الموقع ما يزال قيد التجربة
سابع أئمّة المسلمين، الإمام الكاظم عليه السلام
حليفُ السجدة الطويلة
إعداد: هيئة التحرير
اقرأ في الملف
استهلال من الصلوات المروية عن الإمام العسكريّ عليه السلام |
هذا الملف |
قبسات من سيرة الإمام الكاظم عليه السلام من دروس «المركز الإسلامي» |
الإمام الكاظم عليه السلام وحكّام عصره من كتاب (الإمام الكاظم سيّد بغداد) |
الإمام الكاظم عليه السلام في عقيدة العلماء المسلمين إعداد: «شعائر» |
عِلم الإمام الكاظم عليه السلام وعبادته إعداد: «اسرة التحرير» |
استهلال
الصَّلاة على الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام
اللّهُمَّ صَلِّ عَلى الاَمِينِ المُؤْتَمَنِ مُوسى بْنِ جَعْفَرٍ البَرِّ الوَفِيِّ الطَّاهِرِ الزَّكِيّ النُورِ المُبِينِ المُجْتَهِدِ المُحْتَسِبِ الصَّابِرِ عَلى الاَذى فِيكَ.
اللّهُمَّ وَكَما بَلَّغَ عَنْ آبائِهِ ما اسْتُودِعَ مِنْ أَمْرِكَ وَنَهْيِكَ وَحَمَلَ عَلى المَحَجَّةِ وَكابَدَ أَهْلَ العِزَّةِ وَالشِّدَّةِ فِيما كانَ يَلْقى مِنْ جُهَّالِ قَوْمِهِ؛ رَبِّ فَصَلِّ عَلَيْهِ أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ ما صَلَّيْتَ عَلى أَحَدٍ مِمَّنْ أَطاعَكَ وَنَصَحَ لِعِبادِكَ إِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
من الصلوات على الحُجج الطاهرين
المروية عن الإمام العسكريّ عليه السلام
هذا الملف
ما بين اعتلاء هارون العبّاسي، المعروف بـ«الرشيد»، كرسيّ المُلك وشهادة الإمام الكاظم عليه السلام أربعة عشر عاماً. وبمراجعة شريط الأحداث يتّضح بجلاء أنّ هارون أمضى هذه الأعوام في حالة من القلق والارتياب المتواصل، ولم تفلح محاولات خواصّه في إقناعه بأنّ الإمام الكاظم عليه السلام لا يخطّط للانقلاب عليه والإطاحة بحكمه.
وتتفق كلمة جَمْعٍ من المؤرّخين أنّ هارون أمضى هذه السنوات الأربع عشر وهو يعيش تحت تأثير صدمة كلمة واحدة قالها الإمام الكاظم عند قبر رسول الله صلّى الله عليه وآله: «السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَبِه». كلمة واحدة ظلّ صداها يتردّد في أعماقه ويذكّره على الدوام بأنّه «إمامٌ بالقهر والغلَبة» كما وصف هو نفسه.
أضف إلى ذلك أن هارون عجز حتّى عن إيجاد ذريعة شكلية يتذرّع بها لقتل الإمام الكاظم عليه السلام، مع إحساسه الدائم ،الذي لامس حدّ اليقين، بأنّ الكاظم عليه السلام حاضرٌ بقوّة داخل بلاطه، فضلاً عن حضوره القويّ والبيّن وكلمته النافذة عند الوجوه الاجتماعية والرأي العام عموماً. فقد كان ينمى إلى مسامعه تشيّع وزرائه كعليّ بن يقطين، وجعفر بن محمّد بن الأشعث الخزاعي، وبعض حجّابه، وقادته العسكريين، وانحيازهم إلى موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام.
أمضى هارون العبّاسيّ هذه السنوات الأربع عشر في حالٍ من الظمأ الدائم إلى شرعية حقيقية؛ لم يكفِه أن تتسع رقعة إمبراطوريته لتبلغ حدوداً خيالية، ولا أن يُلقّب بالخليفة الذي يغزو عاماً ويحجّ عاماً، ولا أن تذهب مخاطبته الغيم مثلاً، كيف وهو يرى الأُمّة التي يتأمّر عليها «بالقهر والغلبة» تُذعن للكاظم عليه السلام، وتقرّ له في سريرتها بأنّه الخليفة الشرعي لرسول الله صلّى الله عليه وآله.
يسجّل لهارون أنّه كان فطناً بما يكفي ليدرك أنّه «مزيّف» وإن اعترف به صراحةً لابنه المأمون، إلا أنه لم يتصرّف بمقتضاه، وقد أفلح في توريث المأمون هذا الشعور بالزيف.
ومجدّداً، بمراجعة شريط الأحداث لا نجد سبباً – ولو شكلياً - يفسّر إصرار هارون على نقل الإمام الكاظم عليه السلام من سجنٍ إلى سجن، أو فرض الإقامة الجبرية عليه في بيتٍ بعينه من بيوت بغداد، لا يفسّر ذلك إلّا تراكمات الحقد والشعور المَرَضيّ بالارتياب من إمكانية أن «يخرج عليه موسى بن جعفر فيضرب وجهه بمائة ألف سيف».
* يتناول هذا الملفّ محطّات من سيرة الإمام موسى بن جعفر الكاظم صلوات الله عليه، وقد أُعدّت مادّته استناداً إلى عدّة مصادر، منها:
(الأنوار البهية) للمحدّث الشيخ عباس القمي.
(قادتنا كيف نعرفهم؟) للمرجع الديني الراحل السيّد محمّد هادي الميلاني قدّس سرّه.
(الإمام الكاظم عليه السلام سيّد بغداد وحاميها وشفيعها) للشيخ علي الكوراني.
«شعائر»
قبسات من سيرة الإمام الكاظم عليه السلام
هذا صاحبُكم... فتمسَّكْ به
_____ من دروس «المركز الإسلامي» _____
سادَ الإمام موسى الكاظم عليه السلام أهل زمانه علماً وورعاً وعبادة، وكان الناس يتناقلون ما يحدّث به في جلساته الخاصّة والعامّة، إذ كان أعلمَهم بمعارف عصره وثقافته، فأضحى مقصد العلماء والفقهاء، وتتلمذ بين يديه وجوههم وأعلامهم في الفقه والحديث والفلسفة وغير ذلك، لا سيّما في زمنٍ احتدمت فيه النقاشات الفلسفيّة والكلاميّة، وتأصّلت المدارس الفقهيّة، وتطوّرت علوم الفلك والهندسة والرّياضيات.
هذا المقال يتضمّن موجزاً في التعريف بسيرة سابع الأئمة من أهل البيت؛ الإمام موسى بن جعفر الكاظم سلام الله عليه.
* في السابع من شهر صفر، سنة 128 للهجرة وُلد الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام في منطقة تُسمّى «الأبواء»، وهي منزلٌ بين مكّة والمدينة.
* والدته هي السيّدة حميدة بنت صاعد عليها السلام، وهي أندلسية، وكانت مشتهرة بلقب (المصفّاة)، لقّبها بذلك زوجها الإمام جعفر الصادق عليه السلام حين قال عنها: «حَميدَةُ مُصَفّاةٌ مِنَ الأَدْناسِ كَسَبيكَةِ الذَّهَبِ».
* في (دلائل الإمامة) لمحمّد بن جرير الطبري الإمامي، قال: «..عن أبي بصير، قال: كنت عند أبي عبد الله (الصادق) عليه السلام في السنة التي ولد فيها موسى بن جعفر بـ(الأبواء)، فبينا نحن نأكل معه إذ أتاه الرسول: إنّ حميدة قد أخذها الطلق. فقام فرحاً مسروراً ومضى، فلم يلبث أن عاد إلينا حاسراً عن ذراعيه، ضاحكاً مستبشراً.
فقلنا: أضحك الله سنّك، وأقرّ عينك، ما صنعت حميدة؟
فقال: وَهَبَ اللهُ لي غُلاماً، وَهُوَ خَيْرُ أَهْلِ زَمانِهِ، وَلَقَدْ خَبَّرَتْني أُمُّهُ عَنْهُ بِما كُنْتُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْها.
فقلت: جعلت فداك، وما الذي خبّرتك به عنه؟
فقال: ذَكَرَتْ أَنَّهُ... وَقَعَ إِلى الأَرْضِ رافِعاً رَأْسَهُ إِلى السَّماءِ، قَدِ اتَّقَى الأَرْضَ بِيَدِهِ، يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلّا اللهُ. فَقُلْتُ لَها: إِنَّ ذَلِكَ أَمارَةُ رَسولِ اللهِ وَأَمارَةُ الأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ...».
* وروى الشيخ المفيد عن يعقوب السرّاج، قال: (دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وهو واقفٌ على رأس أبي الحسن موسى عليه السلام وهو في المهد، فجعل يسارّه طويلاً، فجلست حتى فرغ، فقمت إليه، فقال لي: «ادْنُ إِلى مَوْلاكَ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ»، فدنوتُ فسلّمتُ عليه، فردّ عليّ بلسانٍ فصيح، ثمّ قال لي: «اذْهَبْ فَغَيِّرِ اسْمَ ابْنَتِكَ الَتي سَمَّيْتَها أَمْس» ".." فقال أبو عبد الله عليه السلام: «انْتَهِ إِلى أَمْرِهِ تَرْشُدْ»، فَغَيَّرتُ اسمها).
* وفي (روضة الواعظين) للفتّال النيسابوري: «.. قيل لأبي عبد الله الصادق عليه السلام: ما بلغ بك من حبّك ابنك موسى عليه السلام؟
فقال: وَدَدْتُ أَنْ لَيْسَ لي وَلَدٌ غَيْرُهُ، حَتّى لا يُشارِكَهُ في حُبِّي لَهُ أَحَدٌ».
وفي (الكافي) للشيخ الكليني أنّ الإمام الصادق عليه السلام ضمّه إلى صدره بمحضرٍ من أبي حنيفة، وقال له: «بِأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يَا مُودَعَ الأَسْرَارِ».
في كنَف الإمام الصادق عليه السلام
نشأ الإمام الكاظم عليه السلام في كنَف أبيه، وتولّاه برعايته. فأبوه الإمام السادس من أئمّة أهل البيت عليه السلام الذي ملأ الدنيا علمُه وفقهه، والذي قال فيه أبو حنيفة، وهو إمام أحد المذاهب الأربعة السائدة في العالم الإسلامي في الماضي والحاضر: «ما رَأَيْتُ أَفْقَهَ مِنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّد».
وحيث أنّه المعدّ ليخلف أباه، ظهرت عليه ملامح الإمامة وهو صغير السنّ. فقد روي عن أبي حنيفة أنّه حجّ في أيّام أبي عبد الله الصادق عليه السّلام، فلمّا أتى المدينة دخل داره وجلس ينتظر فخرج صبيّ، فسأله أبو حنيفة عن مسألة، وذُهِلَ لمّا سمع جوابه عليها.
قال أبو حنيفة: فأعجبني ما سمعت من الصبيّ، فقلت له ما اسمك؟
فقال: « أَنا موسى بْنُ جَعْفَرٍ.. ».
فقلت في نفسي: إنّ هؤلاء يزعمون أنهم يعطون العلم صبيةً وأنا أسبر ذلك. فقلت له: يا غلام ممّن المعصية؟
فقال: «إِنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تَخْلُو مِنْ إِحْدَى ثَلَاثٍ:
إِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ اللهِ - وَلَيْسَتْ مِنْهُ- فَلَا يَنْبَغِي لِلرَّبِّ أَنْ يُعَذِّبَ الْعَبْدَ عَلَى مَا لَا يَرْتَكِبُ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنْهُ وَمِنَ الْعَبْدِ - وَلَيْسَتْ كَذَلِكَ - فَلَا يَنْبَغِي لِلشَّرِيكِ الْقَوِيِّ أَنْ يَظْلِمَ الشَّرِيكَ الضَّعِيفَ.
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مِنَ الْعَبْدِ - وَهِيَ مِنْهُ - فَإِنْ عَفَا فَبِكَرَمِهِ وَجُودِهِ، وَإِنْ عَاقَبَ فَبِذَنْبِ العَبْدِ وَجَرِيرَتِهِ».
من النصوص الدالّة على إمامته
الإمام الكاظم عليه السلام هو الإمام المفترض الطاعة بعد أبيه الإمام الصادق عليه السّلام؛ بالنصّ عليه من الله، تعالى، بالإمامة، كخبر اللوح، وبأنّ الإمام لا يكون إلاّ الأفضل في العلم والزهد والعمل، وبأنّه معصومٌ كعصمة الأنبياء، وبالمعجزات؛ فقد رأى الناس من آيات الله، عزّ وجلّ، الظاهرة على يده ما يدلّ على إمامته، وبطلان مقال من ادّعى الإمامة لغيره.
وروى النصوص على إمامته عن أبيه الصادق عليهما السلام، شيوخ أصحاب أبي عبد الله وخاصّته، وبطانته، وثقاته الفقهاء الصالحون رضوان الله عليهم.
وما اخترناه ههنا نموذج مما روي في إمامته وأنّه حجّة الله على خلقه.
* روى المفضّل بن عمر الجعفيّ قال: «كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام فدخل أبو إبراهيم موسى [الكاظم] عليه السّلام، وهو غلامٌ، فقال لي أبو عبد الله عليه السلام: اسْتَوْصِ بِهِ، وَضَعْ أَمْرَهُ عِنْدَ مَنْ تَثِقُ بِهِ مِنْ أَصْحابِكَ».
* وروى معاذ بن كثير عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت: أسأل الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عَقِبِك قبل الممات مثلها، فقال: قَدْ فَعَلَ اللهُ ذَلِكَ، قلت: من هو جُعلت فداك؟ فأشار إلى العبد الصالح وهو راقد، فقال: هَذا الرّاقِدُ، وهو يومئذٍ غلام».
* وروى عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «دخلت على جعفر بن محمّد عليهما السلام في منزله فإذا هو في مسجدٍ له من داره، وهو يدعو وعلى يمينه موسى بن جعفر عليهما السلام يؤمّن على دعائه فقلت له: جعلني الله فداك، قد عرفتَ انقطاعي إليك وخدمتي لك فمن وليّ الأمر بعدك؟ قال: يا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، إِنَّ موسى قَدْ لَبِسَ الدِّرْعَ وَاسْتَوَتْ عَلَيْهِ. فقلت له: لا أحتاجُ بعد هذا إلى شيء».
* وروى فيض بن المختار، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: خُذ بيدي من النار! مَن لنا بعدك؟ قال: فدخل أبو إبراهيم، وهو يومئذٍ غلام، فقال: هَذا صاحِبُكُمْ فَتَمَسَّكْ بِهِ».
* وروى منصور بن حازم، قال: «قلت لأبي عبد الله عليه السّلام: بأبي أنت وأمّي، إنّ الأنفس يُغدى عليها ويُراح، فإذا كان ذلك فمَن؟ فقال أبو عبد الله عليه السّلام: إِذا كانَ ذَلِكَ فَهُوَ صاحِبُكُمْ، وضرب على منكب أبي الحسن الأيمن، وهو فيما أعلم يومئذ خماسيّ، وعبد الله بن جعفر جالسٌ معنا».
* وروى سليمان بن خالد، قال: «دعا أبو عبد الله عليه السّلام أبا الحسن يوماً ونحن عنده فقال لنا: عَلَيْكُمْ بِهَذا بَعْدِي، فَهُوَ - وَاللهِ - صاحِبُكُمْ بَعْدِي».
«الكاظم»، و«العالم»
* كنيته عليه السلام، أبو الحسن، وأبو إبراهيم الهاشميّ العَلويّ. ورُوي عنه عليه السلام أنه قال: «مَنَحَنِي أبي كُنيَتَين». وأشهر أولاده على الإطلاق هو الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام، الإمام الثامن من أهل البيت عليهم السلام، وهو مدفون في مدينة مشهد المعروفة في إيران. ومن أولاده السيّدة فاطمة المعصومة عليه السلام، وقد دُفنت في مدينة قم في إيران أيضاً.
* أشهر ألقابه عليه السلام: «الكاظم». عُرف بذلك لحلمه وكظمه الغيظ على الرغم ممّا كان يتجرّعه من الغُصَص على أيدي العبّاسيّين وجلاوزتهم، ورويت عنه في ذلك أخبار كثيرة.
وكان يلقّب أيضاً بـ«العبد الصالح»، و«الوفيّ»، و«الصّابر»، و«الأمين»، وبـ«زين المُجْتَهِدينَ»، وكان الناس بالمدينة يسمّونه «زين المُتهجّدين».
أمّا بعد وفاته، فقد اشتهر بلقبٍ غطّى على بقيّة ألقابه وهو «باب الحوائج»، لما عرف به عليه السلام من الكرامات والمعاجز، والدعوات المستجابة. وفي (الصواعق المحرقة) لابن حجر الهيتمي: «.. وكان معروفاً عند أهل العراق بـ(باب قضاء الحوائج عند الله)، وكان أعبدَ أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم».
ويُلقَّب الإمام عليه السلام عند الرواة والفقهاء بـ«العالم»، فقد أخذ عنه العلماء فأكثروا، ورووا عنه في فنون العلم ما ملأ بطون الدفاتر، وألَّفوا في ذلك المؤلَّفات الكثيرة، المروية عنهم بالأسانيد المتصلة.
وفي (دلائل الإمامة) للطبري أنّ الإمام الكاظم عليه السلام «كان يبلغُه عن رجلٍ أنه يؤذيه، فيبعثُ إليه بِصُرّة فيها ألف دينار. وكان يصرّ الصّرر ثلاثمئة دينار وأربعمئة دينار ومئتي دينار ثمّ يقسّمها بالمدينة. وكانت صرّةُ موسى إذا جاءت الإنسانَ استغنى».
وعن محمّد بن عبد الله البكري، قال: «قدمتُ المدينة أطلبُ بها دَيناً، فأعياني. فقلت: لو ذهبتُ إلى أبي الحسن موسى وشكوتُ إليه، فأتيتُه بنقمى [موضعٌ بالمدينة] في ضيعته... ثمّ سألني عن حاجتي، فذكرتُ له قصّتي، فدخل فلم يقرّ إلّا يسيراً حتّى خرج إليّ فقال لغلامه: اذهب. ثمّ مدّ يده إليّ، فدفع صرّة فيها ثلاثمئة دينار، ثمّ قام فولّى، فقمتُ فركبتُ دابّتي وانصرفت».
السجن والشهادة
اتفقت كلمة المؤرّخين على أنّ هارون العبّاسيّ قام باعتقال الإمام الكاظم عليه السّلام وإيداعه السجن لسنين طويلة، مع تأكيده على سجّانيه بالتشديد والتضييق عليه، على الرغم من معرفته بمقام الإمام عليه السلام. فقد روت المصادر أنّ المأمون سأل أباه هارون العبّاسيّ ذات يوم عن الإمام الكاظم عليه السلام، فقال له: «أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ، والله يا بني إنّه لَأَحَقّ بمقام رسول الله منّي ومن الخلق جميعاً! ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذتُ الذي فيه عيناك، فإنّ المُلك عقيم»!
وذُكر أنّه لما طال الحبسُ بالإمام عليه السلام كتب إلى هارون: «إِنَّهُ لَمْ يَنْقَضِ عَنّي يَوْمٌ مِنَ البَلاءِ إِلَّا انْقَضى عَنْكَ يَوْمٌ مِنَ الرَّخاءِ، حَتّى يَفْضِيَ بِنا ذَلِكَ إِلى يَوْمِ يَخْسَرُ فيهِ المُبْطِلونَ».
ولم يزل ذلك الأمر بالامام عليه السّلام، يُنقل من سجنٍ إلى سجن حتّى انتهى به الأمر إلى السّندي بن شاهك، وكان فاجراً فاسقاً، لا يتورّع عن ارتكاب أي شيء تملَّقاً ومداهنةً للسلطان، فغالى في التضييق عليه حتّى جاء أمر هارون بدسّ السمّ له، فأسرع السنديّ إلى إنفاذ هذا الأمر الشنيع، فاستُشهد عليه السّلام، بعد طول سجن ومعاناة، عن خمسة وخمسين عاماً، وذلك في الخامس والعشرين من شهر رجب سنة 183 للهجرة، ودُفن في «مقابر قريش» ببغداد، وتُعرَف اليوم باسم «الكاظمية».
دروس من سيرته عليه السلام
أفضل العبادة
روي عن الإمام الكاظم عليه السلام، أنّه قال:«صَلاةُ النَّوافِلِ قُرْبانٌ إِلى اللهِ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ. وَالحَجُّ جِهادُ كُلِّ ضَعيفٍ. وَلِكُلِّ شَيْءٍ زَكاةٌ، وَزَكاةُ الجَسَدِ صِيامُ النَّوافِلِ. وَأَفْضَلُ العِبادَةِ، بَعْدَ المَعْرِفَةِ، انْتِظارُ الفَرَجِ».
الصّفح
وقال عليه السلام: «يُنادي مُنادٍ يَوْمَ القِيامَةِ: أَلا مَنْ كانَ لَهُ عَلى اللهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، فَلا يَقومُ إِلّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ، فَأَجْرُهُ عَلى اللهِ».
السَّخاء
وقال عليه السلام: «السَّخِيُّ الحَسَنُ الخُلُقِ في كَنَفِ اللهِ، لا يَتَخَلّى اللهُ عَنْهُ حَتّى يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ؛ وَما بَعَثَ اللهُ نَبِيّاً إِلّا سَخِيّاً. وَمَا زالَ أَبِي يُوصِيني بِالسَّخاءِ وَحُسْنِ الخُلُقِ حَتَّى مَضَى».
أفضل الصدقة
وقال عليه السلام: «عَوْنُكِ للضَّعيفِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ».
مصيبة أو اثنتان
وقال عليه السلام: «المُصيبَةُ للصّابِرِ واحِدَةٌ، وَللجازِعِ اثْنَتانِ».
البادي أظلم
رأى الإمام الكاظم عليه السلام رجلين يتسابّان، فقال: «البَادِي أَظْلَمُ، وَوِزْرُهُ وَوِزْرُ صاحِبِهِ عَلَيْهِ ما لَمْ يَعْتَدِ المَظْلومُ».
الإمام الكاظم عليه السلام وحكّام عصره
____ تنسيق: هيئة التحرير ____
عاصر الإمام الكاظم عليه السلام أكثر حكّام بني العبّاس دمويّة وأكثرهم بطشاً حيث كانت دولتهم في مراحلها الأولى يسعى القائمون عليها لتثبيت مُلكهم من خلال قمع مَن يخشونه عليه. ومن نتائج هذا الطغيان العبّاسي أن الإمام الكاظم عليه السلام تعرّض لمحاولات عديدة للقتل – فضلاً عن السجن وفترات الإقامة الجبرية – كانت تُنجيه منها العناية الربانية، إلى أن نال صلوات الله عليه الشهادة في أحد سجون هارون الملقّب – زوراً – بالرشيد.
شهد الإمام الكاظم عليه السلام في حياته التي سبقت إمامته ألواناً من الظلم الذي كانت تمارسه السلطة العبّاسيّة ضدّ بني هاشم، وبالخصوص أهل البيت منهم. وأوّل الملوك العبّاسيّين ممن عاصروا الإمام الكاظم هو منصور الدوانيقي الذي عُرف بالبطش والقسوة، فأباد حتّى أعمامه وإخوته أو أخضعهم، طوال حكمه الذي استمرّ ثلاثاً وعشرين سنة، فضلاً عن تنكيله بالعلويّين. ففي (عيون أخبار الرضا عليه السلام): «لما بنى المنصور الأبنية ببغداد، جعل يطلب العلويّين طلباً شديداً، ويجعل من ظفر منهم في الأسطوانات المجوّفة المبنية من الجصّ والآجر..».
ومن مثالبه أيضاً أنّه شدّد في النهي عن رواية فضائل عليّ عليه السلام، وعاقب من يرويها، كما أصدر مرسوماً أمر فيه بتعظيم خصوم أمير المؤمنين عليه السلام. وقد آلت الأمور أخيراً إلى اقتراف المنصور جريمته الكبرى بقتل الإمام الصادق عليه السلام بالسمّ في عام 148 للهجرة.
المنصور يحاول قتل الإمام الكاظم عليه السلام
في المصادر التاريخية أنّ المنصور الدوانيقي حاول قتل الإمام الكاظم عليه السلام مرّتين؛ إحداهما في حياة أبيه الإمام الصادق عليهما السلام.
فقد روى في (الدّرّ النظيم) لابن حاتم العاملي عن قيس بن الربيع، عن أبيه، قال: «دعاني المنصور يوماً وقال: أما ترى ما هو ذا يبلغني عن هذا؟ قلت: ومن هو يا سيّدي؟ قال: جعفر بن محمّد، والله لأستأصلنّ شَأْفَتَه. ثمّ دعا بقائدٍ من قوّاده فقال له: انطلق إلى المدينة في ألف رجل فاهجم على جعفر بن محمّد وخذ رأسه ورأس ابنه موسى بن جعفر!..». ولكن شاءت العناية الإلهية أن ينجو الإمامان عليهما السلام من هذه المؤامرة بمعجزة ربّانية.
المرّة الثانية: بعد شهادة الإمام الصادق عليه السلام مباشرة، حيث أرسل المنصور إلى واليه على المدينة، يقول له: «أنظر إن كان أوصى [أي الصادق عليه السلام] إلى شخصٍ فاقتله وابعث إليَّ برأسه»!
فجاءه الجواب أنّ الإمام الصادق عليه السلام أوصى إلى خمسة نفر: المنصور نفسه، ومحمّد بن سليمان (والي المنصور على المدينة)، وعبد الله وموسى ابنَي جعفر الصادق عليهما السلام، وحميدة زوجته.
فقال المنصور: ليس إلى قتل هؤلاء من سبيل.
الإمام الكاظم عليه السلام والمهدي العبّاسيّ
كان موكب المنصور في طريقه إلى الحج سنة 158، فأخبر الإمامُ الكاظم عليه السلام بأنّه سيموت قبل أن يصل إلى مكّة، وقال: لَا وَاللهِ، لَا يَرَى بيتَ اللهِ أبداً!
قال أبو حمزة الثّمالي: «فلما نزل بئر ميمون أتيتُ أبا الحسن عليه السلام فوجدتُه في المحراب قد سجد فأطال السجود، ثمّ رفع رأسه إليَّ فقال: أخرجْ فانظُرْ مَا يقولُ النّاس! فخرجتُ فسمعتُ الواعيةَ على أبي جعفر، فرجعتُ فأخبرتُه، فقال: الله أكبر، ما كان ليَرى بيتَ الله أبداً»!
وبايع الناس ابنه محمّداً بعده. وكان الخليفة الجديد – لقّبه أبوه بالمهدي - فتًى مترفاً يتجاهر بشرب الخمر ومجالس الغناء.
وقد اعترف الذهبي، وهو المتعصّب لبني أميّة وبني العبّاس، بأنّ المهدي العبّاسيّ كغيره من خلفائهم منهمكٌ في شهواته. قال في (تاريخه): «والمهدي كغيره من عموم الخلائف والملوك، له ما لهم وعليه ما عليهم، كان منهمكاً في اللذات واللهو والعبيد».
خفّض المهدي قليلاً قرار أبيه بإبادة العلويّين، ولكنّه ظلّ يبغضهم ويعتبرهم أخطر أعداء العبّاسيّين، ويدلّ على ذلك تعامله مع الإمام الكاظم عليه السلام. قال ابن شهراشوب في (مناقب آل أبي طالب): «لما بويع محمّد المهدي دعا حميد بن قحطبة نصف الليل وقال: إنّ إخلاص أبيك وأخيك فينا أظهر من الشمس، وحالك عندي موقوف.
فقال: أفديك بالمال والنفس، فقال: هذا لسائر الناس.
قال: أفديك بالروح والمال والأهل والولد، فلم يُجبه المهدي، فقال: أفديك بالمال والنفس والأهل والولد والدِّين!
فقال: لله درّك! فعاهده على ذلك، وأمره بقتل الكاظم عليه السلام في السحر بغتةً!
فنام فرأى في منامه عليّاً عليه السلام يشير إليه، ويقرأ: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ القتال:22، فانتبه مذعوراً، ونهى حميداً عمّا أمره، وأكرم الكاظم عليه السلام ووصله».
وقد روت عامّة المصادر عزمَ المهدي العبّاسيّ على قتل الإمام عليه السلام وخبر منامه المتقدّم؛ كـ (تاريخ بغداد)، و(تهذيب الكمال)، و(سِيَر) الذهبي و(تاريخه)، و(صفة الصفوة)، و(المستطرف)، و(الفصول المهمّة).
أيام الهادي العبّاسيّ
حكم المهدي عشر سنوات، ومات سنة 169 في رحلة صيد وهو يطارد غزالاً، وكان أوصى بالخلافة إلى ابنيه من زوجته خيزران، فجعل وليَّ عهده موسى، وبعده أخاه هارون.
فحكم بعده ابنه موسى الذي لُقِّب بالهادي، وكان أشبه شيءٍ بيزيد بن معاوية؛ فاسقاً ماجناً، وكان عهده على قِصَره - سنة وأيّاماً - شرّاً على الأُمّة، وخاصّة أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم، لأنّه نفّذ سياسة جدّه المنصور في إبادة أبناء عليّ وفاطمة عليهم السلام!
قال اليعقوبي في (تاريخه) إنّ «موسى ألحَّ في طلب الطالبيّين، وأخافهم خوفاً شديداً... وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم».
وقد قرّر جماعة من العلويّين مواجهة هذه السياسة الإجرامية، فكانت ثورة الحسين بن علي الحسنيّ في منطقة فخّ، وهو مكان في مكّة يعرف بوادي الزاهرية. وقد رُوي عن الأئمّة عليهم السلام مدح صاحب فخّ والثائرين معه، وذهب أكثر علمائنا إلى شرعية ثورته التي كان هدفها إيقاف خطّة إبادة العلويّين!
انتهت هذه الثورة بمجزرة كبيرة ارتكبها العبّاسيّون، حتّى روي عن الإمام الجواد عليه السلام قوله: «لَمْ يَكُنْ لَنا بَعْدَ الطَّفِّ مَصْرَعٌ أَعْظَمُ مِنْ فَخٍّ». وحُمل رأس الحسين بن علي (صاحب فخّ) إلى موسى العبّاسيّ، فأنشد شعراً في التشفّي من الطالبيّين، وجعل ينال منهم، إلى أن ذكر الإمام الكاظم عليه السلام وحلف بالله ليقتلنّه.
وفي (مهج الدعوات) للسيّد ابن طاوس أنّه لما وصل الخبر بنيّة موسى العبّاسيّ إلى الإمام عليه السلام كان عنده جماعة من أهل بيته، فقال لهم: ما تُشيرونَ؟
قالوا: نشير عليك بالابتعاد عن هذا الرجل وأن تغيّب شخصَك عنه، فإنّه لا يؤمَن شرّه، فتبسّم الإمام الكاظم عليه السلام، وتمثّل بشِعر كعب بن مالك:
زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَن سَتَغْلِبُ رَبَّها ولَيُغْلَبَنَّ مُغالِبُ الغَلَّابِ
«ثمّ أقبل الإمام على من حضره من مواليه وأهل بيته فقال: لِيُفْرِخ رَوْعُكُمْ، إِنَّهُ لا يَرِدُ أَوَّلُ كِتابٍ مِنَ العِراقِ إِلّا بِمَوْتِ موسى بْنِ مَهْدي وَهَلاكِهِ!
فقالوا: وما ذاك أصلحك الله؟
فقال: قَد وحرمةِ هذا القبر ماتَ في يومِه هذا! واللهِ ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ الذاريات:23. ".." قال: ثمّ استقبل أبو الحسن القبلة ورفع يديه إلى السماء يدعو!
فقال أبو الوضّاح: فحدّثني أبي قال: كان جماعةٌ من خاصّة أبي الحسن عليه السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال [جمع ميل: وهو القلم]، فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك، قال فسمعناه وهو يقول في دعائه: شُكْراً للهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ.
ثمّ رفع رأسه إلى السماء وقال: إِلَهي كَمْ مِنْ عَدُوٍّ انْتَضى عَلَيَّ سَيْفَ عَداوَتِهِ وَشَحَذَ لي ظُبَةَ مُدْيَتِهِ وَأَرْهَفَ لي شَبا حَدِّهِ.. [إلى آخر الدعاء المرويّ عنه عليه السلام والمعروف بدعاء الجوشن الصغير]
قال: ثمّ قمنا إلى الصلاة، وتفرّق القوم، فما اجتمعوا إلّا لقراءة الكتاب الواردِ بموتِ موسى الهادي والبيعة لهارون الرشيد».
عهد هارون العبّاسي
تقدّم أنّ المهدي العبّاسيّ أوصى بالخلافة من بعده إلى ابنيه موسى وهارون. لكنّ الخلاف وقع بين الأخوين عندما أقدم موسى على تولية ابنه جعفر، وراح يُبعد أخاه هارون حتّى حبسه وحبس معه يحيى بن خالد البرمكي الذي كان بمنزلة عرّاب هارون وأبيه الروحي. وفي حمّى الصراع بين الأخوين، انحازت أمّهما خيزران إلى ولدها هارون، ما حدا بابنها الآخر موسى إلى محاولة قتلها بسمّ دسّه في طعامها، لكنّها نجت من ذلك، فراحت تخطّط لقتله، كما في المصادر التاريخية كافّة.
وكان موسى عزم في تلك الليلة على قتل أخيه ويحيى بن خالد أيضاً في حبسيهما، فما كان من الأمّ إلّا أن بادرت إلى قتل ولدها. يقول الطبري: «وسببُ موت الهادي أنّه لما جَدَّ في خَلْع هارون والبيعة لابنه جعفر، وخافت الخيزران على هارون منه، دسَّت إليه من جواريها... مَن قتله بالغَمّ [أي بتغطية وجهه؛ غَمَّ الشَّيءَ غَمًّا: غَطَّاهُ وسَتَرهُ] والجلوس على وجهه، ووجّهت إلى يحيى بن خالد: إنّ الرجل قد توفّي، فاجدد في أمرك ولا تقصر». فقام يحيى بأخذ البيعة لهارون.
وكان عهد هارون العباسي شديد الوطأة على أهل البيت وعميدهم الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، وإنّ المتّفق عليه بين المؤرّخين أنّ أيّام هارون كانت أسوأ الأيّام على الإمام الكاظم إرهاباً وسجوناً ومعتقلات، ويستفاد من مجموع كلماتهم وأقوالهم أنّ الإمام في عهد هذا الحاكم قد تكرّر سجنه أكثر من مرّة قبل سجنه الأخير الذي استُشهد فيه، كما يستفاد منها أنّه حبس في البصرة مرّة، وفي بغداد مرّات، وأنّه تنقّل في حبوس عيسى بن جعفر؛ والفضل بن الربيع؛ والفضل بن يحيى البرمكي، ثمّ السنديّ بن شاهك في آخر المطاف.
ثمّ إنّ ذرائع تكرار حبس الإمام كانت مختلفة، وأوّلها كان في أوّل حجٍّ لهارون بعد أن تولّى الحكم سنة 169. وعندما ذهب لزيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وآله وقف أمام القبر الشريف وسلّم عليه قائلا: «السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا ابن العمّ!»، مفتخراً بذلك على من معه بقرب نسبه من رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فما كان من الإمام موسى بن جعفر عليه السلام الذي كان حاضراً وقتها إلا أن سلّم على الرسول صلّى الله عليه وآله قائلاً: «السَّلامُ عَلَيْكَ يا رَسولَ اللهِ! السَّلامُ عَلَيْكَ يا أَبِه!»، فتغيّر وجه هارون على الفور، وبان الغيظ فيه. لكنّه أراد أن يكبته، فقال للإمام عليه السلام: «هذا الفخر يا أبا الحسن حقّاً!».
قال الذهبي في (تاريخ الإسلام): «ولعلّ الرشيد ما حبسه إلّا لقولته تلك: السلام عليك يا أبه. فإن الخلفاء لا يحتملون مثل هذا»!
وفي كتاب (الغيبة) للشيخ الطوسي: «وحجّ الرشيد في تلك السنة – 170 - فبدأ بقبر النبيّ صلّى الله عليه وآله، فقال: يا رسول الله إني أعتذر إليك من شيء أريد أن أفعله، أريد أن أحبس موسى بن جعفر، فإنّه يريد التشتيت بأُمّتك وسفك دمائها! ثمّ أمر به فأُخذ من المسجد فأُدخل إليه، فقيّده».
وفي (عيون أخبار الرضا عليه السلام): « لما قبض الرشيد على موسى جعفر عليه السلام قبض عليه وهو عند رأس النبيّ صلّى الله عليه وآله قائماً يصلّي فقطع عليه صلاته، وحُمل وهو يقول: أَشْكو إِلَيْكَ يا رَسولَ اللهِ ما أَلْقى! وأقبل الناس من كلّ جانب يبكون ويصيحون، فلمّا حُمل إلى يدَي الرشيد شتمَه وجفاه، فلمّا جنّ عليه الليل أمر ببيتَين فهُيّآ له، فحُمل موسى بن جعفر عليه السلام إلى أحدهما في خفاء ودفعه إلى حسّان السرويّ ".." فقدِم حسّان البصرة قبل التروية بيوم فدفعه إلى عيسى بن جعفر بن أبي جعفر نهاراً علانية حتّى عُرف ذلك وشاع خبره، فحبسه عيسى ببيتٍ من بيوت المجلس الذي كان يجلس فيه..».
كان هارون يحكم أكبر وأقوى دولة في عصره، لكنّ الخطر الذي أرّقه على الدوام هو أبناء عليٍّ عليه السلام الذين يعترف لخاصّته بأنّ منهم الأئمّة الربّانيين، الذين هم أحقّ من بني العبّاس بمنصب الخلافة!
ينقل المأمون رأي أبيه في الإمام الكاظم عليه السلام بعد ان استقبله واجتهد في إكرامه ثمّ أجلسه في صدر المجلس، وأمر أبناءه بأخذ الركاب له، قال المأمون: «كنت أجرأَ وُلد أبي عليه، فلمّا خلا المجلس قلت: مَن هذا الرجل الذي قد أعظمتَه وأجللتَه.... فقال أبي: هذا إمام الناس وحجّة الله على خلقه وخليفتُه على عباده!.... أنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حقّ! والله يا بني إنّه لأَحقّ بمقام رسول الله صلّى الله عليه وآله منّي ومن الخلق جميعاً!...».
وعلى الرغم من إقرار هارون بمنزلة الإمام عليه السلام، إلا أنّه يقول للمأمون في مناسبة أخرى أنّه لا يأمن أن يخرج عليه الإمام الكاظم بمئة ألف سيف في أصحابه ومواليه! وكان يتبرّم من كرامات الإمام ومعجزاته حتى قال لوزيره البرمكيّ: «أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب! ألا تدبّر في أمر هذا الرجل تدبيراً يُريحنا من غمّه».
وقد بلغت محاولات هارون لقتل الإمام الكاظم عليه السلام عشر مرّات، وفي كلّ مرّة كانت تظهر له كرامات الإمام عليه السلام وآياته فيتراجع، لكنّه كان يعود ويكرّر محاولته!
ومن هذه المحاولات ما روي عن علي بن يقطين، قال: «كنت واقفاً على رأس هارون الرشيد إذ دعا موسى بن جعفر عليه السلام وهو يتلظّى عليه! فلمّا دخل حرّك شفتيه بشيء، فأقبل هارون عليه ولاطفه وبرّه وأذِن له في الرجوع!
فقلت له: يا ابن رسول الله جعلني الله فداك، إنك دخلت على هارون وهو يتلظّى عليك فلم أشكّ إلا أنّه يأمر بقتلك فسلّمك الله منه! فما الذي كنت تحرّك به شفتيك؟
فقال عليه السلام: «إِنّي دَعَوْتُ بِدُعائَيْنِ، أَحَدُهُما خاصٌّ وَالآخَرُ عامٌّ، فَصَرَفَ اللهُ شَرَّهُ عَنّي». فقلتُ: ما هُما يا ابن رسول الله؟
فقال: «أمّا الخاصُّ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ حَفِظْتَ الغُلامَيْنِ لِصَلاحِ أَبَوْيِهِما فَاحْفَظْني لِصلاحِ آبائي؛ وَأمّا العامُّ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَكْفي مِنْ كُلِّ أَحَدٍ وَلا يَكْفي مِنْكَ أَحَدٌ، فَاكْفِنيهِ بِما شِئْتَ وَكَيْفَ شِئْتَ وأَنّى شِئْتَ، فَكَفاني اللهُ شَرَّهُ».
الشهادة
عمد هارون إلى سجن الإمام الكاظم عليه السلام في البصرة، وبعد سنة كتب واليها إلى هارون: «خُذه منّي وسلِّمه إلى من شئت وإلا خَلَّيْتُ سبيله، فقد اجتهدتُ بأن أجد عليه حجّة، فما أقدر على ذلك، حتّى أني لأتسَمَّعُ عليه إذا دعا لعله يدعو عليَّ أو عليك، فما أسمعه يدعو إلّا لنفسه يسأل الرحمة والمغفرة. فوجَّهَ [هارون] مَن تسلّمه منه».
«ثمّ صيّره إلى بغداد وسُلِّمَ إلى الفضل بن الربيع، وبقي عنده مدّة طويلة، ثمّ أراده الرشيد على شيء من أمره – أي طلب من الفضل قتل الإمام عليه السلام - فأبى! فأمر بتسليمه إلى الفضل بن يحيى فجعله في بعض دوره ووضع عليه الرصد، فكان عليه السلام مشغولاً بالعبادة يُحيي الليل كلّه صلاةً وقراءةً للقرآن، ويصوم النهار في أكثر الأيّام ولا يصرف وجهه عن المحراب، فوسّع عليه الفضل بن يحيى وأكرمه، فبلغ ذلك الرشيد وهو بالرّقّة، فكتب إليه يأمره بقتله فتوقّف عن ذلك! فاغتاظ الرشيد لذلك وتغيّر عليه».
واضطرّ هارون في نهاية المطاف إلى تسليمه إلى من أعرب عن استعداده في تحمّل هكذا وزر، فتولّى أمر حبسه رئيس شرطته السنديّ بن شاهك، وكان لقيطاً يُنسب إلى أُمّه، ويصفه الذهبي بأنّه كان ذميم الخُلُق يشهد للمدّعي من دون بيّنة. وكان سجن السنديّ أصعب السجون على الإمام عليه السلام، فقد زادوا عليه القيود وشدّدوا عليه.
وفي (الكافي) للشيخ الكليني، عن بعض مشايخ بغداد، قال: «.. جُمِعْنا أيّام السنديّ بن شاهك ثمانين رجلاً من الوجوه المنسوبين إلى الخير، فأُدخلنا على موسى بن جعفر، فقال لنا السنديّ: يا هؤلاء أنظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟
قال: ونحن ليس لنا همٌّ إلا النظر إلى الرجل وإلى فضله وسَمْتِه.
فقال موسى بن جعفر: ... أُخْبِرُكُمْ أَيُّها النَّفَرُ أَنّي قَدْ سُقيتُ السُّمَّ في سَبْعِ تَمَراتٍ، وَأَنا غَداً أَخْضَرُّ، وَبَعْدَ غَدٍ أَموتُ.
قال: فنظرت إلى السنديّ بن شاهك يضطرب ويرتعد مثل السعفة».
قال الطبرسي في (إعلام الورى): «ولمّا استُشهد صلوات الله عليه أدخل السنديّ عليه الفقهاء ووجوه الناس من أهل بغداد وفيهم الهيثم بن عديّ، فنظروا إليه لا أثرَ به من جراح ولا خنق، ثمّ وضعه على الجسر ببغداد، وأمر يحيى بن خالد فنُودي: هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت، قد مات فانظروا إليه، فجعل الناس يتفرّسون في وجهه وهو ميت...».
وفي (كمال الدين) للشيخ الصدوق: «توفّي موسى بن جعفر عليهما السلام في يد السنديّ بن شاهك فحُمل على نعش ونُودي عليه: هذا إمام الرافضة فاعرفوه!».
ثمّ دفن الإمام عليه السلام في مكانه المعروف اليوم، بمدينة الكاظمية، التي سُمّيت بهذا الاسم تبركاً بلقبه الشريف، والتي كانت تُعرف قديماً بمقبرة قريش. ومرقده الآن مزارٌ شريف يقصده المؤمنون من أنحاء الأرض، وبابٌ منه يَرِدُ المذنبون طلباً للمغفرة، ويدخل المستغيثون بالله طلباً لقضاء الحاجة، لعلمهم أنّ الحاجة لا تُردّ عند باب موسى الكاظم عليه السلام.
الإمام الكاظم عليه السلام في عقيدة العلماء المسلمين
... وفيكم قَد عَرفْنا التّكوينَ والإيجادا
_____ إعداد: «شعائر» _____
بالرغم من الظّلم الكبير الذي ألحقه الحكّام العبّاسيّون بالإمام أبي الحسن الكاظم عليه السلام، وسجنهم إيّاه مدّة طويلة حتّى استشهاده، فإنّ ذلك لم يَحُلْ دون معرفة جمهور المسلمين بفضل الإمام وخصاله الباهرة. وقد عكست كلمات أعلام العلماء من أهل السنّة في أمّهات كتبهم عقيدتَهم علوَّ شأن الإمام علماً وخُلُقاً وجهاداً، نقتطف منها بعض ما جاء في موسوعة (شرح إحقاق الحقّ) لآية الله السيّد المرعشي النجفي رحمه الله.
* قال العلّامة محمّد بن طلحة الشافعي (ت: 652 هـ) في (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول):
«أبو الحسن موسى بن جعفر الكاظم، هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، المجتهد الجادّ في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهور بالكرامات، يبيتُ الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدّقاً وصائماً، ولفرط حِلمه وتجاوزه عن المعتدين عليه دُعي كاظماً.
كان يجازي المسيء بإحسانه، ويقابل الجاني بعفوه عنه، ولكثرة عبادته كان يُسمّى بالعبد الصالح، ويُعرف في العراق بباب الحوائج إلى الله لنجح مطالب المتوسّلين إلى الله تعالى به، كراماته تحار منها العقول، وتقضي بأنّ له عند الله قدمَ صدقٍ لا تَزِلُّ ولا تزول».
وقال معقّباً على كرامات الإمام عليه السلام، بعد أن روى بعضاً منها: «فهذه الكرامات العالية الأقدار، الخارقة العوائد... لا يُعطاها إلّا مَن فاضت عليه العناية الربّانية وأنوار التأييد... وما يلقّاها إلّا ذو حظّ عظيم».
* وجاء في (تذكرة الخواصّ) (ت: 654 هـ) لسبط ابن الجوزي قوله عن الإمام عليه السلام:
«يلقّب بالكاظم والمأمون والطيّب والسيد، وكنيته أبو الحسن، ويُدعى بالعبد الصالح لعبادته واجتهاده وقيامه بالليل... وكان موسى جواداً حليماً».
* وقال أيضاً في (صفة الصفوة): «كان [الإمام الكاظم عليه السلام] يدعى العبد الصالح لأجل عبادته واجتهاده وقيامه بالليل، وكان كريماً حليماً إذا بلغه عن رجل أنّه يؤذيه بعثَ إليه بمال».
* وقال العلّامة زين الدين الشهير بابن الوردي (ت: 749 هـ) في (ذيل تاريخ أبي الفداء):
«إنّ الكاظم كان إذا صلّى العتمة حمد الله ومجّده ودعاه إلى أن يزول الليل، ثمّ يقوم يصلّي حتّى يطلع الصبح، فيصلّي الصبح، ثمّ يذكر الله حتّى تطلع الشمس، ثمّ يقعد إلى ارتفاع الضحى، ثمّ يرقد ويستيقظ قبل الزوال، ثمّ يتوضّأ ويصلّي حتّى يصلّي العصر، ثمّ يذكر الله حتّى يصلّي المغرب، ثمّ يصلّي ما بين المغرب والعتمة، فكان هذا دأبه إلى أن مات..».
* وقال العلامة عبد الله اليافعي (ت: 768 هـ) في (مرآة الجنان):
«السيّد أبو الحسن موسى الكاظم ولد جعفر الصادق، كان صالحاً عابداً جواداً حليماً كبير القدر، وهو أحد الأئمّة الاثني عشر المعصومين في اعتقاد الإماميّة، وكان يُدعى بالعبد الصالح من عبادته واجتهاده، وكان سخيّاً كريماً..». ثمّ ينقل قصّة الإمام مع الرجل العُمَري الذي رجع عن عداوته لأهل البيت عليهم السلام، ببركة خُلُق الإمام العظيم معه.
* وقال العلّامة ابن الصبّاغ المالكي (ت: 855 هـ) في (الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة):
«وكان موسى الكاظم أعبدَ أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم كفّاً وأكرمهم نفساً، وكان يتفقّد فقراء المدينة ويحمل إليهم الدراهم والدنانير إلى بيوتهم والنفقات ولا يعلمون من أيّ جهة وصلهم ذلك، ولم يعلموا بذلك إلّا بعد موته، وكان كثيراً ما يدعو: اللَّهُمَّ إِنّي أَسْأَلُكَ الرّاحَةَ عِنْدَ المَوْتِ، وَالعَفْوَ عِنْدَ الحِسابِ».
* وقال ابن حجر الهيتمي (ت: 974 هـ) في (الصواعق المحرقة):
«موسى الكاظم، وهو وارثه [أي جعفر بن محمّد عليهما السلام] علماً ومعرفة وكمالاً وفضلاً، سُمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم».
* ويروي بعض هؤلاء العلماء ما يتعلّق بكراماته عليه السّلام في مرقده الشّريف، فقد روى الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الشافعي «الخطيب البغدادي» (ت: 463 هـ) في (تاريخ بغداد) يقول: «..(عن) الحسن بن إبراهيم أبي عليٍّ الخلّال، قال: ما همّني أمر فقصدتُ قبر موسى بن جعفر فتوسّلت به إلّا سهّل الله تعالى لي ما أحبّ».
* ومن الأعلام المسلمين السنّة مَن مدح الإمام الكاظم عليه السلام مُعبّراً عن عقيدته وولائه شعراً:
ومن هؤلاء السيّد عبد الغفّار بن عبد الواحد بن وهب الموصلي البغدادي البصري، المتوفّى سنة 1291 للهجرة، في (ديوان الأخرس)، الذي وفد إلى المرقد المطهّر حاملاً هدية أحد السلاطين، وهي ستائر كانت على الضريح النبويّ الشريف، لتوضع على ضريح الإمام، فقال مادحاً ومتوسّلاً من ضمن قصيدة طويلة:
يا إمامَ الهُدى ويا صَفْوَةَ اللهِ |
ويا مَنْ هَدى هُداهُ العِبادا |
يا ابْنَ بِنْتِ الرَّسولِ يا ابْنَ عَلِيٍّ |
حَيِّ هَذا النّادي وَهَذا المُنادى |
قَدْ أَتَيْنا بِثَوْبِ جَدِّكَ نَسْعى |
وَأَتْيناكَ سَيِّدي وِفادا |
فَأَتْيناكَ راجِلينَ احْتِراماً |
وَاحْتِشاماً وَهَيْبَةً وَانْقِيادا |
نَتَهادى بِهِ إِلَيْكَ جَميعاً |
وَبِهِ كانَتِ المَطايا تَهادى |
رامياتٍ سَهْمَ النَّوى عَنْ قِسِيٍّ |
قاطِعاتٍ دَكادِكاً وَوِهادا |
طالباتٍ (موسى بنَ جعفرٍ) فيه |
وَكَذا القُدْوَةَ (الإمام الجوادا) |
مِنْ نَبِيٍّ قَدْ شَرَّفَ العَرْشَ لَمّا |
أَنْ تَرَقّى بِاللهِ سَبْعاً شِدادا |
شَرَفٌ في ثِيابِ قَبْرِ نَبِيٍّ |
عَطَّرَتْ فِي وُرودِهَا بَغْدَادَا |
أَنْتُمْ عِلَّةُ الوُجودِ وَفيكُمْ |
قَدْ عَرَفْنا التَّكْوينَ وَالإِيجادا |
(كاظِمُ الغَيْظِ) سالِمُ الصَّدْرِ عافٍ |
وَما هَوَى قَطّ صَدْرُهُ الأَحقادا |
قَدْ وَقَفْنا لَدى عُلاكَ وَأَلْقَيْنا |
إِلى بابِكَ الرَّفيعِ القِيادا |
مَعَ أَنَّ الذُّنوبَ قَدْ أَوْثَقَتْنا |
نَرْتَجي الوَعْدَ نَخْتَشي الإِيعادا |
أَيُّها الطاهِرُ الزَّكِيُّ أَغِثْنا |
وَأَنِلْنا الإِسْعافَ وَالإِسْعادا |
* ونختم بما قاله العلّامة يوسف بن إسماعيل النبهاني (ت: 1350 هـ) في (جامع كرامات الأولياء):
«موسى الكاظم، أحد أعيان أكابر الأئمّة، من ساداتنا آل البيت الكرام، هُداة الإسلام رضي الله عنهم أجمعين، ونفعنا ببركاتهم، وأماتنا على حبّهم وحبّ جدّهم الأعظم صلّى الله عليه [وآله] وسلّم».
علم الإمام الكاظم عليه السلام وعبادته
_____ إعداد: «أسرة التحرير» _____
تشكّل مظاهر عبادة الإمام الكاظم عليه السلام لوحةً محتشدةً بصور الخضوع لله تعالى، والخشوع بين يديه عزّ وجلّ، والصلاة الدائمة، والذِّكر الكثير، لدرجة جعلت قلوب القساة من سجّانيه ترقّ له وتمتلئ من هيبته، سلام الله تعالى عليه.
كما رُويت عنه وقائع كثيرة من مناظرات ومواقف أظهرت جانباً من علمه اللّدُنّي، حتّى لقّبه والده الإمام الصادق عليه السلام بـ«مودَع الأسرار».
يسلّط هذا المقال الضوء على نماذج من عبادة الإمام عليه السلام، والمعالم العامّة للمعارف والعلوم التي عمل صلوات الله عليه، لنشرها في أوساط المسلمين.
فيما كان العالم الإسلامي منشغلاً بصراعات سياسية بين الأمويّين والعباسيّين، آلت فيما بعد إلى زوال حكم البيت الأمويّ وقيام الدولة العباسية، عمد الإمام الصادق عليه السلام إلى بناء صرح جامعة علميّة كبرى خرّجت أربعة آلاف من الرواة، كلٌّ يقول: «حدّثني جعفر بن محمّد». وكانت هذه الحاضنة العلمية، بحقّ وباعتراف المؤرّخين، الصرح الفكريّ الذي أحيا تعاليم القرآن الكريم وسنّة رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومن أقطاب مَن تتلمذ فيها بعضٌ من أئمّة المذاهب الأربعة السائدة إلى يومنا هذا.
ولم تقتصر الدروس فيها على العلوم الشرعية من فقه وتفسير وحديث فحسب، بل تجاوزتها إلى علوم طبيعية نسمّيها اليوم الكيمياء، والفيزياء، والأحياء، وغيرها. واصل الإمام الصادق عليه السلام قيادة مدرسته حتّى نهاية حياته الشريفة، ثمّ آلت القيادة إلى ولده الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام، فتابع إلقاء الدروس ونشر الفكر النبويّ على تلامذته، وقد عدّ الشيخ باقر شريف القرشي في كتابه (حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام) أكثر من ثلاثمائة طالب أخذ عنه العلم.
وقد شهد الإمام الصادق عليه السلام بوفرة عِلم ولده الكاظم عليه السلام، فقد قال لأحد أصحابه: «إِنَّ ابْنِي هَذا - وأشار إلى الإمام الكاظم - لَوْ سَأَلْتَهُ عَمَّا بَيْنَ دَفَّتَي المُصْحَفِ لَأَجَابَكَ فِيهِ بِعِلْمٍ».
وقال في فضله: «وَعِنْدهُ عِلْمُ الحِكْمَةِ، وَالفَهْمُ، والسَّخَاءُ، والمَعْرِفَةُ بِمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِم..».
ولمّا أجاب الكاظم عليه السلام عن بعض أسئلة أبي حنيفة، ضمّه الإمام الصادق عليه السلام إلى صدره، وقال: «بِأَبي أنتَ وأُمِّي يا مُودَعَ الأَسرار».
وقال الشيخ المفيد في (الإرشاد): «وقد روى الناس عن أبي الحسن فأكثروا، وكان أفقه أهل زمانه..».
وروى في (مهج الدعوات) عن بعض أهل العلم، أنّه قال: «كان جماعةٌ من خاصّة أبي الحسن عليه السلام، من أهل بيته وشيعته، يحضرون مجلسه ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس لطاف وأميال [جمع ميل: وهو القلم]، فإذا نطق أبو الحسن عليه السلام بكلمة أو أفتى في نازلة، أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك».
وكان العصر العباسيّ الذي عاش فيه الإمام الكاظم عليه السلام، عصر اختلاط الثقافات والأمم؛ إذ أتى كلّ قومٍ بعاداتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، وكانت كلّها بحاجة إلى تنقية ما شابها من أضاليل وانحرافات، فعمد الإمام الكاظم عليه السلام إلى التركيز على أهميّة العقل؛ ومن ذلك وصيّته المعروفة لهشام بن الحكم (توفّي نحو 190 للهجرة) حول منزلة العقل في القرآن الكريم.
ورويت عنه عليه السلام مناظرات عديدة مع الفقهاء، والمتكلّمين، وروؤساء الأديان، وحكّام عصره، لا سيما مع هارون العباسي، تُظهر جميعها علمه الربانيّ والنبويّ. وكان بعض فقهاء السلطة كأبي يوسف ومحمد بن الحسن يزورونه في السجن يستفتونه، فضلاً عن إجاباته عليه السلام على أسئلة كانت ترد إليه خفاءً وهو في السجن، كأسئلة محمّد بن أبي عمير، وعليّ بن سويد.
حليف السجدة الطويلة
كان الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أعبدَ أهل زمانه، وأفقهَهم، وأسخاهم كفّاً، وأكرمهم نفساً. وروي أنّه كان يصلّي نوافل الليل ويصِلُها بصلاة الصبح، ثمّ يعقّب حتّى تطلع الشمس، ويخرّ لله ساجداً، فلا يرفع رأسه من السجود والتحميد حتّى يقرب زوال الشمس، وكان يدعو كثيراً فيقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الرَّاحَةَ عِنْدَ المَوْتِ، وَالعَفْوَ عِنْدَ الحِسَابِ»، ويكرّر ذلك.
وكان أحفظَ أهل زمانه لكتاب الله عزّ وجلّ، وأحسنهم صوتاً بالقرآن، وكان إذا قرأه يحزن ويبكي السامعون بتلاوته، وكان الناس بالمدينة يسمّونه زينَ المجتهدين، وكان يقول: «إِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ فِي كُلِّ يَوْمٍ خَمْسَةَ آلَاف مَرَّة».
وروى الصدوق أنّه كانت لأبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام - بضع عشرة سنة - كلّ يوم سجدةٌ بعد ابيضاض الشمس إلى وقت الزوال، قال: فكان هارون ربّما صعد سطحاً يُشرف منه على الحبس الذي حَبس فيه أبا الحسن عليه السلام، فكان يرى أبا الحسن عليه السلام ساجداً، فقال للربيع [حاجب هارون]: يا ربيع، ما ذاك الثوب الذي أراه كلّ يوم في ذلك الموضع؟!
قال: ما ذاك بثوب، وإنّما هو موسى بن جعفر، له كلّ يوم سجدة بعد طلوع الشمس إلى وقت الزوال. قال الربيع: فقال لي هارون: أما إنّ هذا من رهبان بني هاشم.
قلت: فما لك فقد ضيّقتَ عليه في الحبس؟!
قال: هيهات لا بدّ من ذلك!
وفي حديثٍ طويل عن المأمون يصف فيه الإمام الكاظم عليه السلام، ويذكر وروده على أبيه هارون بالمدينة، يقول: إذ دخل شيخٌ مُسَخَّد [مصفرّ الوجه] قد أنهكته العبادة، قد كلَم السجود وجهه وأنفه.
وبالجملة كان عليه السلام حليف السجدة الطويلة والدموع الغزيرة. وحُكي إنّه توفّي صلوات الله عليه في حال السجود لله تعالى.
وروي أنّ هارون أنفذ إلى موسى بن جعفر عليهما السلام، جارية حصيفة لها جمال ووضاءة لتخدمه في السجن، وأنفذ الخادم إليه ليستفحص عن حالها، فرآها ساجدة لربّها لا ترفع رأسها، تقول: «قُدُّوسٌ قُدُّوس، سُبْحَانَكَ سُبْحَانَكَ»، فأتى بها وهي ترعد شاخصةً إلى السماء بصرَها، وأقبلت في الصلاة، فإذا قيل لها في ذلك، قالت: ««هكذا رأيت العبدَ الصالح». فما زالت كذلك حتّى ماتت.
ولقد اقتدى به عليه السلام في عبادته جماعةٌ ممّن لقيه ورآه، منهم: محمّد بن أبي عمير، الثقة الجليل الأوّاه. وأجمع الرواة على أنّ الإمام الكاظم عليه السلام، كان أعظمَ الناس طاعةً لله، وأكثرهم عبادة له تعالى، دأْبُه في ذلك دأْبُ جدّه الإمام السجّاد صلوات الله عليهم أجمعين.
0
أيـــــــــــــــــــــــــن الرَّجبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــون؟ يستحب في شهر رجب قراءة سورة التوحيد عشرة آلا مرة..
يدعوكم المركز الإسلامي- حسينية الصديقة الكبرى عليها السلام للمشاركة في مجالس ليالي شهر رمضان لعام 1433 هجرية. تبدأ المجالس الساعة التاسعة والنصف مساء ولمدة ساعة ونصف. وفي ليالي الإحياء يستمر المجلس إلى قريب الفجر. نلتمس دعوات المؤمنين.