الحوار في القرآن
مبدأ الرّحمة في
الاختلاف
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ الشّيخ
عارف هنديجاني فرد* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من الحقائق
الكبرى في عالم التّكوين، هو ما أرشدتْ إليه الكُتب المقدّسة، وعبّرتْ عنه في مجال
الخلق والإبداع، حيث التّنوّع والتّعدّد والاختلاف في كلّ ما خلقه الله تعالى،
سواء في عالم النّبات، أو في عالم الحيوان، أو في عالم الإنسان؛ فالله تعالى شاء
أن تكون الموجودات والكائنات على ما هي عليه من الصّنعة والإبداع والتّنوّع
والاختلاف، ولو شاء الله تعالى لجعل النّاس أُمّةً واحدة، كما قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً..﴾ هود:118، فالكلّ
منه، والكلّ إليه يرجع، وهذا ما عبّرت عنه الوثيقة التي أصدرها المجمع الفاتيكانيّ
عام 1965م، والتي أشارت إلى «أنّ البشر هم أُسرةٌ واحدة أصلها الله الواحد وغايتها
الله الواحد نفسه، فهم جميعاً من أصلٍ واحد... ولهم جميعاً غاية قصوى واحدة وهي
الله تعالى..».
فالتّنوّع في
عالَم الوجود هو من الحقائق الثّابتة، وكلّ موجود على هذه الأرض ينطق بهذه الحقيقة
ويُعبّر عنها ويتعايش معها، وهذا ما كشفت عنه تعاليم الأنبياء والرّسل، بدءاً من
النّبيّ آدم، عليه السّلام، وانتهاءً بالرّسول محمّد، صلّى الله عليه وآله، الذي
جاء بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ
عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾الحجرات:13.
إنّ مقاربةً للحوار في مجال هذه الحقيقة الوجوديّة، لا بدّ أن تُؤسّس لرؤية كاشفة
في مجال التّفاعل والتّحاور والتّعارف بين البشر إلى أيّ دينٍ انتموا، وفي أيّ
زمان كانوا، فهم من أصلٍ مادّيٍّ واحد، ومن روحٍ واحدة، أُسكنوا هذه الأرض لتكون
لهم غاية واحدة هي الله تعالى، وقد بُعث الأنبياء والرّسل للنّاس ليرشدوهم إلى
حقائق هذا الكون، بحيث ينطلقوا منها ويعملوا وفاقاً لها بعد إثارة دفائن عقولهم،
وأداء التّبليغ إليهم...
فالنّبوّة في
كلّ زمانٍ ومكانٍ كانت تضطلع بهذه المهمّة، وتقوم بهذا الدّور لتحقّق للإنسان ما
يكفيه لإنارة طريقه وإرشاده إلى سُبُل كماله. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّه لم تأتِ
رسالة، ولم يُبعث رسول في حياة البشريّة، إلّا لتأكيد هذه الحقيقة وتظهيرها ليعرف
الإنسان أن تعدّده وتنوّعه واختلافه إنّما هو شرط أساسيّ في نهوض البشريّة، وفي
تحقيق كمالاتها الإنسانيّة.
وانطلاقاً من
ذلك، نرى أنّه لا بدّ للحوار من أن ينطلق من حقيقة التّنوّع والاختلاف في عالم
الإنسان، وهو اختلاف مبرّر ومشروع في ضوء ما تنطق به حقائق التّكوين والتّشريع،
ولعلّ من أكثر الأسئلة إلحاحاً عند الباحثين. كان السّؤال التّالي: هل هذا التّنوّع
في باب الاعتقادات، هل ينسجم مع طبيعة الخلق الإنسانيّ؟ هل ينسجم مع أهداف الخلق
وغاياته، أم أنّه لا ينسجم مع هذه الأهداف وهذه الغايات؟
والحقّ هو أنّنا
إذا قارنّا هذه الظّاهرة في تنوّع البشر الاعتقاديّ، وتعدّد البشر الاعتقاديّ، مع
ظاهرة التّنوّع والتّعدّد الشّاملة لكلّ مظاهر الخلق المادّيّ في جميع الأكوان،
فينبغي أن نراها ظاهرةً طبيعيّةً تنسجم مع أهداف الخلق، وأهداف الوجود في هذا
العالم.. إنّ فلسفة التّعدّديّة، هي الابتلاء، والامتحان، والتّكامل، وقد بينّا أنّ
التّكامل معلولٌ للاستباق، كما قال الله تعالى: ﴿..فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ..﴾
البقرة:148، والهدف الأقصى هو الله تعالى.
* باحث وعالم دين - قمّ المقدّسة