﴿سَلَامٌ
عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾
قصّته كما وردت في القرآن الكريم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العلّامة السيد محمّد حسين الطباطبائي رحمه الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أوّل أولي العزم
سادة الأنبياء، أرسله الله تعالى إلى عامّة البشر بكتابٍ وشريعة، فكتابه أوّل
الكتب السماوية المشتملة على شرائع الله، وشريعته أوّل الشرائع الإلهية.
* هو الأب الثاني للنسل الحاضر من الإنسان،
إليه ينتهي أنسابهم والجميع ذرّيته، لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ
الْبَاقِينَ﴾ الصافات:77، وهو عليه السلام أبو الأنبياء المذكورين في القرآن ما
عدا آدم وإدريس عليهما السلام.
* كلّم الناس بمنطق
العقل وطريق الاحتجاج مضافاً إلى طريق الوحي، فهو الأصل الذي ينتهي إليه دين
التوحيد في العالم، فله المنّة على جميع الموحّدين إلى يوم القيامة، ولذلك خصّه
الله تعالى بسلامٍ عامٍّ لم يشاركه فيه أحد غيره، فقال عزّ مِن قائل: ﴿سَلَامٌ عَلَى
نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ﴾ الصافات:79.
* اصطفاه الله تعالى
على العالمين، وعدّه من المحسنين، وسمّاه عبداً شكوراً، وعدّه من عباده المؤمنين،
وسمّاه عبداً صالحاً.
ما تقدّم خلاصة سطّرها
العلامة الطباطبائي في تفسيره «الميزان»، حيث أفرد في الجزء العاشر منه بحثاً
موسّعاً عن نبي الله نوح عليه السلام، منه كانت هذه المقالة من «قصص الانبياء».
«شعائر»
|
ذُكر
اسم النبيّ نوح عليه السلام في القرآن في بضع وأربعين موضعاً يشار فيها إلى شيء من
قصّته إجمالاً أو تفصيلاً، ولم تستَوفَ قصّته عليه السلام في شيء منها استيفاء على
نهج الاقتصاص التاريخي بذكر نسَبه، وبيته،
ومولده، ومسكنه، ونشوئه، وشغله، وعمره، ووفاته، ومدفنه، وسائر ما يتعلّق بحياته
الشخصية، لما أنّ القرآن لم ينزل كتاب تاريخ يقتصّ تواريخ الناس من بَرٍّ أو فاجر،
وإنّما هو كتاب هداية يصف للناس ما فيه سعادتهم، ويبيّن لهم الحقّ الصريح ليأخذوا
به فيفوزوا في حياتهم الدنيا والآخرة "..".
وقد
فُصّلت قصّة نوح عليه السلام في ستّ من السور القرآنية وهي: سورة (الأعراف)، وسورة
(هود)، وسورة (المؤمنون)، وسورة (الشعراء)، وسورة (القمر)، وسورة (نوح)، وأكثرها
تفصيلاً سورة (هود) التي ذكرت قصته عليه السلام فيها في خمس وعشرين آية.
بعثه
وإرساله
كان
الناس بعد آدم عليه السلام يعيشون أمّة واحدة على بساطة وسذاجة، وهم على الفطرة
الإنسانية، حتى فشا فيهم روح الاستكبار، وآلَ إلى استعلاء البعض على البعض تدريجياً،
واتّخاذ بعضهم بعضاً أرباباً، وهذه هي النواة الأصلية التي لو نشأت واخضرّت وأينعت
لم تُثمر إلّا دين الوثنية والاختلاف الشديد بين الطبقات الاجتماعية، باستخدام
القويّ للضعيف، واسترقاق العزيز واستدراره للذليل، وحدوث المنازعات والمشاجرات بين
الناس.
فشاع
في زمن نوح عليه السلام الفسادُ في الأرض، وأعرض الناس عن دين التوحيد وعن سنّة
العدل الاجتماعي، وأقبلوا على عبادة الأصنام، وقد سمّى الله سبحانه منها وَدّاً،
وسُواعاً، ويَغوثَ، ويَعوق، ونَسراً.
وتباعدت
الطبقات، فصار الأقوياء بالأموال والأولاد يضيعون حقوق الضعفاء، والجبابرة يستضعفون
مَن دونهم، ويحكمون عليهم بما تهواه أنفسهم.
فبعث
الله نوحاً عليه السلام وأرسله إليهم بالكتاب والشريعة يدعوهم إلى توحيد الله
سبحانه وخلع الأنداد والمساواة فيما بينهم بالتبشير والإنذار.
كان
عليه السلام يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه، ورفض الشركاء، والإسلام لله، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، والصلاة، والمساواة، والعدالة، وأن لا يقربوا الفواحش والمنكرات،
وصدق الحديث، والوفاء بالعهد. وهو عليه السلام
أوّل من حُكي عنه في القرآن التسمية باسم الله في الأمور الهامّة [كما حكى عنه
القرآن الكريم عند ركوبه السفينة: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا
وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ هود:41].
وكان
عليه السلام يدعو قومه إلى الإيمان بالله وآياته، ويبذل في ذلك غاية وسعه، فيندبهم
إلى الحقّ ليلاً ونهاراً، وإعلاناً وإسراراً، فلا يجيبونه إلّا بالعناد والاستكبار،
وكلّما زاد في دعائهم زادوا في عتوّهم وكفرهم، ولم يؤمن به غيرُ أهله وعدّة قليلة
من غيرهم، حتّى أيس من إيمانهم وشكا ذلك إلى ربّه وطلب منه النصر، فأوحى إليه أنّه
لن يؤمن من قومه إلّا من قد آمن، فدعا عليهم
بالتَّبَار والهلاك، وأن يطهّر الله الأرض منهم عن
آخرهم، فأوحى الله إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا، فأخذ في صُنعها، وكان القوم
يمرّون عليه طائفة بعد طائفة فيسخرون منه وهو يصنعها على بسيط الأرض من غير ماء، ويقول
عليه السلام: ﴿..إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ
* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ
مُقِيمٌ﴾ هود:38-39، وقد نصب الله لنزول العذاب علماً وهو أن يفور الماء من التنّور.
نزول
العذاب ومجيء الطوفان
حتى
إذا تمّت صنعة الفلك وجاء أمر الله وفار التنّور أوحى الله تعالى إليه أن يحمل في
السفينة مِن كلٍّ من الحيوان زوجين اثنين، وأن يحمل أهله إلّا من سبق عليه القول
الإلهي بالغرق -وهو امرأته الخائنة وابنه الذي تخلّف عن ركوب السفينة- وأن يحمل
الذين آمنوا، فلمّا حملهم وركبوا جميعاً فتح الله أبواب السماء بماء منهمر، وفجّر
الأرض عيوناً ﴿..فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ﴾ القمر:12، وعلا الماء،
وارتفعت السفينة عليه وهي تسير في موج كالجبال، فأخذ الناسَ الطوفانُ وهم ظالمون،
وقد أمره الله تعالى إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يحمد الله على ما نجّاه من
القوم الظالمين، وأن يسأله البركة في نزوله فيقول: ﴿..الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا
مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ المؤمنون:28، ويقول: ﴿..رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا
مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ المؤمنون:29.
فلمّا
عمّ الطوفان وأُغرق الناس أمر الله الأرض أن تبلع ماءها والسماء أن تقلع، وغيض
الماء، واستوت السفينة على جبل الجودي، ﴿..وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾
هود:44، وأوحي إلى نوح عليه السلام أن اهبط إلى الأرض ﴿.. بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ
عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ..﴾ هود:48، فلا يأخذهم بعد هذا طوفان عامّ،
ومنهم أمم سيمتّعهم الله بأمتعة الحياة ثمّ يمسّهم عذاب أليم، فخرج هو ومن معه
ونزلوا الأرض يعبدون الله بالتوحيد والإسلام، وتوارثت ذرّيته عليه السلام الأرض،
وجعل الله ذرّيته هم الباقين.
غرق
ابن نوح عليه السلام
عندما
ركب نوح السفينة لم يركبها واحدٌ من أبنائه، وكان لا يصدّق أباه في أنّ مَن تخلّف
عنها فهو غريق لا محالة، فرآه أبوه وهو في معزل فناداه: ﴿..يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا
وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ﴾ هود:42، فردّ على أبيه قائلاً: ﴿..سَآَوِي إِلَى
جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ..﴾ هود:43، قال نوح عليه السلام: ﴿..لَا عَاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ..﴾ هود:43، - يريد أهل السفينة –
فلم يلتفت الابن إلى قوله ﴿..وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
هود:43.
ولم
يكن نوح عليه السلام يعلم منه إبطان الكفر كما كان يعلم ذلك من امرأته، ولو كان علِم
ذلك لم يحزنه أمره وهو القائل في دعائه: ﴿..رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا
إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ نوح:26-27، وقد سمع قوله تعالى فيما أوحى إليه: ﴿..وَلَا
تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ هود:37. فوجد نوح
عليه السلام وحزن، فنادى ربّه من وَجْده قائلاً: ﴿..رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي
وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ..﴾ هود:45، وعدتني بإنجاء أهلي وأنت أحكم الحاكمين، لا
تجور في حكمك، ولا تجهل في قضائك، فما الذي جرى على ابني؟
فأخذته
العناية الإلهية وحالت بينه وبين أن يصرّح بالسؤال في نجاة ابنه - وهو سؤالٌ لما
ليس له به علم - وأوحى الله إليه: ﴿..يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ..﴾ هود:46، فإيّاك أن تواجهني فيه بسؤال النجاة
فيكون سؤالاً فيما ليس لك به علم. فانكشف الأمر لنوح عليه السلام والتجأ إلى ربه
تعالى قائلاً: ﴿..رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ..﴾
هود:47، أسألك أن تشملني بعنايتك وتستر عليّ بمغفرتك، وتعطف عليّ برحمتك، ولولا
ذلك لكنت من الخاسرين.
عمره
عليه السلام الطويل
القرآن
الكريم يدلّ على أنّه عليه السلام عمّر طويلاً، وأنّه دعا قومه ألف سنة إلّا خمسين
عاماً يدعوهم إلى الله سبحانه، وقد استبعده بعض الباحثين لما أنّ الأعمار
الإنسانية لا تتجاوز في الأغلب المائة أو المائة والعشرين سنة، حتى ذكر بعضهم أنّ القدماء
كانوا يعدّون كلّ شهر من الشهور سنة، فالألف سنة إلّا خمسين عاما يعدل ثمانين سنة
إلّا عشرة شهور. وهو بعيدٌ غايته.
وذكر
بعضهم أنّ طول عمره عليه السلام كان كرامة له خارقة للعادة، قال الثعلبيّ في (قصص
الأنبياء) في خصائصه عليه السلام: «وكان أطول الأنبياء عمراً وقيل له: أكبر
الأنبياء وشيخ المرسلين، وجعل معجزته في نفسه لأنّه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سنّ
ولم تنقص له قوة».
والحقّ
أنه لم يقُم حتى الآن دليل على امتناع أن يعمّر الإنسان مثل هذه الأعمار، بل
الأقرب في الاعتبار أن يعمّر البشر الأوّلي بأزيد من الأعمار الطبيعية اليوم بكثير،
لما كان لهم من بساطة العيش وقلّة الهموم وقلّة الأمراض المسلّطة علينا اليوم،
وغير ذلك من الأسباب الهادمة للحياة.
في
روايات أهل البيت عليهم السلام
*
الإمام الباقر عليه السلام: «كانت شريعة نوح عليه السلام أن يعبد الله بالتوحيد
والإخلاص وخلع الأنداد وهي الفطرة التي فطر الناس عليها، وأخذ ميثاقه على نوح عليه
السلام والنبيّين أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأمره بالصلاة والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر والحرام والحلال، ولم يفرض عليه أحكام حدود ولا فرض مواريث، فهذه
شريعته..».
* عنه عليه السلام: «إنّ نوحاً عليه السلام لمّا غرس النوى مرّ
عليه قومه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون: قد قعد غرّاساً! حتى إذا طال النخل وكان
جبّاراً طوالاً قطعه ثمّ نحته، فقالوا: قد قعد نجّاراً، ثمّ ألّفه فجعله سفينة فمرّوا
عليه فجعلوا يضحكون ويسخرون ويقولون: قد قعد ملّاحاً في فلاة من الأرض! حتى فرغ
منها».
* الإمام الصادق عليه السلام: «عاش نوح عليه السلام ألفَي سنة وخمسمائة
سنة، منها ثمانمائة وخمسون سنة قبل أن يُبعث، وألف سنة إلّا خمسين عاماً وهو في
قومه يدعوهم، ومائتا سنة في عمل السفينة، وخمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة ونضب
الماء، فمصّر الأمصار وأسكن ولده البلدان. ثمّ إنّ ملَك الموت جاءه وهو في الشمس
فقال: السلام عليك، فردّ عليه نوح وقال له: ما جاء بك يا ملك الموت؟ فقال: جئتُ
لأقبض روحك، فقال له: تدعني أدخل من الشمس إلى الظلّ؟ فقال له: نعم.
فتحوّل
نوح عليه السلام، ثمّ قال: يا ملَك الموت! فكأنّ ما مرّ بي في الدنيا مثل تحوّلي
من الشمس إلى الظلّ، فامضِ لِما أُمرتَ به، قال: فقبضَ روحه عليه السلام».