشيخ ناصر مكارم الشيرازي* ــــــــــــــــــــــــ
تتجلّى
عظمة الخالق في عدد كبير من الآيات الكونيّة التي تدلّ على وحدانيّة الله تعالى، وعلى
مسألة المعاد، وتنجلي الاستنتاجات العلميّة المقنعة أنّ الحقيقة الكونيّة هي خدمة
للبشريّة ومظهر من مظاهر ارتباط الدّنيا بالآخرة ... وظاهرة اللّيل والنّهار التي
يعيشها الإنسان يوميّاً واحدة من هذه الحقائق الكونيّة؛ فإذا كان النّهار للعمل
والسّعي الدّؤوب، فإنّ اللّيل جُعل للسّكن والرّاحة.. وكلّ ذلك يقودنا إلى حكمة
الله وعظمته.
إذا
تأمّلنا هذه الآية القرآنيّة: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ
لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ﴾ النمل:86....
نجدّ
أنّها تتحدّث عن مسألة المبدأ والمعاد، وآثار عظمة الله، ودلائل قدرته في عالم
الوجود، وحوادث القيامة، فتقول: ألم يروا أنّا جعلنا اللّيل ليسكنوا فيه والنّهار
مبصراً وفي ذلك علائم ودلائل واضحة على قدرة الله وحكمته لمن كان مستعدّاً للإيمان،
إنّ في ذلك لآياتٍ لقوم يؤمنون.
وهذه
ليست أوّل مرّة يتحدّث فيها القرآن عن اللّيل والنّهار الحيويّة، ونظامَي النّور
والظّلمة، كما أنّها ليست آخر مرّة أيضاً.. وذلك لأنّ القرآن كتاب تعليم وتربية،
وهو يهدف إلى بناء الشّخصيّة الإنسانيّة... ونحن نعرف أنّ أصول التّعليم والتّربية
تقتضي أحياناً أن يتكرّر الموضوع في «فواصل» مختلفة، وأن يذكّر النّاس به ليبقى في
الذّهن كما يقال.
فالسّكَن
أو الهدوء الّذي يحصل من ظلمة اللّيل، مسألة علميّة وحقيقة مسلَّم بها، فسدل اللّيل
ليست أسباباً إجباريّة لتعطيل النّشاطات اليوميّة فحسب، بل لها أثر عميق على سلسلة
الأعصاب في الإنسان وسائر الحيوانات، ويجرّها إلى الرّاحة والنّوم العميق، أو كما
يعبّر القرآن عنه بالسّكون!
وكذلك
العلاقة بين ضوء النّهار والسّعي والحركة التي هي من خصائص النّور من النّاحية
العلميّة - أيضاً - ولا مجال للتّردّد فيها. فنور الشّمس لا يضيء محيط الحياة
ليبصر الإنسان به مآربه فحسب، بل يوقظ جميع ذرّات وجود الإنسان ويوجّهه إلى الحركة
والنّشاط!
فهذه
الآية توضح جانباً من التّوحيد الرّبوبيّ، ولمّا كان المعبود الواقعيّ هو ربّ «عالم
الوجود» ومدبّره، فهي تشطب بالبطلان على وجوه الأوثان!.. وتدعو المشركين إلى إعادة
النّظر في عبادتهم.
وينبغي
الالتفات إلى هذه اللّطيفة، وهي أنّ على الإنسان أن يجعل نفسه منسجماً مع هذا النّظام،
فيستريح في اللّيل ويسعى في النّهار، ليبقى نَشِطاً صحيحاً دائماً... لا كالمنقاد
لهواه الذي يطوي اللّيل يقظاً ساهراً وينام النهار حتّى الظّهر!.
والطّريف
أنّ كلمة «مبصر» نُسبت إلى النّهار ووُصف بها، مع أنّها وصف للإنسان في النّهار،
وهذا نوع من التّأكيد الجميل للاهتمام بالنّشاط في النّهار، كما يوصَف اللّيل
أحياناً بأنّه «ليل نائم».
وهذا
التّفاوت في التّعبير في الآية، هو لبيان فائدة اللّيل والنّهار، إذ جاء في شأن
اللّيل لتسكنوا فيه، وعبَّر عن النّهار بــ «مبصر»، فلعلّ هذا الاختلاف في
التّعبير إشارة إلى أنّ الهدف الأصليّ من وجود اللّيل هو السّكون والهدوء، والهدف
من الضّوء والنّهار ليس النّظر فحسب، بل رؤية الوسائل الموصلة إلى مواهب الحياة
والاستمتاع بها، فلاحظوا بدقّة.
وعلى
كلّ حال، فهذه الآية وإن كانت تتكلّم مباشرةً عن التّوحيد وتدبير عالم الوجود، إلّا
أنّها ربّما كانت إشارة لطيفة إلى مسألة المعاد، لأنّ النّوم بمنزلة الموت،
واليقظة بمنزلة الحياة بعد الموت!
* نقلاً عن (الأمثل في تفسير كتاب
الله المنزَل)