البُكاء والتّباكي مِن خَشية الله
جمودُ العين، من قَسوة القلب
____ ابن فهد الحِلّي
قدّس سرّه
____
(عِدّةُ الدّاعي
ونجاح السّاعي) كتابٌ علميٌّ، أخلاقيٌّ، يبحث في الدّعاء، وماهيّته، وآثاره،
وخصوصيّاته، وفضيلته، والتّرغيب فيه، لمؤلّفه الفقيه أبي العبّاس أحمد بن محمّد
بن فهد الحلّيّ الأسديّ (ت: 841 هجريّة)،
وقد أورد فيه جملة من الأدعية، والأذكار، والعوذات. ومنه هذا الفصل بعنوان: «في
فضيلة البكاء والتّباكي حال الدّعاء».
|
البكاء حالَ الدّعاء، سيّد
الآداب وذروة سنامها، [للأسباب التالية]:
أوّلاً: لِدلالته على رقّة
القلب، الذي هو دليل الإخلاص؛ والذي عنده تحصل الإجابة. قال الإمام الصّادق عليه
السلام: «إِذَا اقْشَعَرَّ جِلْدُكَ ودَمَعَتْ عَيْنَاكَ فَدُونَكَ دُونَكَ
فَقَدْ قُصِدَ قَصْدُكَ».
ولأنّ جمودَ العين من
قساوة القلب على ما ورد به الخبر، وهو يؤذِن بالبُعد من الله سبحانه وتعالى. وفي ما
أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: «يَا مُوسَى لَا تُطَوِّلْ فِي
الدُّنْيَا أَمَلَكَ فَيَقْسُوَ قَلْبُكَ، والْقَاسِي الْقَلْبِ مِنِّي بَعِيدٌ».
وقاسي القلب مردودُ
الدّعاء لقوله عليه السلام: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً بِظَهْرِ
قَلْبٍ قَاسٍ».
ثانياً: لِما فيه من الانقطاع
إلى الله تعالى، وزيادة الخشوع. قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إذَا أَحَبَّ
اللهُ عَبْداً نَصَبَ في قَلْبِهِ نائِحَةً مِنَ الحُزْنِ، فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ
كُلَّ قَلْبٍ حَزينٍ، وَإِنَّهُ لا يَدْخُلُ النّارَ مَنْ بَكى مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
تَعالى حَتّى يَعودَ اللَّبَنُ إِلى الضَّرْعِ، وَإِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ غُبارٌ في
سَبيلِ اللهِ وَدُخانُ جَهَنَّمَ في مَنْخَرَيْ مُؤْمِنٍ أَبَداً، وَإِذا أَبْغَضَ
اللهُ عَبْداً جَعَلَ في قَلْبِهِ مِزْمَاراً مِنَ الضَّحِكِ، وَإِنَّ الضَّحِكَ يُميتُ
القَلْبَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الفَرِحِينَ».
ثالثاً: لموافقتِه أمرَ الحقّ
سبحانه وتعالى في وصاياه لأنبيائه، حيث يقول لعيسى عليه السّلام: «يَا عيسى، هَبْ
لي مِنْ عَيْنَيْكَ الدُّموعَ، وَمِنْ قَلْبِكَ الخَشْيَةَ، وَقُمْ عَلى قُبورِ
الأَمْواتِ فَنادِهِمْ بِالصَّوْتِ الرَّفيعِ، فلَعَلَّكَ تَأْخُذُ مَوْعِظَتَكَ مِنْهُمْ،
وَقُلْ: إنّي لاحِقٌ في اللّاحِقينَ. صُبَّ لي مِنْ عَيْنَيْكَ الدُّموعَ، وَاخْشَعْ
لي بِقَلْبِكَ. يا عيسى، اسْتَغِثْ بي في حالاتِ الشِّدَّةِ فَإِنّي أُغيثُ المَكْروبينَ،
وَأُجيبُ المُضْطَرّينَ وَأَنا أَرْحَمُ الرّاحِمينَ».
رابعاً: لما فيه من الخصوصيّات
والفضائل التي لا توجَد في غيره من أصناف الطّاعات. وقد رُوي أنّ بينَ الجنّةِ
والنّارِ عَقَبَةً لا يجوزُها إلّا البَكّاؤونَ من خَشيةِ الله تعالى. ورُوي عن
النّبيّ صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «إِنَّ رَبّي تَبارَكَ وَتَعالى أَخْبَرَني
فَقالَ: وَعِزَّتي وَجَلالي ما أَدْرَكَ العَابِدُونَ مِمّا أَدْرَكَ البَكّاؤونَ (دَركَ
البُكاءِ) عِنْدي شَيْئاً، وَإنّي لَأَبْني لَهُمْ في الرَّفيعِ الأَعْلى قَصْراً
لا يُشارِكُهُمْ فيهِ غَيْرُهُمْ».
وفي ما أوحى الله إلى
موسى عليه السلام: «وَابْكِ عَلى نَفْسِكَ ما دُمْتَ في الدُّنْيا، وَتَخَوَّفْ
العَطَبَ وَالمَهالِكَ، وَلا تغُرَّنَّكَ زينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا وَزَهْرَتُها».ٍ
وإلى عيسى عليه السلام:
«يا عيسى ابْنُ البِكْرِ البَتولِ! ابْكِ عَلى نَفْسِك بُكاءَ مَنْ قَدْ وَدَّعَ
الأَهْلَ وَقَلى الدُّنْيا وَتَرَكَها لِأَهْلِها، وَصارَتْ رَغْبَتُهُ فيما عِنْدَ
إِلَهِهِ».
وعن أميرِ المؤمنينَ
عليه السلام: «لَمّا كَلّمَ اللهُ موسى عَلَيْهِ السَّلامُ قال [موسى]: إِلهي
ما جَزاءُ مَنْ دَمَعَتْ عَيْناهُ مِنْ خَشْيَتِكَ؟ قالَ [تَعالى]: يا موسى
أَقي وَجْهَهُ مِنْ حَرِّ النّارِ، وَآمَنُهُ يَوْمَ الفَزَعِ الأكبَرِ».
وقال الإمام الصّادق
عليه السلام: «كُلُّ عَيْنٍ باكِيَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ إِلّا ثَلاثُ عُيونٍ: عَيْنٌ
غَضَّتْ عَنْ مَحارمِ اللهِ، وَعَيْنٌ سَهِرَتْ في طاعَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَكَتْ
في جَوْفِ اللَّيْلِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ».
وعنه عليه السلام: «ما
مِنْ شَيْءٍ إِلّا وَلَهُ كَيْلٌ أَوْ وَزْنٌ إِلّا الدُّموع، فَإِنَّ القَطْرَةَ تُطْفِئُ
بِحاراً مِنَ النّارِ، فَإِذا اغْرَوْرَقَتْ العَيْنُ بِمائِها لَمْ يَرْهَقْ وَجْهَهُ
قتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ، فَإِذا فاضَتْ، حَرَّمَهُ اللهُ عَلى النّارِ، وَلَوْ أَنَّ
باكِياً بَكى في أُمَّةٍ لَرُحِموا».
وفي خُطبة الوَداعِ
لرسول الله صلّى الله عليه وَآله: «ومَنْ ذَرَفتْ عَيْناهُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ
كانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ دُموعِهِ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ تَكونُ في ميزانِهِ
مِنَ الأَجْرِ، وَكانَ لَهُ بِكُلِّ قَطْرَةٍ عَيْنٌ مِنَ الجَنَّةِ عَلى حافَّتَيْها
مِنَ المَدائِنِ وَالقُصورِ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلا خَطَرَ
عَلى قَلْبِ بَشَرٍ». وَعن أبي جعفر عليه السلام أنّ إبراهيم النّبيّ عليه
السلام قال: «إِلهي، ما لِعَبْدٍ بَلَّ وَجْهَهُ بِالدُّموعِ مِنْ مَخافَتِكَ؟
قالَ اللهُ تَعالى: جَزاؤهُ مَغْفِرَتي وَرِضْواني يَوْمَ القِيامَةِ».
وروى إسحاقُ بنُ عمّار،
قال: «قلتُ لأبي عبد الله عليه السّلام: أدعو وأشتهي البكاءَ فلا يجيء، وربّما ذكَرتُ
مَن ماتَ من بعضِ أهلي فأَرِقُّ وأبكي فهل يجوزُ ذلك؟ فقال: نَعَمْ، تَذَكَّرْهُمْ،
فَإِذا رَقَقْتَ فَابْكِ لِرَبِّكَ تَبارَكَ وَتَعالى».
نصيحة
وإذا وُفِّقتَ للدّعاء،
وساعدتْك العينانِ على البكاء، وجادتْ لك بإرسال الدّموعِ السِّجامِ عند تذكارك
الذّنوبَ العظامَ والفضائحَ في يومِ القيامة، وإشفاقَ الخلائق من المَلِك العلّام،
وتمثُّلَ ما يحِلُّ بالخلائق - وقد خرِستْ الألسنُ وخمَدتْ الشّقاشقُ، وكانت
الجوارحُ هي الشّاهدَ والنّاطقَ، وعظُمَ هنالك الزِّخام [الرائحة الكريهة]، فألجمَهم
العرقُ وبلغ شحومَ الآذان - يومَ تُبلى السّرائرُ، وتظهر فيه الضّماير، وتنكشف فيه
العورات، ويؤمَن فيه النّظرُ والالتفات، وكيف وأنّى لهم بالنّظر؟ ومنهم المسحوبُ
على وجهه، والماشي على بطنه، ومنهم من يوطَئ بالأقدام مثلَ الذّرّ، ومنهم المصلوبُ
على شفير النّار حتّى يفرَغَ النّاسُ من الحساب، ومنهم المُطوّقُ بشُجاعٍ [ثعبان] في
رقبته تنهشُه حتّى يفرغَ النّاسُ من الحساب، ومنهم من تُسلَّطُ عليهم الماشيةُ
ذواتُ الأخفاف فتطؤه بأخفافها، وذواتُ الأظلاف فتنطحُه بقرونها وتطؤه بأظلافها.
وأمعِنْ النّظرَّ
والفكرَ في أحوال النّاس في ذلك اليوم، وما قبلَه، وما بعدَه، من شقاوةٍ أو سعادةٍ،
فإنّه يحصُلُ لك باعثُ الخوفِ لا مَحالة، وداعيةُ البكاء، والرّقةُ، وإخلاصُ القلب،
فانتهزْ فرصةَ الدّعاء، واعلم أنّه مِن أنفَسِ ساعاتِ العمر، وعليك بالاشتغال في تلك
الحال بصاحب الجلال عن طلب الآمال والتّعرُّضِ للسّؤال، وإذا سألتَ، فليكُنْ مسألتُك
وطلِبتُك دوامَ إقبالِه عليك وإقبالِك عليه، وحسنَ تأدُّبِك بين يديه، واسألْ ما
يبقى لك جمالُه، ويُنفى عنك وبالُه، والمالُ لا يبقى لك ولا تبقى له.
تنبيه!
واعلم أنّ البكاءَ
والعجيجَ إلى الله سبحانه فَرَقاً من الذّنوبِ وصفٌ محبوبٌ، لكنّه غيرُ مُجْدٍ مع
عدم الإقلاع عنها والتّوبة منها. قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليهما السلام:
«وَلَيْسَ الخَوْفُ مَنْ بَكى وَجَرَتْ دُموعُهُ ما لم يَكُنْ لَهُ وَرَعٌ يَحْجُزُهُ
عَنْ مَعاصي اللهِ، وَإِنَّما ذَلِكَ خَوْفٌ كاذِبٌ».
وعن النّبي صلّى الله
عليه وآله: «مَرَّ موسى بِرَجُلٍ مِنْ أَصْحابِهِ وَهُوَ ساجِدٌ وَانْصَرَفَ مِنْ
حاجَتِهِ وَهُوَ ساجِدٌ، فَقالَ: لَوْ كانَتْ حاجَتُكَ بِيَدي لَقَضَيْتُها لَكَ؛
فَأَوْحى اللهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِ: يا موسى! لَوْ سَجَدَ حَتّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ
ما قبِلْتُهُ أَوْ يَتَحَوَّلَ عَمّا أَكْرَهُ إِلى ما أُحِبُّ».