وجه
الله الباقي هم عباده المخلَصون
نافذة إلى عالم الموت وما بعده
ـــــــــــــــــــ إعداد: «شعائر» ـــــــــــــــــــ
«معرفة المعاد» عنوان موسوعة من عشرة مجلدات لآية الله السيد
محمّد الحسين الحسيني الطهراني. وهي في الأصل محاضرات ألقيت في أيّام وليالي رمضان
من عامي 1396 و1399 هجرية. وقد تضمّنت تلك المجالس بحوثاً في «عالم
الصورة والبرزخ، وكيفيّة ارتباط الأرواح هناك مع هذا العالَم، وكيفيّة خِلقة
الملائكة ووظائفهم، والنفخ في الصور وموت جميع الموجودات ثمّ إحياؤها،
وقيام الإنسان في ساحة الحضرة الأحديّة، وعالم الحشر والنشور، والحساب
والكتاب ".." وذلك بالاستفادة من الآيات القرآنيّة وأخبار
المعصومين، ومن الأدلّة العقليّة والفلسفيّة، والمطالب الذوقيّة
والعرفانيّة» على ما جاء في مقدّمة المؤلّف.
ولأهمّية المطالب في هذه السلسة القيّمة، انتخبنا بعضها
في صورة السؤال والجواب استناداً إلى ما ورد المجلّدات الخمس الأولى من الكتاب.
س: الموت
هو أوّل المنازل في عالم الآخرة، كيف يكون بالنسبة لمن لم يستعدّ له؟
ج: سيكون غاية في الصعوبة بالنسبة لهؤلاء
الأفراد الذين عاشوا عمرهم في السعي وراء الأمور الدنيويّة؛ من المال، والجاه،
والاعتبار، ولم يدّخروا وسعاً من أجل ترسيخ مكانتهم ووجودهم في قلوب الناس
فحسب، وتحمّلوا المحن والمشاكل من أجل أولادهم حتّى جمعوا ثروة من المال
صارت مورد اعتمادهم ومحطّ آمالهم، لقد قضى هؤلاء جميع مراحل عمرهم للحصول
علی مثل هذه الاُمور، لذا فإنّ المحبّة والتعلّق بكلّ واحد من هذه الأشياء
سينشأ لديهم قهراً، فيصبح كلّاً منها قيداً يقيّد قلوبهم ورغباتهم ويشدّها إليه.
وها هو أحدهم يريد الرحيل عن هذه الدنيا، فيرى قلبه موثقاً بالآف السلاسل والقيود
تشدّه من كلّ صوب وحدب إلی هذه الأمور، فهو حائر مدهوش، ومفلس خسران، يريد
الهجرة مع الخسارة، والندم والحسرة التي تغمر كيانه وتتقاطر من وجوده، وقد
نودي بالرحيل فلا وقت للتأخير ولا لتدارك الأمر وتلافيه.
إنّ المذنب المسيء
أشبه بورود الغلام الآبق الفارّ علی مولاه حين يُعتقل ويؤتى به، فأيّ حال
سيتملّك ذلك الغلام المتمّرد المتجرّي الذي يرى نفسه تحت براثن غضب
المولى وسخطه الذي لا حدود له؟ تلك الحال شبيهة بحال المسيء الذي تخطّى
ساحة العبوديّة للخالق العزيز، وتجاسر وتعدّى علی حقوقه وحقوق مخلوقاته، وتمرّد
وتهوّر وتظاهر بأكثر ممّا هو فيه من مقام، حين يحضر عند ربّه الرؤوف اللطيف
المنتقم، وستغمره حالة من الخجل والخزي لا نهاية لها، وسيرى نفسه جديراً ومعرّضاً
لأيّ نوع من العذاب والعقاب..
ملك
الموت كالمرآة الصافية
س:
في أيّ صورة يرى المحتضر صورة ملَك الموت الذي يأتي لقبض روحه؟
ج: إنّ ملَك الموت وأعوانه
من الملائكة الآخرين لا يمتلكون ماهيّات مختلفة ليمكنهم إظهار وجودهم في
قالبٍ ما متى عنَّ لهم ذلك، بل إنّهم ـ باعتبارهم موجودات ملكوتيّة ومجرّدة
ـ يكونون كالمرآة الصافية المضيئة، لا تُظهر نفسها بل هي مظهرة لغيرها، لذا
فانّهم حين يصبحون مقابل روح أيّ شخص محتضر فإنّ انعكاس كمالات تلك
الروح أو قبائحها ستظهر في تلك المرآة، وهكذا، فإنّ الشخص سيرى حال نزعه
صورته الملكوتيّة وصفاته وأخلاقه حسنةً كانت أو سيّئة في صورة الملائكة
وجمالهم، فهو يرى في الحقيقة فيهم حُسنَ نفسه الناطقة وجمالَها، أو قبحها ومساوئها.
وباعتبار اختلاف الأفراد
الطيّبين من المؤمنين في الصفات والكمالات، حيث يغلب علی بعضهم حال
العبادة، وعلی البعض حال السخاء والكرم، وعلی البعض العلم والمعرفة، وفي
البعض الإيثار والشجاعة، وفي البعض العطف والرحمة والمودّة، وفي البعض
الآخر الصلابة والحميّة؛ لذا يتباين جمالهم الملكوي ويظهر بأشكال جميلة
مختلفة، وتظهر أحياناً الصورة الملكية بشكل جذّاب يسلب الألباب حين يكون
حبّ اللَه شديداً وطاغياً لديهم. وبناءً علی هذه النظرة فإنّ تشكّل وتصوّر
ملائكة قبض الأرواح سيتباين لهؤلاء، وفي نفس الوقت الذي يتميّز هؤلاء
الملائكة بالجمال، فإنّهم سيتجلّون لهؤلاء المؤمنين من جهة الكيفيّة وجمال
الهيئة بأشكال وصور مختلفة.
وبناءً علی هذا
القياس فإنّ الخبيثين من الكافرين والمنافقين يتفاوتون في الصفات والملكات،
فيغلب علی بعضهم حال الإنكار والجحود، وعلی البعض حال العناد والقتال، وعلی
البعض حال البخل والإمساك، وعلی البعض التحجّر والخشونة، وعلی البعض الجمود
والاستكبار، كما يغلب علی البعض الآخر التفرعن والاستبداد؛ لذا فإنّ أنفسهم
الملكوتيّة متباينة هي الأخرى ومختلفة في أشكال القبح والفظاعة..
صورة
بلا مادّة
س:
كيف هو عالم القبر والذي يعرف بعالم البرزخ؟
ج: هو العالم
الذي يرحل الإنسان عن هذه الدنيا إليه حين يموت، فيُقيم فيه حتّى يُنفخ في
الصُّور، فيُنشر الناسُ من قبورهم آنذاك ويردون في عالم القيامة.
والبرزخ بمعني
الحاجز بين مائين أو أرضين أو بين شيئين آخرين؛ ولأنّ العالم الذي يمكثُ
فيه الإنسان بعد موته يمثّل الحاجز والفاصل بين عالم الدنيا والقيامة،
فإنـّهم لذلك يدعونه بعالم البرزخ.
إنّ الموجودات التي
في عالم البرزخ لا مادّة لها، إلّا أنـّها تمتلك شكلاً وصورة وحدّاً وكمّاً وكيفاً
وأعراضاً فعليّة، أي أنّ لها أبعاداً وحدوداً ولوناً ورائحة.
وعليه، فإنّ
صور الأشخاص البرزخيّين ذات لونٍ وحدّ، كما أنّ هناك فرحاً ومسرّةً وغضباً وقلقاً،
وهناك نور أيضاً. لذا فإنّ هذه الموجودات البرزخيّة تمتلك صوراً جسميّة إلاّ
أنـّها بدون هيولي وبدون مادّة.
كذلك فإنّ عالم
البرزخ يُدعى بعالم الخيال، ويعني الخيال العالَم الذي تتواجد فيه الصور
المحضة، والعالم الخالي من المادّة، مع أنّ الصور الموجودة هناك أقوى
بمراتب من موجودات عالم المادّة وأعظم وأسرع حركة، وأكثر إحساساً بالحزن والغمّ
وبالمسرّة واللذّة، وذلك لأنّ المادّة تمثّل حاجباً يحجب الكثير من هذه
الخصائص. ولأنّ عالم البرزخ مطلق من المادّة، فإنّ هذه المعاني موجودة
هناك علی نحو الوفرة.
افتحْ عينيك
وانظر
س: هل يحضر النبيّ صلّى
الله عليه وآله وسلّم وأهل البيت عليهم السلام عند المحتضر المؤمن؟
ج: ورد في مفاد
روايات كثيرة أنّ الأستار تُزاح من أمام عين المؤمن أثناء سكرات الموت،
فتحضر أمامه الأرواح المقدّسة لرسول الله وأمير المؤمنين والصدّيقة الكبرى
والحسنين وسائر الأئمّة عليهم السلام بصورهم المثاليّة والبرزخيّة، فيقولون
له: نحن رفقاؤك، فتعالَ نذهب معاً لنسكن الجنان ولنعيش سويّاً في جميع
الأحوال متصاحبين متجالسين في قصر واحد في مقام الأمن، مشغولين بالتطلّع
إلی بعضنا في الجلوات الإلهيّة علی سُرُرٍ مُّتَقابِلِينَ.
وقد وَرَدتْ في
المجلّد الثالث من كتاب (بحار الأنوار) للمرحوم المجلسيّ رضوان الله عليه ـ
وهو في باب العدل والمعاد حيث خصّص نصفه لبحث هذه الموضوعات، مئات
الروايات المنقولة عن (الكافي) و(من لا يحضره الفقيه)، و(الأمالي) للشيخ
المفيد، و(الأمالي) للشيخ الصدوق، و(الأمالي) للشيخ الطوسيّ ".." وغيرها،
في أنّ المؤمن يتشرّف عند موته بلقاء أئمّته الذين يأخذونه معهم إلی
الجنّة.
من ذلك ما يرويه
المرحوم الكلينيّ في كتاب (فروع الكافي) بأسناده عن سدير الصيرفيّ قال: «قُلتُ
لأبي عبدِالله عليه السلامُ: جُعلتُ فداكَ يا ابنَ رسولِ الله! هلْ يُكْرَهُ
المؤمنُ علی قبض رُوحه؟ قال: لا واللَهِ! إنّه إذا أَتاهُ مَلَكُ الموتِ
لقبضِ روحهِ جزعَ عند ذلك، فيقولُ له ملكُ الموتِ: يا وليّ اللَهِ لا تجزعْ،
فوالذي بعثَ محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم لَأنا أَبَرُّ بِكَ وَأَشفقُ
عليكَ من والدٍ رحيم لَو حضرك. افتحْ عينيك وانظر!
قال: ويُمثَّلُ
له رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمير المؤمنين وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ
والأئمّةُ من ذرّيّتهم عليهم السلام، فيقول له: هذا رسولُ الله وأمير المؤمنين
وفاطمةُ والحسنُ والحسينُ والائمّةُ عليهم السلام رفقاؤكَ. قالَ: فيفتح عينَه
فينظر فينادي روحَه منادٍ من ربِّ العزّةِ فيقول: يَـا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ (إلَى مُحَمَّدٍ وأَهْلِ بَيْتِهِ) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ
رَاضِيَةً (بِالوِلاَيَةِ) مَّرْضِيَّةً (بِالثَّوابِ) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي
(يَعْني مُحَمَّداً وَأَهْلَ بَيْتِهِ) وَادْخُلِي جَنَّتِي. فَمَا شَيءٌ
أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ اسْتَلاَلِ رِوحِهِ وَاللُّحُوقِ بِالْمُنَادِي».
في
صورة طائر
س:
هل يتمكّن الأموات من معرفة ما يجري في عالم الدنيا؟
ج: إنّ أرواح المؤمنين تزور أهليها
وتلتقي معهم، وتطّلع علی أحوالهم وما يجري علیهم. فقد جاء في (الكافي) للكلينيّ
بسنده إلى الإمام الصادق علیه السلام، قال: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيَزُورُ
أَهْلَهُ فَيِرَى مَا يُحِبُّ وَيُسْتَرُ عَنْهُ مَا يَكْرَهُ، وَإِنَّ
الْكَافِرَ لَيَزُورُ أَهْلَهُ فَيَرَى مَا يَكْرَهُ وَيُسْتَرُ عَنْهُ مَا
يُحِبُّ».
وفي رواية أخرى عنه علیه
السلام قال: «مَا مِنْ مُؤْمِنٍ وَلاَ كَافِرٍ إِلاَّ وَهُو يَأْتِي
أَهْلَهُ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، فَإِذَا رَأَى أَهْلَهُ يَعْمَلُونَ
بِالصَّالِحَاتِ حَمِدَ اللَهَ علی ذَلِكَ، وَإِذَا رَأَى الْكَافِرُ أَهْلَهُ
يَعْمَلُونَ بِالصَّالِحَاتِ كَانَتْ عليهِ حَسْرَةً».
كذلك يروي الكليني
بسنده عن إسحاق بن عمّار، عن الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر علیهما السلام،
قال: «سَأَلْتُهُ عَنِ الْمَيِّتِ يَزُورُ أَهْلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقُلْتُ:
فِي كَمْ يَزُورُ؟ قَالَ: فِي الْجُمْعَةِ وَفِي الشَّهْرِ وَفِي السَّنَةِ
علی قَدْرِ مَنْزِلَتِهِ. فَقُلْتُ: فِي أَيّ صُورَةٍ يَأْتِيهِمْ؟ قَالَ: فِي
صُورَةِ طَائِرٍ لَطِيفٍ يَسْقُطُ علی جُدُرِهِمْ وَيشرِفُ علیهِمْ؛ فَإنْ
رَآهُمْ بِخَيرٍ فَرِحَ، وَإِنْ رَآهُمْ بِشَرٍّ وَحَاجَةٍ وَحُزْنٍ اغْتَمَّ».
س: هل يستفيد الموتى
من زيارة الأحياء لهم؟
ج: بالطبع، لقد
صرّحت الروايات بذلك، منها ما رواه الشيخ الطوسيّ في (الأمالي) بسنده
المتّصل عن عبدالله بن سليمان، عن الإمام محمّد الباقر علیه السلام، قَالَ:
«سَأَلْتُهُ عَنْ زِيَاِرَةِ الْقُبُورِ. قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ
الْجُمُعَةِ فَزُرْهُمْ، فَإِنَّهُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي ضِيقٍ وُسِّعَ علیهِ
مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلی طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ يَعْلَمُونَ بِمَنْ
أَتَاهُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ، فَإِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ كَانُوا سُدىً [مهمَلين].
قُلْتُ: فَيَعْلَمُونَ بِمَنْ أَتَاهُمْ فَيَفْرَحُونَ بِهِ؟ قَالَ: نَعَمْ،
وَيَسْتَوحِشُونَ لَهُ إِذَا انْصَرَفَ عَنْهُمْ».
س:
وهل ينتفع الأحياء بهذه الزيارة؟
ج: كذلك، فإنّ لزيارة
أهل القبور فائدة كبيرة للأحياء، وخاصّة زيارة قبور العلماء والشهداء
والمقرّبين لساحة الله عزّ وجلّ. كما أنّ زيارة قبور الأئمّة علیهم السلام
لها حكم الورود في الماء الكرّ الذي ينزّه الزائر ويطهّره من كلّ لوثٍ ودنس،
لأنّ نتيجة الزيارة هي الارتباط مع روح المتوفّى، حيث يستعين الزائر بتلك
الروح ويطلب المساعدة منها. وعلیه، فكلّما كانت روح المتوفّى أطهر وأنزه
وأسمى، كان نصيب الزائر أكثر وأوفر.
وباعتبار أنّ
روح المتوفّى لها ارتباط أوثق وأكثر بقبره، فإنّ زيارة الأرواح عند قبورها
لها أثر أكبر وأعمق، لذا فإنّ المؤمن الزائر يربط نفسه بواسطة نافذة القبر
بروح ذلك المعصوم المقرّب إلی ساحة الله تعالى، ويرتبط ـ بهذه الطريقةـ
مع عالم المعنى والأرواح بكلّ سعته فيفيد منه.
س:
ما المقصود بـ«وجه الله» الذي ذُكر في سورة الرحمن في قوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ الرحمن:27؟
ج: إنّ وجه الله
الباقي الذي لا يطرأ عليه البوار والهلاك هو عبادُ الله المخلَصون. إنّ عباد
الله المخلَصين حين يرحلون عن الدنيا، فإنّهم لا يتوقّفون عند البرزخ،
وليس لهم حشر ولا حضور عند القيامة، ولا تؤثّر شيئاً في أيّ منهم الصيحة
البرزخيّة الاُولى (صوْر الإماتة)، ولا الصيحة الثانية (صور الإحياء)، لأنـّهم
عبروا هذه المراتب والدرجات، ووردوا في عالم أعلى من عالم البرزخ، وعالم
الحشر والنشور، والحساب والكتاب، والعرض والسؤال، وتحقّق وجودهم وسرّهم
بحقيقة وجه الله، حيث لا سبيل هناك للموت والبوار والفناء والعدم.
وبطبيعة الحال
فإنّ هذه المقامات والدرجات خاصّة بالمخلَصين [بفتح اللام] لا المخلِصين [بكسر
اللام]، لأنّ المخلِصين [بالكسر] هم الذين خطوا خطواتهم سالكين في مقام
مجاهدة النفس الأمّارة في طيّ طريق القرب والخلوص والفناء، إلاّ أنّ
وجودهم وسرّهم ـ مع ذلك ـ لم يتمحّض ويخلُص تماماً، ومجاهدتهم لم تنتهِ
بعدُ، فهم لا يزالون في جدال ونزاع ومجاهدة مع النفس الأمّارة، والشخصيّة
الأنانيّة، وفي صفوف ومراحل مختلفة من وادي السير والسلوك هذا.
أمّا المخلَصين [بالفتح]
فقد انتهت مراحل مجاهدتهم ونالوا مقام الطهارة والنزاهة، سواء الطهارة في
مقام الفعل أو في مقام الأخلاق والملكات والصفات، أو في مقام السرّ
والذات. فقد اجتازوا جميع هذه المراحل، ووردوا في حرم الله طاهرين مطهّرين،
ووصلوا إلی مقام الفناء في ذات الحضرة الأحديّة، فلا وجود لهم بعدُ ليُصيبه
صعق الموت وفزعه، ولم يبقَ فيهم أيّ شيء من الإنّيّة ليحتاجوا إلی حساب
وكتاب، فلقد أنهوا حسابهم وكتابهم في الدنيا حين سلكوا بخطوات صادقة ثابتة
طريق لقاء المعبود، ثمّ خطوا بعد الموت الطبيعيّ الدنيويّ في جنّة الخُلد
وجنّة الذات، منعَّمين بنِعم لقاء وشهود جمال وجلال الحضرة الأحديّة.