من وصيّة العلّامة الحلّيّ لولده
شرح الشّيخ الأصفهانيّ
المعروف بـ «الفاضل الهنديّ»
_____ إعداد: هيئة التّحرير _____
للعلّامة الحلّيّ، الحسن بن يوسف بن المطهّر (ت 726 هجريّة) كتاب فقهيّ عنوانه (قواعد الأحكام
في معرفة الحلال والحرام)، وقد أورد في آخره وصيّة لولده محمّد المعروف بـ «فخر
المحقّقين»، وفي ما يأتي مقطعٌ من هذه الوصيّة، شرحَها الشّيخ محمّد بن الحسن الأصفهانيّ
(ت
1137 هجريّة) المعروف بـ«الفاضل الهنديّ»، في موسوعته (كشف اللّثام عن قواعد
الأحكام)، مع الإشارة إلى أنّ ما بين الهلالَين هو من متن الوصيّة، وما يأتي بعده
تعليق المؤلّف.
|
فإنّي أُوصيك - كما افترضه الله تعالى عليّ من الوصيّة،
وأمرني به حين إدراك المنيّة - بمُلازمة تقوى الله تعالى، فإنّها السُنّة القائمة،
والفريضة اللّازمة، والجُنّة الواقية، والعُدّة الباقية، وأنفع ما أعدّه الإنسان ليومٍ
تَشْخَص فيه الأبصار، وتُعدَم عنه الأنصار.
وعليك باتّباع أوامر الله تعالى، وفعلِ ما يُرضيه،
واجتناب ما يكرهه، والانزجار عن نواهيه، وقطع زمانك في تحصيل الكمالات النّفسانيّة،
وصرف أوقاتك في اقتناء الفضائل العلميّة، والارتقاء عن حضيض النقصان إلى ذروة الكمال،
والارتفاع إلى أوج العرفان عن مهبط الجُهّال، وبذل المعروف، ومساعدة الإخوان،
ومقابلة المُسيء بالإحسان، والمُحسن بالامتنان. وإيّاك ومصاحبة الأرذال، ومعاشرة
الجهّال، فإنّها تفيد خُلُقاً ذميماً، وملكةً رديئة. بل عليك بملازمة العلماء
ومجالسة الفضلاء، فإنّها تفيد استعداداً تامّاً لتحصيل الكمالات، وتُثمر لك مَلَكةً
راسخة لاستنباط المجهولات. وَلْيَكن يومُك خيراً من أمسك، وعليك بالصّبر والتّوكُّل
والرّضا.
من شرح الوصيّة
-
(فإنّي أُوصيك) ".." (بملازمة تقوى الله تعالى، فإنّها السّنّة القائمة) أي الطّريقة الثّابتة الّتي لا يتطرّق
إليها نسخ، أو يجب المواظبة عليها في كلّ حال، ليست كسائر السُّنن تُفعل حيناً دون
حين، ولمّا استشعر من لفظة «السُّنَّة» توهُّمَ عدم افتراضها، دفعه بقوله: (والفريضة اللّازمة).
-
(والجُنّة الواقية) من الخزي والعذاب في الدّنيا والآخرة، فقد قال
تعالى: ﴿..وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ..﴾ الأعراف:26.
-
(والعدّة الباقية) للفوز بالدّرجات ﴿..فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..﴾ البقرة:197، و﴿..إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ
أَتْقَاكُمْ..﴾ الحجرات:13.
-
(وأنفع ما أعدّه الإنسان ليوم تشخص فيه الأبصار) تبقى متفتّحة من غير طرف للأهوال.
-
(وتعدم عنه الأنصار) عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: كانَ أَميرُ
المُؤْمِنينَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَقولُ: «لا يَقِلُّ عَمَلٌ مَعَ تَقْوى، وَكَيْفَ
يَقِلُّ ما يُتَقَبَّلُ؟!». وعنه عليه السلام: «أَيَكْتَفي مَنْ يَنْتَحِلُ
التَّشَيُّعَ أَنْ يَقولَ بِحُبِّنا أَهْلَ البَيْتِ؟!، فَواللهِ ما شيعَتُنا إلَّا
مَنِ اتَّقَى اللهَ وَأَطاعَهُ». ".."
-
(وعليك باتّباع أوامر الله تعالى، وفِعل ما يرضيه) من الطّاعات والمبرّات.
-
(واجتناب ما يكرهه، والانزجار عن نواهيه) وفي وصيّته صلّى الله عليه وآله لأبي ذرّ:
«وَلا تَنْظُرْ إِلى صِغَرِ الخَطيئَةِ، وَانْظُرْ إِلى مَنْ عَصَيْتَ».
-
(وقطّع زمانك في تحصيل الكمالات النّفسانيّة وصرِّف أوقاتك في اقتناء الفضائل العلميّة،
والارتقاء عن حضيض النّقصان إلى ذروة الكمال، والارتفاع إلى أوج العرفان عن مهبط الجهّال) وفي الوصيّة لأبي ذرّ: «وَكُنْ عَلَى
عُمُرِكَ أَشَحَّ مِنْكَ عَلَى دِرْهَمِكَ وَدينارِكَ». وفيها: «لا تَنْطُقْ
في ما لا يَعْنيكَ، فَإِنَّكَ لَسْتَ مِنْهُ في شَيْءٍ، فَاخْزُنْ لِسانَكَ كَما تَخْزُنُ
رِزْقَكَ».
- (وبذل المعروف) فمن بذل معروفه استحقّ الرّئاسة، وصنائع
المعروف تقي مصارع السّوء، وإنّ للجنّة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلاّ أهل المعروف،
وإنّ الله تعالى إذا أدخل أهل الجنّة الجنّة أمر ريحاً عبقة طيّبة فلزقت بأهل المعروف،
فلا يمرّ أحد منهم بملأ من أهل الجنّة إلاّ وجدوا ريحه، فقالوا: هذا من أهل المعروف.
-
(ومساعدة الإخوان) فعن الصّادق عليه السّلام: «قالَ اللهُ عَزَّ
وَجَلَّ: الخَلْقُ عِيالِي، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَلْطَفُهُمْ بِهِمْ، وَأَسْعاهُمْ
في حوائِجِهِمْ». وقال: «مَنْ طافَ بِهَذا البَيْتِ طَوافاً واحِداً كَتَبَ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ سِتَّةَ آلافِ حَسَنَةٍ، وَمَحا عَنْهُ سِتَّةَ آلافِ سَيِّئَةٍ،
وَرَفَعَ لَهُ سِتَّةَ آلافِ دَرَجَةٍ، حَتَّى إِذا كانَ عِنْدَ المُلْتَزَمِ فَتَحَ
لَهُ سَبْعَةَ أَبْوابٍ مِنْ أَبْوابِ الجَنَّةِ، قيلَ: هَذا الفَضْلُ كُلُّهُ في الطَّوافِ؟
قالَ: نَعَمْ، وَأُخْبِرُكَ بِأَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ: قَضاءُ حاجَةِ المُسْلِمِ أَفْضَلُ
مِنْ طَوافٍ وَطَوافٍ حَتَّى بَلَغَ عَشْراً» "..".
-
(ومُقابلة المُسيء بالإحسان) فعنه صلّى الله عليه وآله: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ
بِخَيْرِ خَلائِقِ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ: العَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ
قَطَعَكَ، وَالإِحْسانُ إِلى مَنْ أَساءَ إِلَيْكَ، وَإِعْطاءُ مَنْ حَرَمَكَ».
وعن عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «إِذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ جَمَعَ اللهُ
تَبارَكَ وَتَعالى الأَوَّلينَ وَالآخِرينَ في صَعيدٍ واحِدٍ، ثُمَّ يُنادي مُنادٍ:
أَيْنَ أَهْلُ الفَضْلِ؟ فَيَقومُ عُنُقٌ مِنَ النّاسِ [العنق: الجماعة الكثيرة من النّاس]، فَيَلْقاهُمُ المَلائِكَةُ فَيَقولونَ:
وَما كانَ فَضْلُكُمْ؟ فَيَقولونَ: كُنّا نَصِلُ مَنْ قَطَعَنا، وَنُعْطي مَنْ حَرَمَنا،
وَنَعْفو عَمَّنْ ظَلَمَنا، فَيُقالُ لَهُمْ: صَدَقْتُمْ، أُدْخُلوا الجَنَّةَ».
"..".
-
(والمُحسن بالامتنان) فعن الصّادق عليه السلام: «لَعَنَ اللهُ قاطِعي
سُبُلِ المَعْروفِ، قيل: وما قاطعو سبل المعروف؟ قال: الرَّجُلُ يُصْنَعُ إِلَيْهِ
المَعْروفُ فَيَكْفُرُهُ، فَيَمْتَنِعُ صاحِبُهُ مِنْ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ».
-
(وإيّاك ومُصاحبة الأرذال ومُعاشرة الجهّال، فإنّها تفيد خلقاً ذميماً، ومَلَكَة رديئة) فعنه صلّى الله عليه وآله: «ثَلاثَةٌ
مُجالَسَتُهُمْ تُميتُ القُلوبَ: الجُلوسُ مَعَ الأَنْذالِ، وَالحَديثُ مَعَ النِّساءِ،
وَالجُلوسُ مَعَ الأَغْنِياءِ». ".." وعن الصّادق عليه السّلام: «إِنْ
كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تَسْتَتِبَّ لَكَ النِّعْمَةُ، وَتَكْمُلَ لَكَ المُروءَةُ، وَتَصْلُحُ
لَكَ المَعيشَةُ، فَلا تُشارِكِ العَبيدَ وَالسَّفِلَةَ في أَمْرِكَ، فَإِنَّكَ إِنِ
ائْتَمَنْتَهُمْ خانوكَ، وَإِنْ حَدَّثوكَ كَذَّبوكَ، وَإِنْ نُكِبْتَ خَذَلوكَ، وَإِنْ
وَعَدُوكَ أَخْلَفوكَ».
-
(بل عليك بملازمة العُلماء ومُجالسة الفُضلاء، فإنّها تفيد استعداداً تامّاً لتحصيل
الكمالات، وتثمر لك مَلَكَة راسخة لاستنباط المجهولات) فعنه صلّى الله عليه وآله: «مُجالَسَةُ
أَهْلِ الدّينِ شَرَفُ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ». وفي وصيّته لأبي ذرّ: «المُتَّقونَ
سادَةٌ، وَالفُقَهاءُ قادَةٌ، وَمُجالَسَتُهُمْ زِيادَةٌ» "..".
-
(وليكنْ يَوْمُكَ خيراً من أَمْسِكَ) فالمغبون من اعتدل يوماه.
-
(وعليكَ بالصّبر) على الطّاعات، والّنوائب، وعن المعاصي، فعنه صلّى الله عليه وآله: «الصَّبْرُ
نِصْفُ الإيمانِ». وعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «الصَّبْرُ ثَلاثَةٌ: صَبْرٌ
عَلَى المُصيبَةِ، وَصَبْرٌ عَلَى الطّاعَةِ، وَصَبْرٌ عَنِ المَعْصِيَةِ، فَمَنْ صَبَرَ
عَلَى المُصيبَةِ حَتّى يَرُدَّها بِحُسْنِ عَزائِهِ كَتَبَ اللهُ لَهُ ثَلاثَمائَةِ
دَرَجَةٍ ما بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلى الدَّرَجَةِ كَما بَيْنَ تُخومِ الأَرْضِ إِلَى
العَرْشِ، وَمَنْ صَبَرَ عَنِ المَعْصِيَةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّمائَةِ دَرَجَةٍ
ما بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلى الدَّرَجَةِ كَما بَيْنَ تُخومِ الأَرَضينَ إِلَى العَرْشِ،
وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطّاعَةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ تِسْعَمائَةِ دَرَجَةٍ ما بَيْنَ
الدَّرَجَةِ إِلى الدَّرَجَةِ كَما بَيْنَ تُخومِ الأَرْضِ إِلَى العَرْشِ».
-
(والتّوكّل) ﴿..وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ
حَسْبُهُ..﴾ الطّلاق:3. وعنه عليه السلام: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ
يَكونَ أَقْوَى النّاسِ فَلْيَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكونَ أَكْرَمَ
النّاسِ فَلْيَتَقِّ اللهَ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكونَ أَغْنَى النّاسِ فَلْيَكُنْ
بِما في يَدِ اللهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِما في يَدَيْهِ».
-
(والرّضا) بقضائه، فقد قيل [في الحديث القدسي]: «أَوَّلُ شَيْءٍ كَتَبَ اللهُ في اللَّوْحِ
المَحْفوظِ: إِنّي أَنا اللهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنا، وَمُحَمَّدٌ رَسُولي، مَنِ اسْتَسْلَمَ
لِقَضائي، وَصَبَر عَلَى بَلائي، وَشَكَرَ لِنَعْمائِي، كَتَبْتُهُ صِدِّيقاً وَبَعَثْتُهُ
مَعَ الصِدِّيقينَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِقَضائي، وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى بَلائي،
وَلَمْ يَشْكُرْ لِنَعْمائِي فَلْيَتَّخِذْ إِلَهاً سِوايَ» "..".