فكر ونظر

فكر ونظر

منذ يوم

أخاف أن يطفحَ عليك ما يرشَح منّي


 

من جواب أمير المؤمنين عليه السّلام لكُميل بن زياد:

أخاف أن يطفحَ عليك ما يرشَح منّي

ــــــــــــــــــــــــــــ أعدّته للنشر: «هيئة التحرير» ــــــــــــــــــــــــــــ

 

في هذا النصّ سنقرأ واحداً من أروع البيانات التوحيدية لأمير المؤمنين وإمام الموحّدين عليّ بن أبي طالب عليه السلام. وقد جاء على صورة جواب عن سؤال من تلميذه ومريده، التابعيّ الجليل كُميل بن زياد دار حول معنى الحقيقة.

تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المحاورة وشرحها مقتبسة من كتاب (نور البراهين) للعارف بالله السيد نعمة الله الجزائري، والذي حقّقه السيد مهدي الرجائي.

«شعائر»

 

في حديث كُمَيْلِ بن زياد لأمير المؤمنين عليه السّلام، حيث قال:

«يا أمير المؤمنين ما الحقيقة؟

فقال: مَا لَكَ وَالحَقيقَة؟

فقال: أَوَلستُ صاحبَ سرّك يا أمير المؤمنين؟

فقال: بَلى، وَلَكِنْ أَخافُ أَنْ يَطْفَحَ عَلَيْكَ ما يَرْشَحُ مِنّي،

فقال: أو مثلُك من يخيّب سائلاً؟

فقال: الحَقيقَةُ كَشْفُ سُبُحاتِ الجَلالِ مِنْ غَيْرِ إِشارَةٍ.

فقال: زِدني فيه بياناً يا أمير المؤمنين.

فقال: نَفْيُ المَوْهومِ مَعَ صِحَّةِ المَعْلومِ.

فقال: زِدني فيه بياناً.

فقال: هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِّرّ.

فقال: زِدني فيه بياناً.

فقال: جَذْبُ الأَحَدِيَّةِ لِصِفَةِ التَّوْحيدِ.

فقال: زِدني فيه بياناً.

فقال: نورٌ يَلْمَعُ مِنْ صُبْحِ الأَزَلِ، فَيَظْهَرُ عَلى هَياكِلِ التَّوْحيدِ آثارُهُ.

فقال: زدني فيه بياناً.

فقال: أَطْفِئِ المِصْباحَ فَقَدْ أَضاءَ الصَّباحُ».

 

وحيث إنّ هذا الحديث من أسرار الحقيقة، [وقد] صدر من باب مدينة العلم، تصدّى بعض المحقّقين من المعاصرين لشرحه وتسريح النّظر فيه، فلا بأس بالإشارة إلى نبذة منه، فنقول:

 

* سؤال كُميل: (ما الحقيقة؟): يجوز أن يُراد منها حقيقة التّوحيد، وهو الأليقُ بالسّؤال عنه، ويجوز أن يُراد منها حقيقةُ الباري جلّ شأنه، ولعلّه أوفق بما بعدَه من الفقرات.

* قوله عليه السّلام (مَا لَكَ وَالحَقيقَة؟):

أي: لست مكلّفاً بالاطلاع عليها، إذ لا تبلغها عقولُ مثلك على التقديرَين.

* قوله عليه السّلام: (أَنْ يَطْفَحَ عَلَيْكَ):

أي: يأخذ بمجامع قلبك، وتكونَ في بحر الحَيرة غريقاً، بل ربّما جذبَك الشّوق من دار الغرور إلى دار السّرور، كما اتّفق لهَمّام صاحب أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا نعتَ له المؤمنَ بخواصِّ أوصافِه، ولمّا رأى عليه السّلام كُمَيلاً مقبلاً على إرادة الجواب، ذكرَ له عليه السّلام من التّعريفات بالرّسوم والخواصّ ما يقرّبه إلى فهمِه، مع كونه من أدقّ الأسرار إلينا.

* قوله عليه السّلام: (كَشْفُ سُبُحاتِ الجَلالِ):

لعلّه إشارة إلى صفات الجلال السلبيّة التي جلَّ وتسبّحَ وتنزّه من الاتّصاف بها، فكأنّه عليه السّلام، قال: حقيقةُ التوحيد، وأوّل درجاتها، تنزيهُه تعالى شأنه عمّا لا يليقُ به، كما وصفَه الأشاعرة والمعتزلة بالصّفات المدوّنة في كُتب الكلام.

* قوله عليه السّلام: (مِنْ غَيْرِ إِشارَةٍ):

معناه الإشارة إلى امتناع مطلَق الإشارة إليه، سواء كانت حسّية أو عقليّة أو وهميّة، لأنّ الإشارة تستلزمُ الإحاطة والحدّ. وقال بعضُ شرّاح الحديث: المراد من قوله عليه السّلام (كَشْفُ سُبُحاتِ الجَلالِ) الإشارة إلى نَفي الصّفات الزائدة التي أثبتَها الأشعريّ ومَن تابعه على ذلك، وهو جيّدٌ أيضاً.

* وأمّا على ما قلناه، فمَعنى قوله عليه السّلام: (نَفْيُ المَوْهومِ مَعَ صِحَّةِ المَعْلومِ):

الإشارة إلى الصّفات الثبوتيّة التي نتوهّم أنّها صفاتٌ له، ونُثبِتُها ونَحمِلُها عليه تعالى بالإيجاب، نظراً إلى أنّها أشرفُ طَرَفي النقيض. فالمَعنى نفيُ الصفات الثبوتيّة مع تَصحيح المعلوم. وإثباتُه: أعني الذاتَ الأحدِيّة.

* قوله عليه السّلام: (هَتْكُ السِّتْرِ لِغَلَبَةِ السِّرّ):

إشارةٌ إلى الحُجُب والغَواشي المانعة من مشاهدة أنوار الجمال، ولا يحصل الاتّصال بها إلّا بإزالة ستور غَواشي النّفوس والطبائع وحُجُب الإمكان، وذلك لا يكون إلّا بغَلَبة أسرار الحقّ على قلوب السّالكين، كما قالَه عليه السلام: «لَوْ كُشِفَ الغِطاءُ ما ازْدَدْتُ يَقيناً».

* قوله عليه السّلام: (جَذْبُ الأَحَدِيَّةِ لِصِفَةِ التَّوْحيدِ):

لعلّ معناه: أنّه لا يكفي في الوصول إلى جناب الحقّ رفعُ الحُجُب والغَواشي، بل لا بدّ من جَذْب الذات الأحديّة لصِفة التّوحيد، أي: لمَن اتّصف بها، لأنّ الأحديّة من صفات الذات المقدّسة، والتّوحيد من نُعوت البشر وأوصافهم، وهذا مقام: ﴿فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ النّجم:9.

* قوله عليه السّلام: (نورٌ يَلْمَعُ مِنْ صُبْحِ الأَزَلِ، فَيَظْهَرُ عَلى هَياكِلِ التَّوْحيدِ آثارُهُ):

يجوز أن يكون إشارةً إلى مُنتهى درجات العرفان، وغاية مراتب السّلوك نَظْماً للمراتب في سِلكٍ واحد، فيكون معناه، والله العالم: أنّ السّالكَ إذا ترقّى في سلوكِه إلى مشاهدة أنوار الذّات الأحديّة، ظهرتْ له صفاتُ المَلَكوت ونعوتُ الجَبَروت، وهو النّورُ الذي أشرقَ من صُبح الأزل، فظهرتْ آثارُه على هياكل التّوحيد، وهي صفاتُ الجلال والإكرام، فإنّ في كلّ صفة أثراً من آثار التّوحيد دالّاً عليه.

* وحينئذٍ يكون – واللهُ العالم - معنى قوله عليه السّلام: (أَطْفِئِ المِصْباحَ فَقَدْ أَضاءَ الصَّباحُ):

أنّ هذا ما يُمكن بيانه من مراتب التّوحيد، وظهر لك الوصول إلى مقامات الذّات الأحديّة، ولا يُمكن تخطّي هذه الدرجة إلى فوقها. ويجوز أن يكون إشارةً إلى أظهر مراتب المعرفة، فيكون معناه: أنّ حقيقة التوحيد وجوامعه هو أنّه نورٌ ظاهرٌ لمعَ من صبح الأزَل، وأشرفَ على قلوب أرباب القلوب، حتّى عرف كلُّ مَن له أدنى تمييز، كما قال عليه السّلام: «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ»، بل مَن لم يكن له تمييز، فإنّه نورٌ إلهاميٌّ ظهرَ على عالَم الإمكان وموجوداته التي هي هياكلُ التوحيد، فإنّ له سبحانه في كلّ شيءٍ آيةً تدلّ على أنّه واحدٌ، ولعلّ هذا ألصق بقوله (أَطْفِئِ المِصْباحَ)، يعني: أنّ الأمر قد ظهر ظهوراً واضحاً على الأبصار والبصائر، وشُوهدت آثار التّوحيد على صفحات عالَم الإمكان، فلا يحتاج بعده إلى تعريف حقيقة التوحيد.

وقال بعض المحقّقين: المراد من النّور: لفظُ الله سبحانه، وهياكل التّوحيد: باقي الأسماء الحسنى، لأنّه حاملٌ لها جُملة. وألفاظ الحديث مجملَة؛ يُمكن حملُ كثيرٍ من المعاني عليها، والمحقِّق من العلماء يُمكنه شرحُ هذا الحديث بكتابٍ كبير.

اخبار مرتبطة

  دوريّات

دوريّات

منذ يوم

دوريّات

نفحات